( ( والحمد لله على التوفيق لمنهج الحق على التحقيق ) )
( ( مسلما لمقتضى الحديث والنص في القديم والحديث ) )
( ( لا أعتني بغير قول السلف موافقا أئمتي وسلفي ) )
( ( والحمد لله على التوفيق ) ) وهذا حمد في مقابلة نعمة التأهيل لهذا الفضل الجزيل والمشرب الصافي من ينبوع التنزيل من غير إلحاد ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل ، تسهيل سبيل الخير والطاعة . قال والتوفيق الإمام المحقق ابن القيم في كتابه شرح منازل السائرين : قد أجمع العارفون بالله أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك ، والخذلان ضده وهو أن يخلي بينك وبينها ، فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه ، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا ، فيطيع مولاه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه ، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له ، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه ، فإن وفقه فبفضله ورحمته وإن خذله فبعدله وحكمته ، وهو سبحانه المحمود في هذا وهذا له أتم حمد وأكمله ، لم يمنع العبد شيئا هو له وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله .
قال : فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه علم ضرورته وفاقته [ ص: 451 ] إلى التوفيق في كل نفس ولحظة وطرفة عين ، وأن توحيده وإيمانه ممسك بيد غيره لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرشه ولخرت سماء إيمانه على الأرض ، وأن الممسك له من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فدأبه بقلبه ولسانه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك ، ودعواه : يا حي يا قيوم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك .
ثم قال : والتوفيق هو إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه مريدا له محبا مؤثرا على غيره ، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه ، وهذا مجرد فعله تعالى والعبد محل له ، قال تعالى : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ) فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له ، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله ولا يضعه عند غير أهله . وذكر هذا عند عقيب قوله : ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) ، ثم جاء بحرف الاستدراك فقال : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه ) ، قال : وقد فسرت الجبرية وغيرهم التوفيق بأنه خلق الطاعة والخذلان خلق المعصية ، وبنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم ، وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة ، قال : وقابلهم القدرية ففسروا التوفيق بالبيان العام والهدى العام والتمكن من الطاعة والاقتدار عليها وتهيئة أسبابها ، قال : وهذا حاصل لكل فرد كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان . وقد قدمنا في الكلام على القدر ما لعله يكفي ويشفي وبالله التوفيق .
وقوله ( ( لمنهج الحق على التحقيق ) ) متعلق بالتوفيق ، والمنهج الطريق الواضح كالنهج والمنهاج . والحق هو الحكم المطابق للواقع ، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ، ويقابله الباطل ، وأما الصدق فشاع في الأقوال خاصة ، ويقابله الكذب ، وقد يفرق بين الحق والصدق بأن المطابقة تعتبر في الحق [ ص: 452 ] من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه ، والتحقيق إيقاع الأشياء في محالها وردها إلى حقائقها ، يقال : حقق الطريق ركب حاقته وحقق الأمر تيقنه ، وقوله ( ( مسلما ) ) حال من معمول التوفيق أي والحمد لله على توفيقي لمنهج الحق حال كوني مسلما ، ( ( لمقتضى الحديث ) ) أي لما يقتضيه الحديث الصحيح النبوي ( ( والنص ) ) الصريح القرآني ، وقدم الحديث لمراعاة القافية ولشدة الاعتناء بالتمسك بالسنة النبوية ، والأحاديث المرضية كالنص كما هو في نسخة وهي أولى وأحرى وحينئذ فالنص هو المقدم وسواء أدركنا معناه بعقولنا أو لم ندركه ، وهذا هو الحق الواجب على كل مسلم بما أخبر به الله ورسوله من صفاته وغيرها ليس موقوفا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك ، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن ، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا . الرسول إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به
ومن لم يقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله تعالى عنهم : ( قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنا بالرسول ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوبية ، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به إذا كان الذي لم يعلمه بعقله لا يصدق به بل يتأوله ، وما لم يخبره به إن علمه بعقله آمن به ، ومن سلك هذا السبيل فوجود الرسول وأخباره وعدمهما عنده سواء ، وما يذكر من القرآن والحديث والإجماع لا أثر له عند هؤلاء ، وقد صرح بذلك جماعة من أئمة المتكلمة ، وتقدم هذا في الباب الأول بعد قولنا :
فكل ما قد جاء في الدليل فثابت من غير ما تمثيل
وقوله ( ( في القديم والحديث ) ) يحتمل معنيين كلاهما مراد : ( أحدهما ) راجع إلى الناظم وهو أن هذا عقيدتي واعتمادي ، ومبنى عصمتي واعتقادي سواء أدركنا معانيها بعقولنا ، أو قصرت عن إدراك حقائقها [ ص: 453 ] ألبابنا وآراؤنا ، وهذا في أول زمان وجود إدراك فهمي ولم ينفك عن هذا عقد لبي ودليل علمي ، فقديم زمني وحديثه على ذلك وهو على نهجه القويم ، وإن تباينت المسالك ، ( الثاني ) أن مبنى علمي وحقيقة حجتي وفهمي وعصمتي وسندي إنما هو النص القرآني والخبر الصحيح النبوي ، وما أجمع عليه السلف سواء في ذلك الأحكام المتعلقة بالعبادات ونحوها من المعاملات والأنكحة والجنايات والحدود والكفارات ، أو الأخبار عن البرزخ والمعاد وما للعالم من شقوة أو إسعاد ، هذا وهذا ونحوه مما يتعلق بالحادث والحوادث ، أو كان مما يتعلق بالقديم الديان من الذات والصفات والقرآن حسبما برهنا على ذلك في شرحنا على قدر الإمكان ، مما يعلمه الناظر فيه بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة والأدلة النافعة والإلزامات القامعة . التسليم والانقياد والمثول والاعتماد على مقتضى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية
( ( لا أعتني ) ) في أصل نظم عقيدتي هذه بقول قائل وإن جل أمره وشاع ذكره ( ( بغير قول السلف ) ) أي لا أعول ولا يهمني ولا يعنيني في نظم عقد توحيدي إلا قول السلف الصالح والرعيل الأول الفالح ، وفي نسخة
لا أعتني إلا بقول السلف
، ولست في ذلك منفردا ولا ناهجا نهجا منتقدا ، بل في نهجي المذكور وسيري المشكور حال كوني ( ( موافقا أئمتي ) ) من أئمة أهل الأثر ، ( ( وسلفي ) ) في ذلك من كل همام معتبر ، قد سبروا الأخبار ودونوا الآثار ، وعرفوا ما كان عليه النبي المختار وما اقتفاه عليه أصحابه الأبرار وأصهاره الأخيار وأنصاره الأطهار - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ما تعاقب الليل والنهار - ، وقد قال : " " . وتقدم ذلك في المقدمة . ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي