وقيل : فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يدخل أسماعهم القرآن ، ذكره . و ( ابن الأنباري يثنون ) : مضارع ثنى ، قراءة الجمهور . وقرأ : يثنون بضم الياء مضارع أثنى . ( صدورهم ) : بالنصب ، قال صاحب اللوامح : ولا يعرف الإثناء في هذا الباب إلا أن يراد به : وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم ، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار ، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعا على البدل ، بدل البعض من الكل . وقال سعيد بن جبير أبو البقاء : ماضيه أثنى ، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال : معناه : عرضوها للإثناء ، كما يقال : أبعت الفرس ؟ إذا عرضته للبيع . وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ، ومجاهد وابن يعمر ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن أبزى والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو الأسود الدؤلي وأبو رزين والضحاك : تثنوني بالتاء مضارع أثنوني على وزن : افعوعل ، نحو : اعشوشب المكان . صدورهم : بالرفع بمعنى : تنطوي صدورهم . وقرأ أيضا ابن عباس ومجاهد وابن يعمر وابن أبي إسحاق : يثنوني بالياء ، صدورهم بالرفع ، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة . وقرأ أيضا : ليثنون بلام التأكيد في خبر إن ، وحذف الياء تخفيفا ، وصدورهم رفع . وقرأ ابن عباس أيضا ابن عباس وعروة وابن أبي أبزى والأعشى : يثنون ووزنه : يفعوعل من الثن ، بني منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ ، وأصله : يثنونن يريد : مطاوعة نفوسهم للشيء ، كما ينثني الهش من النبات . أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم . وصدورهم : بالرفع . وقرأ عروة ومجاهد أيضا : كذلك إلا أنه همز فقرأ : يثنئن مثل : يطمئن ، وصدورهم رفع ، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل : أشاح .
وقد قيل أن يثنئن : يفعئل من الثن المتقدم ، مثل تحمار وتصفار ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر ، فانقلبت همزة . وقرأ الأعشى : يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام ، صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه لأنه يقال : ثنيت ، ولم أسمع ثنأت .
ويجوز أنه قلب الياء ألفا على لغة من يقول : أعطأت في : أعطيت ، ثم همز على لغة من يقول : ( ولا الضالين ) ، وقرأ : يثنوي بتقديم الثاء على النون ، وبغير نون بعد الواو على وزن : ترعوي . قال ابن عباس أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه ، انتهى . وإنما قال ذلك لأنه لاحظ الواو في هذا الفعل لا يقال : ثنوته فانثوى كما يقال : رعوته ، أي : كففته فارعوى فانكف ، ووزنه افعل .
وقرأ نصر بن عاصم وابن يعمر وابن أبي إسحاق : ينثون بتقديم النون على الثاء ، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة . والضمير في إنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكفار ، أي : يطوون صدورهم على عدواته . قال : [ ص: 203 ] يثنون صدورهم : يزورون عن الحق وينحرفون عنه ، لأن من أقبل على الشيء : استقبله بصدره ، ومن ازور عنه وانحرف : ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ، ( الزمخشري ليستخفوا منه ) يعني : ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم . ونظير إضمار يريدون ، لعود المعنى إلى إضماره ، الإضمار في قوله تعالى : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) معناه : فضرب فانفلق . ومعنى ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم ، أيضا كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام : ( جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا ) انتهى .
فالضمير في منه على قوله : عائد على الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى ، انتهى .
ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عطية . قال : قيل : إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر ، وردوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم : تباعدا منهم وكراهية للقائه ، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية ، انتهى . فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقا بقوله ( يثنون ) ، وكذا قال الحوفي . وقيل : هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها ، فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها ، ليخفى في ظنهم عن الله عز وجل ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون ، انتهى .
فعلى هذا يكون حين معمولا لقوله : ( يعلم ) ، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم . وقال الزمخشري أبو البقاء : ( ألا حين ) : العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون ، ويجوز أن يكون ظرفا ليعلم .
وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين ، وبلغ من جهلهم أن ذلك يخفى على الله تعالى . قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حنى ظهره واستغشى ثوبه ، وأضمر في نفسه همته .
وقال مجاهد : يطوونها على الكفر . وقال : يخفون ما في صدورهم من الشحناء . وقال ابن عباس قتادة : يخفون ليسمعوا كلام الله . وقال ابن زيد : يكتمونها إذا ناجى بعضهم بعضا في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : يثنونها حياء من الله تعالى ، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية . ومنه قول الخنساء :
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري
وقيل : المراد بالثياب : الليل ، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر ، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ، وقرأ : ( على حين يستغشون ) . قال ابن عباس ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة :على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقال : ما يسرون بقلوبهم وما يعلنون بأفواههم . وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار . وقال ابن عباس : معناه : أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم . ابن الأنباري
وقال : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشائهم بثيابهم . ونفاقهم غير نافق عنده . وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون : ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، لأن ذلك كله من أعمال القلوب ، وأعمال القلوب خفيه جدا ، وأراد بما يعلنون : ما يظهرونه من استدبارهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتغشية ثيابهم ، وسد [ ص: 204 ] آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى . ( الزمخشري ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) : الدابة هنا : عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق ، و ( على الله ) : ظاهر في الوجوب ، وإنما هو تفضل ، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب . قال : ( ابن عباس مستقرها ) : حيث تأوي إليه من الأرض ، ( ومستودعها ) : الموضع الذي تموت فيه فتدفن . وعنه أيضا : مستقرها : في الرحم ، ومستودعها : في الصلب .
وقال : مستقرها : في أيام حياتها ، ومستودعها : حين تموت وحين تبعث . وقيل : مستقرها : في الجنة أو : في النار ، ومستودعها : في القبر ، ويدل عليه : ( الربيع بن أنس حسنت مستقرا ) و ( ساءت مستقرا ) وقيل : ما يستقر عليه عملها ، ومستودعها : ما تصير إليه .
وقيل : المستقر : ما حصل موجودا من الحيوان ، والمستودع : ما سيوجد بعد المستقر . وقال : المستقر : مكانه من الأرض ومسكنه ، والمستودع : حيث كان موجودا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة ، انتهى . ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين ، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان ، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدي الفعل منه ، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل ، أي : كل من الرزق . والمستقر والمستودع في اللوح يعني : وذكرها مكتوب فيه مبين . وقيل : الكتاب : هنا مجاز ، وهو : إشارة إلى علم الله ، وحمله على الظاهر أولى . ( الزمخشري ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق هم ما كانوا به يستهزئون ) : لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالما ، ذكر ما يدل على كونه قادرا ، وتقدم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس . والظاهر أن قوله : ( وكان عرشه على الماء ) : تقديره : قبل خلق السماوات والأرض ، وفي هذا دليل على أن الماء والعرش كانا مخلوقين قبل .
قال كعب : خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء . وروي عن أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء ؟ قال : كان على متن الريح ، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق . قال ابن عباس : أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه . ولما أشبه [ ص: 205 ] ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم ، يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون . ( فإن قلت ) : كيف جاز تعليق فعل البلوى ؟ ( قلت ) : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق الله ، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجها ، واستمع أيهم أحسن صوتا ، لأن النظر والاستماع من طرق العلم ، انتهى . وفي قوله : ( ومن كفر وعصى ) : عاقبه دسيسة الاعتزال . وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتا ، فلا أعلم أحدا ذكر أن استمع : تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب : سل وانظر ، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف . وقيل : ( ليبلوكم ) متعلق بفعل محذوف تقديره : أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا التأويل : أن هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر . الزمخشري
وقيل : تقدير الفعل : وخلقكم ليبلوكم . وقيل : في الكلام جمل محذوفة ، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى ، وفعل ذلك ليبلوكم . ومعنى ( أيكم أحسن عملا ) : أهذا أحسن أم هذا . قال ابن بحر : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله " ولو صح هذا التفسير عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعدل عنه .
وقال الحسن : أزهد في الله . وقال مقاتل : أتقى لله . وقال الضحاك : أكثركم شكرا . قال : ( فإن قلت ) : فكيف قيل : ( الزمخشري أيكم أحسن عملا ) ، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح ( قلت ) : الذين هم أحسن عملا هم : المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم تشريفا لهم وتنبيها على مكانهم ، وليكون ذلك تيقظا للسامعين وترغيبا في حيازة فضلهم ، انتهى .
