وقرأ الصديق ، وأبو قائلة ، والجراح ( لا تزغ قلوبنا ) بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم ( لا يزغ ) بالياء مفتوحة ، ورفع باء ( قلوبنا ) جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب ، وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك هاهنا ، و
لا أعرفن ربربا حورا مدامعه
أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال ، وقيل : بعد إذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و ( إذ ) أصلها أن تكون ظرفا ، وهنا أضيف إليها ( بعد ) فصارت اسما غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضافة إليها تخرجها عن هذا الحكم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين ) ؟ ( يوم لا تملك ) في قراءة من رفع ( يوم ) وقول الشاعر :على حين عاتبت المشيب على الصبا
على حين من تكتب عليه ذنوبه على حين الكرام قليل ألا ليت أيام الصفاء جديد كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبرا ومجرورا بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟
( وهب لنا من لدنك رحمة ) سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ؛ لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيما ، أو ثوابا صادرا عن الرحمة ، ولما كان المسئول صادرا عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراء للسبب مجرى المسبب ، وقيل : معنى ( رحمة ) توفيقا وسدادا وتثبيتا لما نحن عليه من الإيمان والهدى .
( إنك أنت الوهاب ) هذا كالتعليل لقولهم : وهب [ ص: 387 ] لنا ، كقولك : حل هذا المشكل إنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهوب ، لمناسبة رءوس الآي ، ويجوز في ( أنت ) التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء .
( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ) لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم ، ومعنى ليوم لا ريب فيه أي : لجزاء يوم ، ومعنى لا ريب فيه لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه .
وقيل : اللام ، بمعنى في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم ( جامع الناس ) بالتنوين ، ونصب ( الناس )
وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ؛ إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، والضمير في ( فيه ) عائد على اليوم ؛ إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من ( جامع ) أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد .
( إن الله لا يخلف الميعاد ) ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين ، قال : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، و ( الميعاد ) الموعد ، انتهى كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، وقد استدل الجبائي بقوله : ( الزمخشري إن الله لا يخلف الميعاد ) على القطع بوعيد الفساق مطلقا ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد .
وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به ، قال الشاعر :
إذا وعد السراء أنجز وعده وإن وعد الضراء فالعفو مانعه
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ؛ إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد ، وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث والمجازاة والإيفاء بما وعد تعالى .
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) قيل : المراد وفد نجران ؛ لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال ، وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم . قال : ابن عباس قريظة ، والنضير ، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامة تتناول كل كافر .
ومعنى ( من الله ) أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) وفي قوله : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) وفي قوله : ( وتكاثر في الأموال والأولاد ) وفي قوله : ( لا ينفع مال ولا بنون ) بخلاف قوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة ) إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .
وقرأ أبو عبد الرحمن : [ ص: 388 ] ( لن يغني ) بالياء على تذكير العلامة ، وقرأ علي ( لن يغني ) بسكون الياء ، وقرأ الحسن ( لن يغني ) بالياء أولا وبالياء الساكنة آخرا ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع ، وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم .
و ( من ) لابتداء الغاية عند ، وبمعنى عند ، قاله المبرد أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون ( من ) بمعنى عند ضعيف جدا .
وقال : قوله : ( من الله ) مثله في قوله : ( الزمخشري إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئا ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق ، ومنه : ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي : لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك ، وما عندك ، وفي معناه قوله تعالى : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) انتهى كلامه .
وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل ، واستدل بقوله تعالى : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ( لجعلنا منكم ملائكة ) أي : بدل الآخرة وبدلكم ، وقال الشاعر :
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفيلا
أي : بدل الفصيل ، وشيئا ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول : ضربت شيئا من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ؛ لأن معنى ( لن تغني ) لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون ( من ) في موضع الحال من ( شيئا ) لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدم انتصب على الحال ، وتكون ( من ) إذ ذاك للتبعيض .
فتلخص في ( من ) أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول ، المبرد والكلبي ، وكونها بمعنى ( عند ) وهو قول أبي عبيدة ، والبدلية ، وهو قول ، والتبعيض ، وهو الذي قررناه . الزمخشري
( وأولئك هم وقود النار ) لما قدم إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم ، وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر إن ، واحتمل أن تكون مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك إلى بعدهم ، وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدم الكلام في الوقود في قوله : ( وقودها الناس والحجارة ) .
وقرأ الحسن ومجاهد وغيرهما ( وقود ) بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقودا ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا .
وقد قيل في المصدر أيضا : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدم ذكر ذلك ، وهم يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلا .
( كدأب آل فرعون ) لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه [ ص: 389 ] ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ؛ لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخرا إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمن آمن به ، أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاستئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنيا وصاروا إلى النار .
واختلفوا في إعراب ( كدأب ) فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية ، وقيل : هو في موضع نصب بـ ( وقود ) أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله . الزمخشري
وقيل : بفعل مقدر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابن عطية ، وقيل : من معناه أي : عذبوا تعذيبا كدأب آل فرعون ، ويدل عليه وقود النار .
وقيل : بـ ( لن تغني ) أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله ، وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي : ( الزمخشري وأولئك هم وقود النار ) على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فإن قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله ، وقيل : بفعل منصوب من معنى ( لن تغني ) أي : بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلانا كعادة الزمخشري آل فرعون .
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفرا كدأب والعامل فيه ( كفروا ) قاله الفراء وهو خطأ ؛ لأنه إذا كان معمولا للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولا لما في الصلة ، وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفرا كعادة آل فرعون .
وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في ( كذبوا ) على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : كذبوا تكذيبا كعادة آل فرعون .
وقيل : يتعلق بقوله : ( فأخذهم الله بذنوبهم ) أي : أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ؛ لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيدا قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول . فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف .
قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه ، ويقال للعادة : دأب ، وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر ( كدأب ) بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غليم على أي شيء يجوز كدأب ؟ فقلت له : أظنه من دئب يدأب دأبا ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا ؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤبا هكذا حكى النحويون ، منهم الفراء ، حكاه في كتاب ( المصادر ) .
و ( آل فرعون ) أشياعه وأتباعه . ( والذين من قبلهم ) هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم ، فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموضع ( والذين ) جر عطفا على آل فرعون .
( كذبوا بآياتنا ) هذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ؟ وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدر ، وجوزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : ( كدأب آل فرعون ) ثم ابتدأ فقال : ( والذين من قبلهم كذبوا ) فيكون ( الذين ) مبتدأ ، و ( كذبوا ) خبره وفي قوله : ( بآياتنا ) التفات ؛ إذ قبله ( من الله ) ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم .
والآيات يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل [ ص: 390 ] أن تكون . العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه
( فأخذهم الله بذنوبهم ) رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في بذنوبهم للسبب .
( والله شديد العقاب ) تقدم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها ، قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام .
ومجاز التشبيه في مواضع منها ( نزل عليك الكتاب بالحق ) وحقيقة النزول طرح جرم من علو إلى أسفل ، والقرآن مثبت في اللوح المحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله : ( لما بين يديه ) القرآن مصدق لما تقدمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئا فشيئا ، وفي قوله : ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان ) أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمرا ، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله : ( عذاب شديد ) شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله : ( يصوركم ) شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصور يمثل شيئا ، فيضم جرما إلى جرم ، ويصور منه صورة وفي قوله : ( منه آيات محكمات ) جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكما ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرع منها فروع متعددة ترجع إليها بالأم التي ترجع إليها ما تفرع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والآيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ، وفي قوله : ( في قلوبهم زيغ ) شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله : ( وهب لنا من لدنك رحمة ) شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير بالمحسوس من الأجرام من العوض والمعوض في الهبة ، وفي قوله : ( وقود النار ) شبههم بالحطب الذي لا ينتفع به إلا في الوقود ، وقال تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله : ( فأخذهم الله بذنوبهم ) شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ .
وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلا كدأب آل فرعون فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه .
والاختصاص في مواضع ، منها في قوله : نزل عليك الكتاب إلى وأنزل الفرقان على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ؛ لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله : لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء خصهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده ، وفي قوله : والراسخون اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ، وفي قوله : أولو الألباب لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ، والاعتبار ، وفي قوله : لا تزغ قلوبنا اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله : إنك جامع الناس ليوم وهو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياء وفي بطنها أمواتا ؛ لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلا في ذلك اليوم ، ولا جامع إلا هو تعالى ، وفي قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم اختص الكفار ؛ لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم [ ص: 391 ] أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجابا من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغارا ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كبارا . وكل هذا ورد به الحديث الصحيح .
وفي قوله : ( كدأب آل فرعون ) خصهم بالذكر ، وقدمهم ; لأنهم أكثر الأمم طغيانا ، وأعظمهم تعنتا على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذابا .
والحذف في مواضع ، في قوله : ( لما بين يديه ) أي : من الكتب ، و ( أنزل التوراة والإنجيل ) أي : وأنزل الإنجيل ; لأن الإنزالين في زمانين .
( هدى للناس ) أي : الذين أراد هداهم . ( عذاب شديد ) : أي : يوم القيامة .
( ذو انتقام ) أي : ممن أراد عقوبته . ( في الأرض ولا في السماء ) أي : ولا في غيرهما ( العزيز ) أي : في ملكه . ( الحكيم ) أي : في صنعه . ( وأخر ) أي : آيات أخر . ( زيغ ) أي : عن الحق . ( ابتغاء الفتنة ) أي : لكم . ( وابتغاء تأويله ) أي : على غير الوجه المراد منه ، ( وما يعلم تأويله ) أي : على الحقيقة المطلوبة . ( ربنا ) أي : يا ربنا ، ( ربنا لا تزغ قلوبنا ) أي : عن الحق ، ( بعد إذ هديتنا ) أي : إليه ، ( كذبوا بآياتنا ) أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علما على التوحيد ، ( بذنوبهم ) أي : السالفة .
والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان . كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه . بآيات الله ، والله كرر اسمه تعالى تفخيما ; لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر . ( لا إله إلا هو الحي القيوم ) ( لا إله إلا هو العزيز ) . كرر الجملة تنبيها على استقرار ذلك في النفوس ، وردا على من زعم أن معه إلها غيره . ( ابتغاء تأويله ) ، ( وما يعلم تأويله ) كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل . ( ربنا لا تزغ ) ، ( ربنا إنك ) . كرر الدعاء ; تنبيها على ملازمته ، وتحذيرا من الغفلة عنه ، لما فيه من إظهار الافتقار .
والتقديم والتأخير وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولا ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن . وقدم القرآن ; لشرفه ، وعظم ثوابه ، ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان . وثنى بالتوراة ; لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط .
وروى المفضل : أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقا ، ثم ثلث بالإنجيل ; لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور ; لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله : ( في الأرض ولا في السماء ) قدم الأرض على السماء ، وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ; ليعلمهم اطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ; لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه .
والالتفات ( ربنا إنك جامع ) ثم قال : ( إن الله ) وفي قوله : ( كذبوا بآياتنا ) ثم قال : ( والله شديد العقاب ) .
والتأكيد : ( وأولئك هم وقود النار ) فأكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله : ( هو الذي يصوركم ) قوله ( لا إله إلا هو ) وأكد بقوله : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) قوله : ( نزل عليك الكتاب ) .
والتوسع بإقامة المصدر ، مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هاديا ، والفارق . وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من الله ، أي : عند الله ، على قول من أول من : بمعنى " عند " . والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب .