فصل عبادة الجوارح
وأما فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا ، إذ الحواس خمسة ، وعلى كل حاسة خمس عبوديات . العبوديات الخمس على الجوارح
، من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما ، وكذلك فعلى السمع وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه ، استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام في أصح قولي العلماء . واستماع الخطبة للجمعة
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع ، إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من رده ، أو الشهادة على قائله ، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك ، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره ، ولا يحب أن يطلعك عليه ، ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به ، أو لأذى مسلم يتعين نصحه ، وتحذيره منه .
وكذلك التي تخشى الفتنة بأصواتهن ، إذا لم تدع [ ص: 137 ] إليه حاجة من شهادة ، أو معاملة ، أو استفتاء ، أو محاكمة ، أو مداواة ونحوها . استماع أصوات النساء الأجانب
وكذلك ، وآلات الطرب واللهو ، كالعود والنبور واليراع ونحوها ، ولا يجب عليه سد أذنه إذا سمع الصوت ، وهو لا يريد استماعه ، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات ، فحينئذ يجب لتجنب سماعها وجوب سد الذرائع . استماع المعازف
ونظير هذا المحرم لا يجوز له تعمد شم الطيب ، وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامه لم يجب عليه سد أنفه .
ونظير هذا نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر ، وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها .
وأما السمع المستحب فكاستماع المستحب من العلم ، وقراءة القرآن ، وذكر الله ، واستماع كل ما يحبه الله ، وليس بفرض .
والمكروه عكسه ، وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه .
والمباح ظاهر .
وأما النظر الواجب : فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها ، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها ، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها ، ونحو ذلك .
والنظر الحرام النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا ، وبغيرها إلا لحاجة ، كنظر الخاطب ، والمستام والمعامل ، والشاهد ، والحاكم ، والطبيب ، وذي المحرم .
والمستحب النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما ، والنظر في المصحف ، ووجوه العلماء الصالحين والوالدين ، والنظر في آيات الله المشهودة ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته .
والمكروه فضول النظر الذي لا مصلحة فيه ، فإن له فضولا كما للسان فضولا ، وكم قاد فضولها إلى فضول عز التخلص منها ، وأعيى دواؤها ، وقال بعض السلف : كانوا يكرهون فضول النظر ، كما يكرهون فضول الكلام .
والمباح النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة .
[ ص: 138 ] ومن النظر الحرام : النظر إلى العورات ، وهي قسمان :
عورة وراء الثياب ، وعورة وراء الأبواب .
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه ، لم يكن عليه شيء ، وذهبت هدرا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، وإن ضعفه بعض الفقهاء لكونه لم يبلغه النص ، أو تأوله .
وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله ، كعورة له هناك ينظرها ، أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في الاطلاع عليها .
وأما الذوق : الواجب فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه وخوف الموت ، فإن تركه حتى مات ، مات عاصيا قاتلا لنفسه ، قال الإمام أحمد و طاوس : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار .
ومن هذا تناول الدواء إذا تيقن النجاة به من الهلاك ، على أصح القولين ، وإن ظن الشفاء به ، فهل هو مستحب مباح ، أو الأفضل تركه ؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف .
والذوق الحرام : كذوق الخمر ، والسموم القاتلة ، والذوق الممنوع منه للصوم الواجب .
وأما المكروه : فكذوق المشتبهات ، والأكل فوق الحاجة ، وذوق طعام الفجاءة ، وهو الطعام الذي تفجأ آكله ولم يرد أن يدعوك إليه ، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها ، وفي السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن طعام المتبارين " ، وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس .
[ ص: 139 ] والذوق المستحب : أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل ، مما أذن الله فيه ، والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل ، فينال منه غرضه ، والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب .
وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها للأمر به عن الشارع .
والذوق المباح : ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان .
وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم ، فالشم الواجب : كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام ، كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة ؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه ؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به ، وما لا يملك ؟ ومن هذا شم المقوم ، ورب الخبرة عند الحكم بالتقويم ، وشم العبيد ونحو ذلك .
وأما الشم الحرام : فالتعمد لشم الطيب في الإحرام ، وشم الطيب المغصوب والمسروق ، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه .
وأما الشم المستحب : فشم ما يعينك على طاعة الله ، ويقوي الحواس ، ويبسط النفس للعلم والعمل ، ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك ، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم . من عرض عليه ريحان فلا يرده ، فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل
والمكروه : كشم طيب الظلمة ، وأصحاب الشبهات ، ونحو ذلك .
والمباح : ما لا منع فيه من الله ولا تبعة ، ولا فيه مصلحة دينية ، ولا تعلق له بالشرع .
وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس : فاللمس الواجب كلمس الزوجة حين يجب جماعها ، والأمة الواجب إعفافها .
والحرام : لمس ما لا يحل من الأجنبيات .
والمستحب : إذا كان فيه غض بصره ، وكف نفسه عن الحرام ، وإعفاف أهله .
[ ص: 140 ] والمكروه : لمس الزوجة في الإحرام للذة ، وكذلك في الاعتكاف ، وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه .
ومن هذا لمس بدن الميت لغير غاسله لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له ، ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميصه في أحد القولين ، ولمس فخذ الرجل إذا قلنا هي عورة .
والمباح ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية .
وهذه المراتب أيضا مرتبة على البطش باليد ، والمشي بالرجل ، وأمثلتها لا تخفى .
فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب ، وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف ، والصحيح وجوبه ليمكنه من أداء دينه ، ولا يجب لإخراج الزكاة ، وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر ، والأقوى في الدليل وجوبه لدخوله في الاستطاعة وتمكنه بذلك من أداء النسك ، والمشهور عدم وجوبه .
ومن البطش الواجب : إعانة المضطر ، ورمي الجمار ، ومباشرة الوضوء والتيمم .
والحرام : كقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ونهب المال المعصوم ، وضرب من لا يحل ضربه ، ونحو ذلك ، وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنرد ، أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة كالشطرنج ، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره ، أو دونه عند بعضهم ، ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا ، إلا مقرونا بردها ونقضها ، وكتابة الزور والظلم ، والحكم الجائر ، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب ، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ، ولاسيما إن كسبت عليه مالا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدا مخطئا ، فالإثم موضوع عنه .
وأما المكروه فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام ، وكتابة ما لا فائدة في كتابته ، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة .
والمستحب كتابة كل ما فيه منفعة في الدين ، أو مصلحة لمسلم ، والإحسان بيده بأن يعين صانعا ، أو يصنع لأخرق ، أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقي ، أو يحمل له على دابته ، أو يمسكها حتى يحمل عليها ، أو يعاونه بيده فيما يحتاج إليه ونحو ذلك ، ومنه لمس [ ص: 141 ] الركن بيده في الطواف ، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان .
والمباح ما لا مضرة فيه ولا ثواب .
وأما : فالمشي إلى الجمعات والجماعات في أصح القولين لبضعة وعشرين دليلا مذكورة في غير هذا الموضع ، والمشي حول البيت للطواف الواجب ، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه ، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه ، والمشي إلى صلة رحمه ، وبر والديه ، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه ، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر . المشي الواجب
والحرام : ، وهو من رجل الشيطان ، قال تعالى المشي إلى معصية الله وأجلب عليهم بخيلك ورجلك قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم ، فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس .
وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا .
فواجبه في الركوب في الغزو ، والجهاد ، والحج الواجب .
ومستحبه في الركوب المستحب من ذلك ، ولطلب العلم ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وفي الوقوف بعرفة نزاع هل الركوب فيه أفضل ، أم على الأرض ؟ والتحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة من تعليم للمناسك ، واقتداء به ، وكان أعون على الدعاء ، ولم يكن فيه ضرر على الدابة .
وحرامه : الركوب في معصية الله عز وجل .
ومكروهه الركوب للهو واللعب ، وكل ما تركه خير من فعله .
ومباحه الركوب لما لم يتضمن فوت أجر ، ولا تحصيل وزر .
فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء : القلب ، واللسان ، والسمع ، والبصر ، والأنف ، والفم ، واليد ، والرجل ، والفرج ، والاستواء على ظهر الدابة .