فصل
nindex.php?page=treesubj&link=30239الصنف الثاني : القدرية النفاة ، الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل ولكن لا يقوم بالرب ، ولا يرجع إليه ، بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته .
فعندهم : أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم ، وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير .
قالوا : ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=32ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=90هل تجزون إلا ما كنتم تعملون وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل
nindex.php?page=hadith&LINKID=980137يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها وقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ ص: 114 ] .
قالوا : وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا ، لأنه يثوب إلى العامل من عمله ، أي يرجع إليه منه .
قالوا : ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاء ولا أجرا ولا ثوابا معنى .
قالوا : ويدل عليه الوزن ، فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضاؤها لها ، وكونها كالأثمان لها لم يكن للوزن معنى ، وقد قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=8والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=9ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون .
وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل ، وبينهما أعظم التباين
nindex.php?page=treesubj&link=28836 .
فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة ، وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته ، وينعم من أفنى عمره في معصيته ، وكلاهما بالنسبة إليه سواء ، وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا ، وأكثر وأفضل درجات ، والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة ، من غير تعليل ولا سبب ، ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب ، وهذا بالعقاب .
والقدرية أوجبت على الله رعاية الأصلح ، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها ، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص باحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن .
فقاتلهم الله ، ما أجهلهم بالله وأغرهم به ! جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد ، حتى قالوا : إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل .
فقابلتهم
الجبرية أشد المقابلة ، ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء البتة .
والطائفتان جائرتان ، منحرفتان عن الصراط المستقيم ، الذي فطر الله عليه عباده ،
[ ص: 115 ] وجاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب ، مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه ، وصدقته على عبده ، إن أعانه عليها ووفقه لها ، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها ، وحببها إليه ، وزينها في قلبه وكره إليه أضدادها ، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ، ولا هي على قدره ، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده ، وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه ، فلو طالبه بحقه لبقي عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها ، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل ، كما قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=980138لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله وفي لفظ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980139لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، وفي لفظ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980140لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل ، كما في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=32ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ولا تنافي بينهما ، إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد ، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال ، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ، ردا على
القدرية المجوسية ، التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة .
وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله ، وأغلظهم عنه حجابا ، وحق لهم أن يكونوا
مجوس هذه الأمة ، ويكفي في جهلهم بالله أنهم لم يعلموا أن أهل سماواته وأرضه في منته ، وأن من تمام الفرح والسرور ، والغبطة واللذة اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق ، وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة ، وأعظمهم منه منزلة ، وأقربهم إليه أعرفهم بهذه المنة ، وأعظمهم إقرارا بها ، وذكرا لها ، وشكرا عليها ، ومحبة له لأجلها ، فهل يتقلب أحد قط إلا في منته ؟
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=17يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
[ ص: 116 ] واحتمال منة المخلوق إنما كانت نقصا لأنه نظيره ، فإذا من عليه استعلى عليه ، ورأى الممنون عليه نفسه دونه ، هذا مع أنه ليس في كل مخلوق ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المنة على أمته ، وكان أصحابه يقولون : " الله ورسوله أمن " ولا نقص في منة الوالد على ولده ، ولا عار عليه في احتمالها ، وكذلك السيد على عبده ، فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ، ومحض صدقته عليهم ، بلا عوض منهم البتة ؟ وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده ، فهو المنان عليهم ، بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها ، وأعانهم عليها ، وكملها لهم ، وقبلها منهم على ما فيها ؟ وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43بما كنتم تعملون .
فهذه باء السببية ، ردا على
القدرية والجبرية الذين يقولون : لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ، ولا هي أسباب له ، وإنما غايتها أن تكون أمارات .
قالوا : وليست أيضا مطردة ، لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر ، فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة .
فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء ، كما هي مبطلة لقول أولئك ، وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين ، وتبين لمن له قلب ولب مقدار قول أهل السنة ، وهم الفرقة الوسط ، المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته ، وخلقه العباد وأعمالهم ، ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها ، وانعقادها بها شرعا وقدرا ، وترتيبها عليها عاجلا وآجلا .
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق ، وارتكبت لأجله نوعا من الباطل ، بل أنواعا ، وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=30239الصِّنْفُ الثَّانِي : الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ ، الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَلَكِنْ لَا يَقُومُ بِالرَّبِّ ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمَخْلُوقِ وَمَنْفَعَتِهِ .
فَعِنْدَهُمْ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ شُرِعَتْ أَثْمَانًا لِمَا يَنَالُهُ الْعِبَادُ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ .
قَالُوا : وَلِهَذَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِوَضًا كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=32ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=90هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980137يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ص: 114 ] .
قَالُوا : وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَأَجْرًا وَثَوَابًا ، لِأَنَّهُ يَثُوبُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهُ .
قَالُوا : وَلَوْلَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا وَلَا ثَوَابًا مَعْنًى .
قَالُوا : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَزْنُ ، فَلَوْلَا تَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَعْمَالِ وَاقْتِضَاؤُهَا لَهَا ، وَكَوْنُهَا كَالْأَثْمَانِ لَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَزْنِ مَعْنًى ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=8وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=9وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ .
وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ أَشَدَّ التَّقَابُلِ ، وَبَيْنَهُمَا أَعْظَمُ التَّبَايُنِ
nindex.php?page=treesubj&link=28836 .
فَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ تَجْعَلْ لِلْأَعْمَالِ اِرْتِبَاطًا بِالْجَزَاءِ الْبَتَّةَ ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ ، وَيُنَعِّمَ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ ، وَكِلَاهُمَا بِالْنِسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَمَلًا ، وَأَكْثَرُ وَأَفْضَلُ دَرَجَاتٍ ، وَالْكُلُّ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ وَلَا سَبَبٍ ، وَلَا حِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا بِالْثَوَابِ ، وَهَذَا بِالْعِقَابِ .
وَالْقَدَرِيَّةُ أَوْجَبَتْ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ وَثَمَنًا لَهَا ، وَأَنَّ وُصُولَ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ بِدُونِ عَمَلِهِ فِيهِ تَنْغِيصٌ بِاحْتِمَالِ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ .
فَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ ، مَا أَجْهَلَهُمْ بِاللَّهِ وَأَغَرَّهُمْ بِهِ ! جَعَلُوا تَفَضُّلَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ ، حَتَّى قَالُوا : إِنَّ إِعْطَاءَهُ مَا يُعْطِيهِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَى الْعَبْدِ وَأَطْيَبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ بِلَا عَمَلٍ .
فَقَابَلَتْهُمُ
الْجَبْرِيَّةُ أَشَدَّ الْمُقَابَلَةِ ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ الْبَتَّةَ .
وَالْطَائِفَتَانِ جَائِرَتَانِ ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ ،
[ ص: 115 ] وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْبَابٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، مُقْتَضِيَةٌ لَهُمَا كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَمَنِّهِ ، وَصَدَقَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ ، إِنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا وَوَفَّقَهُ لَهَا ، وَخَلَقَ فِيهِ إِرَادَتَهَا وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا ، وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِ ، وَزَيَّنَهَا فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ إِلَيْهِ أَضْدَادُهَا ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ ثَمَنًا لِجَزَائِهِ وَثَوَابِهِ ، وَلَا هِيَ عَلَى قَدْرِهِ ، بَلْ غَايَتُهَا إِذَا بَذَلَ الْعَبْدُ فِيهَا نُصْحَهُ وَجُهْدَهُ ، وَأَوْقَعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ تَقَعَ شُكْرًا لَهُ عَلَى بَعْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ لَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَقُمْ بِشُكْرِهَا ، فَلِذَلِكَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِهَذَا نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980138لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ وَفِي لَفْظٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980139لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ ، وَفِي لَفْظٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980140لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا أَنَا ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَأَثْبَتَ سُبْحَانَهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=32ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا ، إِذْ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَيْسَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ، فَالْمَنْفِيُّ اسْتِحْقَاقُهَا بِمُجَرَّدِ الْأَعْمَالِ ، وَكَوْنِ الْأَعْمَالِ ثَمَنًا وَعِوَضًا لَهَا ، رَدًّا عَلَى
الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ ، الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّ الْتَفَضُّلَ بِالْثَوَابِ ابْتِدَاءً مُتَضَمِّنٌ لِتَكْرِيرِ الْمِنَّةِ .
