روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في ألف وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف ، ووعدهم الفتح إن صبروا . ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس . وسبب انخذاله أنه أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين شاوره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني ، وقال : يا قوم ، علام نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري - وفي رواية : أبو جابر السلمي - فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم ، فقال عبد الله : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ، ومضوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا الهم غير مؤاخذ به ؛ إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم . ولا شك أن النفس عندما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر - يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر ، ألا ترى إلى قول الشاعر : ابن عباس
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
وإذ همت : بدل من " إذ غدوت " . قال : أو عمل فيه معنى " الزمخشري سميع عليم " . انتهى . وهذا غير محرر ؛ لأن العامل لا يكون مركبا من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع . وجوز أن يكون معمولا لـ " تبوئ " ، ولـ " غدوت " . و " هم " يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال . وما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل :
قاتلوا القوم بالخداع ولا يأخذكم عن قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن خلاف ذكرناه في " عقد اللآلي في القراءات السبع [ ص: 47 ] العوالي " من إنشائنا . والظاهر أن هذا الهم كان عند تبوئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاعد للقتال وانخذال قالون عبد الله بمن انخذل . وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي . وفي قوله : " طائفتان " إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ؛ إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صرح بمن هما منه من القبائل ؛ سترا عليهما .
( والله وليهما ) معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا . وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته . وفي عن البخاري قال : فينا نزلت ( جابر بن عبد الله الأنصاري إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ) قال : نحن الطائفتان بنو حارثة ، وبنو سلمة . وما نحب أنها لم تنزل ؛ لقول الله : ( والله وليهما ) ، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزما كانت سببا لنزولها . وقرأ عبد الله : والله " وليهم " ، أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ( هذان خصمان اختصموا ) وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين .
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومن كان الله وليه فلا يفوض أمره إلا إليه . أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك . ونبه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ؛ لأن من آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ؛ ولذلك قال : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) وأتى به عاما لتندرج الطائفتان الهامتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقه من قام به الإيمان . وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسير معه .