ويكون قوله ( والراسخون ) مبتدأ ، و ( يقولون ) خبر عنه ، وقيل : ( والراسخون ) معطوف على الله ( وهم يعلمون تأويله ) و ( يقولون ) حال منهم أي : قائلين ، وروي هذا عن أيضا ، ابن عباس ومجاهد ، والربيع بن أنس ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين ، ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلا بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزا لما ذم بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا ( آمنا به ) ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ؛ لأن من علم شيئا على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان ( الراسخون ) ، معطوفا على ( الله ) للزم أن يكون ( يقولون ) خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء أو هم ، فيلزم الإضمار ، أو حالا ، والمتقدم ( الله والراسخون ) فيكون حالا من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر ، ولأن قوله : ( كل من عند ربنا ) يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : ابن عباس
تفسير لا يقع جهله .
وتفسير تعرفه العرب بألسنتها .
وتفسير يعلمه العلماء .
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى .
وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، ، فيما رواه وابن عباس عنه طاوس إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به وقراءة عبد الله ( وابتغاء تأويله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون ) . ورجح القول الثاني وأطنب في ذلك . ابن فورك
وفي قوله [ ص: 385 ] صلى الله عليه وسلم - : لابن عباس ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك ، وكان اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غواص ، ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب .
وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوي فيه الراسخ وغيره ، والمتشابه منه ما لا يعلمه إلا الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك ، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى : ( وروح منه ) إلى غير ذلك ، ولا يسمى راسخا إلا من يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ .
فقوله : ( إلا الله ) مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعا ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب ، ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلا فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط .
وإن جعلنا ( والراسخون ) مبتدأ مقطوعا مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ؟
وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال بهما ، ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ؛ لأنه تخصيص لبعض المتشابه ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على ( الله ) وإياه اختار ابن عباس ، قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع ، و ( يقولون ) كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون : ( آمنا به ) أي : بالمتشابه ، انتهى كلامه . الزمخشري
وتلخص في إعراب ( والراسخون ) وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على قوله : ( الله ) ويكون في إعراب ( يقولون ) وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف ، والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلا زيد وهند ضاحكة .
والثاني من إعراب ( والراسخون ) أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : ( يقولون ) خبرا عنه ، ويكون من عطف الجمل .
وقيل : ( الراسخون في العلم ) مؤمنو أهل الكتاب وأصحابه ، بدليل ( كعبد الله بن سلام لكن الراسخون في العلم منهم ) يعني الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع .
( كل من عند ربنا ) هذا من المقول ، ومفعول ( يقولون ) قوله : ( آمنا به كل من عند ربنا ) وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله :
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم
كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الود ، والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب . والتنوين في ( كل ) للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به ، وأضاف العندية إلى قوله : ( ربنا ) لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما [ ص: 386 ] أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكما .
( وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلا أصحاب العقول ؛ إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما أشتبه من القرآن فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزا لإدراك الواجب والجائز والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارئ تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ما لا يجوز في العقل . وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب . وقال : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل . الزمخشري
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا .
ومعنى الإزاغة هنا الضلالة ، وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله .
وقال : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد . وقال الزجاج ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا ، وهذه نزغة اعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان ، ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا ، وقال الجبائي أيضا : لا تزغنا عن جنتك وثوابك . وقال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ . وقال : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا ، انتهى . الزمخشري