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ ، وَأَغْلَظِهِمْ عَنْهُ حِجَابًا ، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا
مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَيَكْفِي فِي جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ فِي مِنَّتِهِ ، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ الْفَرَحِ وَالْسُرُورِ ، وَالْغِبْطَةِ وَاللَّذَّةِ اغْتِبَاطُهُمْ بِمِنَّةِ سَيِّدِهِمْ وَمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا طَابَ لَهُمْ عَيْشُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ ، وَأَعْظَمُهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ أَعْرَفُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ ، وَأَعْظَمُهُمْ إقْرَارًا بِهَا ، وَذِكْرًا لَهَا ، وَشُكْرًا عَلَيْهَا ، وَمَحَبَّةً لَهُ لِأَجْلِهَا ، فَهَلْ يَتَقَلَّبُ أَحَدٌ قَطٌّ إِلَّا فِي مِنَّتِهِ ؟
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=17يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
[ ص: 116 ] وَاحْتِمَالُ مِنَّةِ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا كَانَتْ نَقْصًا لِأَنَّهُ نَظِيرُهُ ، فَإِذَا مَنَّ عَلَيْهِ اسْتَعْلَى عَلَيْهِ ، وَرَأَى الْمَمْنُونُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ دُونَهُ ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ ، فَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنَّةُ عَلَى أُمَّتِهِ ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : " اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ " وَلَا نَقْصَ فِي مِنَّةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِي احْتِمَالِهَا ، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي إِنَّمَا يَتَقَلَّبُ الْخَلَائِقُ فِي بَحْرِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهِمْ ، بِلَا عِوَضٍ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ أَسْبَابًا لِمَا يَنَالُونَهُ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ ، فَهُوَ الْمَنَّانُ عَلَيْهِمْ ، بِأَنْ وَفَّقَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ وَهَدَاهُمْ لَهَا ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا ، وَكَمَّلَهَا لَهُمْ ، وَقَبِلَهَا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِيهَا ؟ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ ، رَدًّا عَلَى
الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ ، وَلَا هِيَ أَسْبَابٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَمَارَاتٍ .
قَالُوا : وَلَيْسَتْ أَيْضًا مُطَّرِدَةً ، لِتَخَلُّفِ الْجَزَاءِ عَنْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَحْضُ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالْمَشِيئَةِ .
فَالنُّصُوصُ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ ، كَمَا هِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ أُولَئِكَ ، وَأَدِلَّةُ الْمَعْقُولِ وَالْفِطْرَةِ أَيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَتُبَيِّنُ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ وَلُبٌّ مِقْدَارَ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْوَسَطُ ، الْمُثْبِتُونَ لِعُمُومِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ ، وَخَلْقِهِ الْعِبَادَ وَأَعْمَالَهُمْ ، وَلِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ رَبْطَ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا ، وَانْعِقَادَهَا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا ، وَتَرْتِيبَهَا عَلَيْهَا عَاجِلًا وَآجِلًا .
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُنْحَرِفَتَيْنِ تَرَكَتْ نَوْعًا مِنَ الْحَقِّ ، وَارْتَكَبَتْ لِأَجْلِهِ نَوْعًا مِنَ الْبَاطِلِ ، بَلْ أَنْوَاعًا ، وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .