إذا علمت هذا فاعلم أن ، لأنهم يتوهمون أن من لازم ذلك التجسيم ، وهذا وهم فاسد ، وظن كاذب ، وحدس حائد ، لأنا نقول أولا لمن ارتكب هذا المركب لازم المذهب ليس بمذهب عند أئمة أهل التحقيق ، وذوي النباهة والمعرفة [ ص: 199 ] والتصديق ، فكيف يحسن أن ينسب إلى المرء شيء من لوازم كلامه ، وهو من أبعد الناس عنه بقصده ومرامه . كثيرا من الناس يظنون أن القائل بالجهة أو الاستواء هو من المجسمة
فإن ، ويعتقدون أن من وصفه تعالى بالجسم ، أو كيف فقد زاغ وألحد . أهل الإثبات المتبعين للمنصوص من الأخبار والآيات ، ينزهون الله تعالى عن التكييف والحد
ولهذا قال لما أثبت له صفة الاستواء كما ورد في القرآن العظيم ، والذكر الحكيم نؤمن بأنه عز وجل استوى على عرشه ( ( من غير كيف ) ) ، كما روى اللالكائي الحافظ في كتابه ( السنة ) من طريق ، عن قرة بن خالد ، عن أمه الحسن البصري خيرة مولاة أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - ، عن - رضي الله عنها - أنها قالت في قوله تعالى أم سلمة الرحمن على العرش استوى الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، والبحث عنه كفر . وهذا له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي .
وفي لفظ آخر قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .
وروى عن أبيه ، يحيى بن آدم ، قال : سئل وابن عيينة - المشهور بربيعة الرأي ، وهو شيخ ربيعة بن أبي عبد الرحمن - رضي الله عنه - عن قوله تعالى الإمام مالك بن أنس الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق .
وروي نحو ذلك أيضا عن رضي الله عنه فقد ذكر الإمام مالك الإمام يوسف بن عبد البر في كتابه ( ( التمهيد ) ) قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن مؤمن ، قال : حدثنا ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا سريج بن النعمان عبد الله بن نافع ، قال : قال الإمام : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان . مالك بن أنس
قال : وقيل لمالك : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ فقال مالك - رحمه الله - : استواؤه معلوم ، وكيفيته مجهولة ، وسؤالك عن هذا بدعة ، وأراك رجل سوء .
ويروى عن أنه سئل عن الاستواء ، فقال : هذا من متشابه القرآن نؤمن به ، ولا [ ص: 200 ] تتعرض لمعناه . الشعبي
وروي عن الإمام - رضي الله عنه - أنه سئل عن الاستواء ، فقال : آمنت بلا تشبيه ، وصدقت بلا تمثيل ، واتهمت نفسي في الإدراك ، وأمسكت عن الخوض غاية الإمساك . الشافعي
وعن سيدنا - رضي الله عنه - أنه لما سئل عن الاستواء ، أجاب بقوله : استوى كما ذكر ، لا كما يخطر للبشر . الإمام أحمد
فمعنى قول - رضي الله عنها - في الحديث ومن نحا نحوها من الأئمة : الاستواء معلوم أي وصفه تعالى بأنه تعالى على العرش ( استوى ) استواء معلوم بطريق النقل الثابت بالتواتر ، وأما الوقوف على حقيقة أمر يعود إلى الكيفية فمجهول ، والجهالة فيه من جهة أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الكيفية لأنها تبع للماهية . أم سلمة
وقولهم " والسؤال عنه بدعة " لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسألوا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتابعين لم يسألوا الصحابة ، ولأن جوابه يتضمن الكيفية .
ولهذا قيل في الجواب لمن دخلت عليهم الشبهة طالبين بسؤالهم التكييف : والكيف مجهول ، فالذي ثبت نفيه بالشرع والعقل ، واتباع السلف ، إنما هو علم العباد بالكيفية ، فعندها تنقطع الأطماع ، وعن دركها تقصر العقول .
والوقوف على درج سلم التسليم منتهى همم الأئمة الفحول ، ولهذا قال في تتمة نظمه ملوحا بالرد على الممثل والمعطل بقوله ( ( قد تعالى ) ) الله علا وجل ، ولسنا في اتباع المأثور مع التسليم للمولى الحكيم على وجل ، فإنا نقتفي أثر المأثور ، ونشهر سيوف السنة لأعناق أهل البدع والنفي باتباع المشهور ، ونرد على كل من ألحد [ ص: 201 ] بأن الله تعالى وتقدس وتنزه من ( ( أن يحد ) ) أو يقاس بما يحد ، وفيه إشارة إلى رد زعم من زعم بأنه يلزم من كونه تعالى مستويا على عرشه أن [ ص: 202 ] يحد .
قال الإمام القرطبي ، ، وابن أبي زيد من المالكية ، وجماعة من شيوخ الحديث والفقه ، والقاضي عبد الوهاب ، وابن عبد البر ، والقاضي أبو بكر بن العربي ، وغيرهم ممن لا يحصى عددهم أنه سبحانه مستو على العرش [ ص: 203 ] بذاته ، وأطلقوا في بعض الأماكن : فوق عرشه ، قال وابن فورك القاضي أبو بكر - وهو الصحيح الذي أقول به - : من غير تحديد ، ولا تمكن في مكان ولا مماسة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : استوى على عرشه على الوجه الذي يستحقه [ ص: 204 ] سبحانه من الصفات اللائقة به ، قال : فإن قال قائل : لو كان الله تعالى فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا ، وذلك كله [ ص: 205 ] محال ، ونحو ذلك من الكلام ، والجواب أن يقال إن هذا لم يفهم من كون الله على العرش ، إلا ما يثبت للأجسام ، فهذا اللازم تابع لهذا المفهوم ، وأما [ ص: 206 ] استواء يليق بجلال الله يختص بعظمته ، فلا يلزم شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام ، وحال هذا القائل مثل قول من يقول إذا كان للعالم صانع ، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا ، وكلاهما محال إذا لا يعقل موجود إلا كذلك .
قال : والقول الفصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ، فكما أنه تعالى موصوف بالعلم والبصر والقدرة ، ولا يثبت لذلك خصائص الأعراض التي للمخلوقين ، فكذلك سبحانه هو فوق عرشه ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوقين على المخلوق تعالى الله عن ذلك .
فلدفع هذا الوهم أشار في النظم لنفي التحديد ، المتحذلق به كل ملحد وعنيد ، وقال الإمام القرطبي أظهر الأقوال ، وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار ، إن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائن من جميع خلقه ، هذا جملة مذهب السلف الصالح ، انتهى .
والعجب من القرطبي حيث يقول : وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ، ولعله خشي من تحريف الحسدة فدفع وهمهم بذلك ، قاله العلامة الشيخ مرعي ، وبهذا قال الجماهير الحنابلة لكن قالوا : استوى على الوجه الذي يستحقه لذاته مما لا يشاركه فيه المحدث ، ولا يشابهه ولا يماثله ، ولا يدل على إثبات كمية ، ولا صفة كيفية بل على الوجه الذي يستحقه الله لنفسه .
قالوا وإلى هذه الإشارة في حديث - رضي الله عنها - في الحديث المار : الاستواء معلوم والكيف مجهول - الحديث ، ورضي الله تعالى عن أم المؤمنين أم سلمة حيث قال : أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به الإمام مالك جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدل هؤلاء ؟ وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر فلم يبق إلا الرجوع لما قاله الله ورسوله والتسليم لهما .