فصل
وقد فسرت بالإقرار ، وفسرت بالتبيين والإظهار ، والصحيح : أنها تتضمن الأمرين ، فشهادتهم إقرار ، وإظهار ، وإعلام ، وهم شهداء الله على الناس يوم القيامة ، قال الله تعالى : شهادة أولي العلم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقال تعالى : هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأخبر : أنه جعلهم عدولا خيارا ، ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم ، لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة ، فمن لم يقم بهذه الشهادة - علما وعملا ، ومعرفة وإقرارا ، ودعوة وتعليما ، وإرشادا - فليس من شهداء الله ، والله المستعان .
[ ص: 440 ] قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام اختلف المفسرون : هل هو كلام مستأنف ، أو داخل في مضمون هذه الشهادة ؟ فهو بعض المشهود به .
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر " إن " وفتحها ، فالأكثرون على كسرها على الاستئناف ، وفتحها وحده ، والوجه : هو الكسر ؛ لأن الكلام الذي قبله قد تم ، فالجملة الثانية مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها ، وهذا أبلغ في التقرير ، وأذهب في المدح والثناء ، ولهذا كان كسر الكسائي إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم أحسن من الفتح ، وكان الكسر في قول الملبي " لبيك ، إن الحمد والنعمة لك " أحسن من الفتح .
وقد ذكر في توجيه قراءة ثلاثة أوجه : الكسائي
أحدها : أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين ، فهي واقعة على إن الدين عند الله الإسلام وهو المشهود به ، ويكون فتح " أنه " من قوله أنه لا إله إلا هو على إسقاط حرف الجر ، أي بأنه لا إله إلا هو ، وهذا توجيه الفراء ، وهو ضعيف جدا ، فإن المعنى على خلافه ، وأن المشهود به هو نفس قوله " أنه لا إله إلا هو " فالمشهود به " أن " وما في حيزها ، والعناية إلى هذا صرفت ، وبه حصلت ، ولكن لهذا القول - مع ضعفه - وجه ، وهو : أن يكون المعنى : شهد الله بتوحيده ، أن الدين عند الله الإسلام ، والإسلام : هو توحيده سبحانه ، فتضمنت الشهادة توحيده ، وتحقيق دينه : أنه الإسلام لا غيره .
الوجه الثاني : أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا ، كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها ، والتقدير : وأن الدين عند الله الإسلام ، فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه ، كما وقع الاستغناء عنها في قوله ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم فيحسن ذكر الواو وحذفها ، كما حذفت هنا ، وذكرت في قوله ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم .
الوجه الثالث - وهو مذهب البصريين - : أن يجعل " أن " الثانية بدلا من [ ص: 441 ] الأولى ، والتقدير : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، وقوله أنه لا إله إلا هو توطئة للثانية وتمهيد ، ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول ، فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله هو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها ، ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال ؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيد .
فإن قيل : فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول : إن الدين عند الله الإسلام ؛ لأن المعنى : شهد الله أن الدين عنده الإسلام ، فلم عدل إلى لفظ الظاهر ؟
قيل : هذا يرجح قراءة الجمهور ، وأنها أفصح وأحسن ، ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر ، وقد ورد في القرآن وكلام العرب كثيرا ، فإن الله تعالى قال واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب وقال واتقوا الله إن الله غفور رحيم وقال تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين قال : افتخر المشركون بآبائهم ، فقال كل فريق : لا دين إلا دين آبائنا ، وما كانوا عليه ، فأكذبهم الله تعالى فقال ابن عباس إن الدين عند الله الإسلام يعني الذي جاء به محمد ، وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ، ليس لله دين سواه ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
وقد دل قوله إن الدين عند الله الإسلام على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعه من أولهم إلى آخرهم ، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه ، قال أول الرسل نوح فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وقال إبراهيم وإسماعيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقال يعقوب لبنيه عند الموت ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك - إلى قوله - ونحن له مسلمون وقال موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [ ص: 442 ] وقال تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون وقالت ملكة سبأ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .
فالإسلام دين أهل السماوات ، ودين أهل التوحيد من أهل الأرض ، لا يقبل الله من أحد دينا سواه ، فأديان أهل الأرض ستة : واحد للرحمن ، وخمسة للشيطان ، فدين الرحمن : هو الإسلام ، والتي للشيطان : اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، والصابئة ، ودين المشركين .
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآية العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ، ولا تستطل الكلام فيها ، فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب المنازل ، فلنرجع إلى شرح كلامه وبيان ما فيه .
قال : وإنما نطق العلماء بما نطقوا به ، وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه من هذا الطريق : لقصد تصحيح التوحيد ، وما سواه - من حال أو مقام - : فكله مصحوب العلل .
يريد : أن التوحيد هو الغاية المطلوبة من جميع المقامات والأعمال والأحوال ، فغايتها كلها التوحيد ، وإنما كلام العلماء والمحققين من أهل السلوك كله لقصد تصحيحه ، وهذا بين من أول المقامات إلى آخرها ، فإنها تشير إلى تصحيحه وتجريده .
وقوله " وما سواه - من حال أو مقام - فكله مصحوب العلل " يريد : أن تجريد التوحيد لا علة معه ، إذ لو كان معه علة تصحبه لم يجرد ، فتجرده ينفي عنه العلل بالكلية ، بخلاف ما سواه من المقامات والأحوال ، فإن العلل تصحبها ، وعندهم : أن علل المقامات لا تزول بتجريد التوحيد ، مثاله : أن علة مقام التوكل أن يشهد متوكلا ومتوكلا عليه ، ومتوكلا فيه ، ويشهد نفس توكله ، وهذا كله علة في مقام التوكل ، فإنه لا يصح له مقامه إلا بأن لا يشهد مع الوكيل الحق الذي يتوكل عليه غيره ، ولا يرى توكله [ ص: 443 ] عليه سببا لحصول المطلوب ، ولا وسيلة إليه .
وفيه علة أخرى أدق من هذه عند أرباب الفناء ، وهي : أن المتوكل قد وكل أمره إلى مولاه ، والتجأ إلى كفايته وتدبيره له ، والقيام بمصالحه ، قالوا : وهذا في طريق الخاصة عمى عن التوحيد ، ورجوع إلى الأسباب ؛ لأن الموحد قد رفض الأسباب ، ووقف مع المسبب وحده ، والمتوكل - وإن رفض الأسباب - فإنه واقف مع توكله ، فصار توكله بدلا من تلك الأسباب التي رفضها ، فهو متعلق بما رفضه .
وتجريد التوكل عندهم وحقيقته : هو تخليص القلب من علة التوكل ، وهو أن يعلم أن الله سبحانه فرغ من الأسباب وقدرها ، وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت ، فالمتوكل حقيقة - عندهم - هو من أراح نفسه من كد النظر ، ومطالعة السبب ، سكونا إلى ما سبق له من القسم ، مع استواء الحالين عنده ، وهو أن يعلم : أن الطالب لا ينفع ، والتوكل لا يجمع ، ومتى طالع بتوكله عرضا كان توكله مدخولا ، وقصده معلولا ، فإذا خلص من رق هذه الأسباب ، ومطالعة العوارض ، ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الرب سبحانه ؛ كفاه تعالى كل مهم ، كما أوحى الله تعالى إلى موسى " كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد .
وهذا الكلام وأمثاله بعضه صواب ، وبعضه خطأ ، وبعضه محتمل .
فقوله " إن التوكل في طريق الخاصة عمى عن التوحيد ، ورجوع إلى الأسباب " خطأ محض ، بل التوكل : حقيقة التوحيد ، ولا يتم التوحيد إلا به ، وقد تقدم في باب التوكل بيان ذلك ، وأنه من مقامات الرسل ، وهم خاصة الخاصة ، وإنما المتحذلقون المتنطعون جعلوه من مقامات العامة ، ولا أخص ممن أرسل الله واصطفى ، ولا أعلى من مقاماتهم .
وقوله " إنه رجوع إلى الأسباب " يقال : بل هو قيام بحق الأمر ، فإن الله سبحانه اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها ، وجعل التوكل والدعاء من أقرب الأسباب التي تحصل المقصود ، فالتوكل امتثال لأمر الله ، وموافقة لحكمته ، وعبودية القلب له ، فكيف يكون مصحوب العلل ؟ وكيف يكون من مقامات العامة ؟
وقوله " لأن الموحد قد رفض الأسباب كلها " يقال له : هذا الرفض لا يخرج عن الكفر تارة ، والفسق تارة ، والتقصير تارة ، فإن الله أمر بالقيام بالأسباب ، فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره ، وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلها ؟
[ ص: 444 ] فإن قلت : ليس المراد رفض القيام بها ، وإنما المراد : رفض الوقوف معها .
قلت : وهذا أيضا غير مستقيم ، فإن الوقوف مع الأسباب قسمان :
وقوف مأمور به مطلوب ، وهو أن يقف معها حيث أوقفه الله ورسوله ، فلا يتعدى حدودها ، ولا يقصر عنها ، فيقف معها مراعاة لحدودها وأوقاتها وشرائطها ، وهذا الوقوف لا تتم العبودية إلا به .
ووقوف معها ، بحيث يعتقد أنها هي الفاعلة المؤثرة بنفسها ، وأنها تنفع وتضر بذاتها ، فهذا لا يعتقده موحد ، ولا يحتاج أن يحترز منه من يتكلم في المعرفة والسلوك ، نعم ، لا ينقطع بها عن رؤية المسبب ، ويعتقدها هي الغاية المطلوبة منه ، بل هي وسيلة توصل إلى الغاية ، ولا تصل إلى الغاية المطلوبة بدونها ، فهذا حق ، لكن لا يجامع رفضها والإعراض عنها ، بل يقوم بها ، معتقدا أنها وسيلة موصلة إلى الغاية ، فهي كالطريق الحسي الذي يقطعه المسافر إلى مقصده ، فإن قيل له : ارفض الطريق ، ولا تلتفت إليها ؛ انقطع عن المسير بالكلية ، وإن جعلها غايته ، ولم يقصد بالسير فيها وصوله إلى مقصد معين ؛ كان معرضا عن الغاية ، مشتغلا بالطريق ، وإن قيل له : التفت إلى طريقك ومنازل سيرك ، وراعها ، وسر فيها ناظرا إلى المقصود ، عاملا على الوصول إليه ، فهذا هو الحق .
وقوله : " المتوكل - وإن رفض الأسباب - واقف مع توكله .
فيقال : إن وقف مع توكله امتثالا لأمر الله ، وأداء لحق عبوديته ، معتقدا أن الله هو الذي من عليه بالتوكل ، وأقامه فيه ، وجعله سببا موصلا له إلى مطلوبه ، فنعم الوقوف وقف ، وما أحسنه من وقوف ! وإن وقف معه اعتقادا أن بنفس توكله وعمله يصل ، مع قطع النظر عن فضل ربه وإعانته ، ومنه عليه بالتوكل ؛ فهو وقوف منقطع عن الله .
وقوله : " إن التوكل بدل من الأسباب التي رفضها ، فالمتوكل متنقل من سبب إلى سبب يقال له : إن كانت الأسباب التي رفضها غير مأمور بها ، فالتوكل المجرد خير منها ، وإن كانت مأمورا بها ، فرفضه لها إلى التوكل معصية وخروج عن الأمر .
نعم ، إحداها : أن يترك ما أمر به من الأسباب ، استغناء بالتوكل عنها ، فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة ، لا توكل عبودية وتوحيد ، كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة ، ويتوكل في حصولها ويترك القيام بأسباب الرزق - من [ ص: 445 ] العمل والحراثة والتجارة ونحوها - ويتوكل في حصوله ، ويترك طلب العلم ، ويتوكل في حصوله ، فهذا توكله عجز وتفريط ، كما قال بعض السلف : لا تكن ممن يجعل توكله عجزا ، وعجزه توكلا . للتوكل ثلاث علل
العلة الثانية : أن يتوكل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه ، كمن يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة ، وأما التوكل في نصرة دين الله ، وإعلاء كلمته وإظهار سنة رسوله ، وجهاد أعدائه فليس فيه علة ، بل هو مزيل للعلل .
العلة الثالثة : أن يرى توكله منه ، ويغيب بذلك عن مطالعة المنة وشهود الفضل ، وإقامة الله له في مقام التوكل ، وليس مجرد رؤية التوكل علة ، كما يظنه كثير من الناس ، بل رؤية التوكل ، وأنه من عين الجود ، ومحض المنة ، ومجرد التوفيق عبودية ، وهي أكمل من كونه يغيب عنه ولا يراه ، فالأكمل أن لا يغيب بفضل ربه عنه ، ولا به عن شهود فضله ، كما تقدم بيانه .
فهذه العلل الثلاث هي التي تعرض في مقام التوكل وغيره من المقامات ، وهي التي يعمل العارفون بالله وأمره على قطعها ، وهكذا الكلام في سائر علل المقامات ، وإنما ذكرنا هذا مثالا لما يذكر من عللها ، وقد أفرد لها صاحب المنازل مصنفا لطيفا ، وجعل غالبها معلولا ، والصواب : أن عللها هذه الثلاثة المذكورة ، أن يترك بها ما هو أعلى منها ، وأن يعلقها بحظه ، والانقطاع بها عن المقصود ، وأن لا يراها من عين المنة ومحض الجود ، وبالله التوفيق .
قوله : على ثلاثة أوجه ، الوجه الأول : توحيد العامة ، الذي يصح بالشواهد ، والوجه الثاني : توحيد الخاصة ، وهو الذي يثبت بالحقائق ، والوجه الثالث : توحيد قائم بالقدم ، وهو توحيد خاصة الخاصة . والتوحيد
فيقال : لا ريب أن أهل التوحيد يتفاوتون في توحيدهم - علما ومعرفة وحالا - تفاوتا لا يحصيه إلا الله ، فأكمل الناس توحيدا : الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، والمرسلون منهم أكمل في ذلك ، وأولو العزم من الرسل أكمل توحيدا ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وأكملهم توحيدا : الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما ، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما - علما ومعرفة وحالا ، ودعوة للخلق وجهادا - فلا توحيد أكمل من الذي [ ص: 446 ] قامت به الرسل ، ودعوا إليه ، وجاهدوا الأمم عليه ، ولهذا أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهم فيه ، كما قال سبحانه - بعد ذكر إبراهيم ومناظرته أباه وقومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد ، وذكر الأنبياء من ذريته - ثم قال أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهم .
ولما قاموا بحقيقته - علما وعملا ودعوة وجهادا - جعلهم الله أئمة للخلائق ، يهدون بأمره ، ويدعون إليه ، وجعل الخلائق تبعا لهم ، يأتمون بأمرهم ، وينتهون إلى ما وقفوا بهم عنده ، وخص بالسعادة والفلاح والهدى أتباعهم ، وبالشقاء والضلال مخالفيهم ، وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك ، ولهذا أوصى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ملة إبراهيم ، وكان يعلم أصحابه ، إذا أصبحوا أن يقولوا : " أصبحنا على فطرة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ، ودين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وملة أبينا إبراهيم ، حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين " ، فملة إبراهيم : التوحيد ، ودين محمد : ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا ، وكلمة الإخلاص : هي شهادة أن لا إله إلا الله ، وفطرة الإسلام : هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له ، والاستسلام له عبودية وذلا ، وانقيادا وإنابة .
فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء ، قال تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين .
فقسم سبحانه : سفيها لا أسفه منه ، ورشيدا ، فالسفيه : من رغب عن ملته إلى الشرك ، والرشيد : من تبرأ من الشرك قولا وعملا وحالا ، فكان قوله توحيدا ، وعمله توحيدا ، وحاله توحيدا ، ودعوته إلى التوحيد ، وبهذا أمر الله سبحانه جميع المرسلين - من أولهم إلى آخرهم - قال تعالى الخلائق قسمين ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون [ ص: 447 ] وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي أي هذا الكتاب الذي أنزل علي ، وهذه كتب الأنبياء كلهم : هل وجدتم في شيء منها اتخاذ آلهة مع الله ؟ أم كلها ناطقة بالتوحيد آمرة به ؟ وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والطاغوت اسم لكل ما عبدوه من دون الله ، فكل مشرك إلهه طاغوته .
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على ما ذكره صاحب المنازل في التوحيد فقال - بعد أن حكى كلامه إلى آخره - : أما التوحيد الأول ، الذي ذكره : فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم ، ونزلت به الكتب كلها ، وبه أمر الله الأولين والآخرين ، وذكر الآيات الواردة بذلك .
ثم قال : وقد أخبر الله عن كل رسول من الرسل أنه قال لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وهذه أول دعوة الرسل وآخرها ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله والقرآن مملوء من هذا التوحيد ، والدعوة إليه ، وتعليق النجاة والسعادة في الآخرة به ، وحقيقته : إخلاص الدين كله ، والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء ، وهو أن تثبت إلهية الحق تعالى في قلبك ، وتنفي إلهية ما سواه ، فتجمع بين النفي والإثبات ، فالنفي هو الفناء ، والإثبات هو البقاء ، وحقيقته : أن تفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه ، وبمحبته عن محبة ما سواه ، وبخشيته عن خشية ما سواه ، [ ص: 448 ] وبطاعته عن طاعة ما سواه ، وكذلك بموالاته وسؤاله ، والاستغناء به ، والتوكل عليه ، ورجائه ودعائه ، والتفويض إليه ، والتحاكم إليه ، واللجء إليه ، والرغبة فيما عنده ، قال تعالى من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله ، دخل الجنة قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وقال تعالى أفغير الله أبتغي حكما وقال تعالى قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء وقال تعالى قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية ، وقال تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا وقال تعالى ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه وقال تعالى قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وقال تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وقال عن أصحاب الكهف فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا وقال عن صاحب يس وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون وقال تعالى أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي [ ص: 449 ] وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وقال تعالى ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز وقال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا .
وهذا في القرآن كثير ، بل هو أكثر من أن يذكر ، وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره ، وذروة سنامه ، وقطب رحاه ، وأمرنا تعالى أن نتأسى بإمام هذا التوحيد في نفيه وإثباته ، كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقال تعالى واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وإذا تدبرت القرآن - من أوله إلى آخره - رأيته يدور على هذا التوحيد ، وتقريره وحقوقه .
قال شيخنا : والخليلان هم أكمل خاصة الخاصة توحيدا ، ولا يجوز أن يكون في الأمة من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء ، فضلا عن الرسل ، فضلا عن أولي العزم ، فضلا عن الخليلين ، وكمال هذا التوحيد هو أن لا يبقى في القلب شيء لغير [ ص: 450 ] الله أصلا ، بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء ، يحب من أحب وما أحب ، ويبغض من أبغض وما أبغض ، ويوالي من يوالي ، ويعادي من يعادي ، ويأمر بما يأمر به ، وينهى عما نهى عنه .