ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب .
[34] ولقد فتنا سليمان اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه، وسببه أنه [ ص: 25 ] غزا مدينة حصينة في البحر يقال لها: صيدون، فقتل ملكها، وأخذ ابنته جرادة، فاصطفاها لنفسه لحسنها، فعملت تمثال أبيها في بيتها بإذن سليمان لتأنس به، فجعلت هي وجواريها يسجدون له بكرة وعشيا أربعين يوما، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك، وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صديقا، وكان مقربا عند سليمان، فقال: يا نبي الله! كبرت سني، ورق عظمي، ونفد عمرى، ولقد حان مني ذهابه، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، فذكر ما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحلمك في صغرك! وأفضلك في صغرك! وأحكم أمرك في صغرك! وأبعدك من كل ما تكره في صغرك! ثم انصرف، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملأه غيظا، فلما دخل سليمان داره، أرسل إليه، فقال: يا آصف! ذكرت من مضى من أنبياء الله، فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني، جعلت تثني علي بخير [ ص: 26 ] في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهدم التمثال، وعاقب النساء، ثم أتى الخلاء ووضع خاتمه عند امرأته الأمينة، وكان ملكه في خاتمه، وكان لا يمسه إلا وهو طاهر، فأتاها الشيطان صاحب البحر، واسمه صخر، على صورة سليمان، فأعطته الخاتم، فلبسه، وجلس على كرسي سليمان يحكم بين الناس، وعكفت عليه الطير والوحش والإنس والجن، فخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة! خاتمي، قالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، قالت: كذبت، فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه، وهو جالس على سرير ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج، فكان يقول لمن مر به: أنا سليمان بن دواد، فيهزؤون منه، ويحثون التراب في وجهه، فعمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى، باع إحدى سمكتيه بأرغفة، وشوى الأخرى فأكلها، فمكث كذلك أربعين صباحا، عدة ما كان عبد الوثن في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين، ثم استخبر آصف نساء سليمان، فأخبرنه بأمور قبيحة يعتمدها ذلك الشيطان، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم خرج على بني إسرائيل، وأخبرهم بالحال، فاجتمع القراء والعلماء، وأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة [ ص: 27 ] فقرؤوها، فطار من بين أيديهم، وألقى الخاتم في البحر، فابتلعه حوت، فأخذه بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك، حتى إذا كان العشي، أعطاه سمكتيه، فباع إحداهما بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فوجد الخاتم في جوفها، فلبسه، وخر ساجدا شكرا لله تعالى، وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس، وعاد إلى حسنه وبهائه وملكه كحاله الأول، ثم جلس على كرسيه، وطلب صخرا، فجيء به، فجعله في صخرة، وأطبق عليه أخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه، وألقاه في البحر، وكانت فتنته بعد عشرين سنة من ملكه، وملك بعدها عشرين سنة. [ ص: 28 ]
وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا". "إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان:
ولما رد الله على سليمان ملكه وبهاءه، وحامت عليه الطير، وعرف الناس أنه سليمان، قاموا يعتذرون إليه مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا أمر كان لا بد منه.
وأطاع سليمان جميع ملوك الأرض، وحملوا إليه نفائس أموالهم، واستمر على ذلك حتى توفي، وتقدم ذكر وفاته في سورة سبأ، ومحل قبره في سورة البقرة، ومعنى الآية: اختبرنا سليمان بن داود بزوال ملكه.
وألقينا على كرسيه جسدا يعني: العفريت الذي أخذ خاتمه، وجلس على كرسيه، وهو صخر صاحب البحر على أشهر الأقاويل، وسمي جسدا; لأنه قد تمثل في جسد سليمان، وليس به. [ ص: 29 ]
وقد أنكر القاضي عياض -رحمه الله- هذه القصة، وقال: إن معنى فتنا سليمان ابتليناه، وابتلاؤه ما حكي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال أصحاب المعاني: والشق: هو الجسد الذي ألقي على كرسيه حين عرض عليه، وهي عقوبته ومحنته، قال "أنه قال: لأطوفن الليلة على مئة امرأة، أو تسع وتسعين امرأة، كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل" قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله" -رحمه الله-: وإن سئل: لم لم يقل سليمان في القصة المذكورة: إن شاء الله؟ فعنه أجوبة، أسدها ما روي في الحديث الصحيح: أنه نسي أن يقولها، وذلك لينفذ مراد الله، والثاني: أنه لم يسمع صاحبه، وشغل عنه. القاضي عياض
ثم أناب رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما.
* * *