ولئن قلت : خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم . وقرأ عيسى الثقفي : ولئن قلت : بضم التاء إخبارا عنه تعالى ، والمعنى : ولئن قلت : مستدلا على البعث من بعد الموت ، إذ في قوله تعالى : ( وهو الذي خلق ) دلالة على القدرة العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة ، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه .
وقرئ : أيكم بفتح الهمزة . قال : ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق إنك تشتري لحما ، بمعنى علك ، أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى : توقعوا بعثكم وظنوه ، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا : ويجوز أن يضمن قلت معنى : ذكرت ، انتهى . الزمخشري
يعني : فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت ، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول ، أي : إن قولك : إنكم مبعوثون إلا سحر ، أي : بطلان هذا القول كبطلان السحر ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث . أي : إن البعث .
وقيل : أشاروا بهذا إلى القرآن ، وهو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره . قال ابن عطية : كذبوا وقالوا : هذا سحر ، فهذا تناقض منهم إن كان مفطورا بقربات الله فاطر السماوات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور ، إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، انتهى . وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة : سحر . وقرأت فرقة : ساحر ، يريدون : والساحر كاذب مبطل ، ولئن أخرنا ، حكى تعالى نوعا آخر من أباطيلهم واستهزائهم ، والعذاب هنا : عذاب القيامة . وقيل : عذاب يوم بدر . وعن : قتل ابن عباس جبريل المستهزئين ، والظاهر : العذاب الموعود به ، والأمة هنا المدة من الزمان قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والجمهور ، ومعناه : إلى حين ووقت معلوم ما يحبسه استفهام ، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء . قال : سميت المدة : أمة ، لأنها يقضى فيها أمة من الناس وتحدث أخرى ، فهي على هذا المدة الطويلة ، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يرده شيء [ ص: 206 ] ولا يصرفه . والظاهر أن يوم منصوب بقوله : مصروفا ، فهو معمول لخبر ليس . وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا : لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل ، ونسب هذا المذهب لـ الطبري ، وعليه أكثر البصريين . وذهب الكوفيون سيبويه : إلى أنه لا يجوز ذلك ، وقالوا : لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل . والمبرد
وأيضا فإن الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو : إن اليوم زيدا مسافر ، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها ، ولا بمعموله ، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وقول الشاعر : فيأبى فما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخفا لست أقدم وتقدم تفسير جملة ( وحاق بهم ) . ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) : لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله ، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله . والظاهر أن الإنسان هنا هو : جنس ، والمعنى : إن هذا الخلق في سجايا الناس ، ثم استثنى منهم : الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح ، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله : إلا الذين صبروا متصلا . وقيل : المراد هنا بالإنسان : الكافر .
وقيل : المراد به : إنسان معين ، فقال : ابن عباس والوليد بن المغيرة ، وفيه نزلت . وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي ، وذكره الواحدي ، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعا ، ومعنى ( رحمة ) نعمة من صحة وأمن وجدة . ( ثم نزعناها ) أي : سلبناها منه .
و ( ليئوس كفور ) : صفتا مبالغة ، والمعنى : إنه شديد اليأس كثيره ، ييأس أن يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة ، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه . ( كفور ) : كثير الكفران لما سلف لله عليه من نعمة ، ذكر حالة الإنسان إذ بدئ بالنعمة ولم يسبقه الضر ، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر .
ومعنى ذهب السيئات أي : المصائب التي تسوءني . وقوله هذا يقتضي نظرا وجهلا ، لأن ذلك بإنعام من الله ، وهو يعتقد أن ذلك اتفاق أو يسعد ، وهو اعتقاد فاسد .
إنه لفرح : أشر بطر ، وهذا الفرح مطلق ، فلذلك ذم المتصف به ، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيدا بما فيه خير كقوله : ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) وقرأ الجمهور : ( لفرح ) بكسر الراء ، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم . وقرأت فرقة : لفرح بضم الراء ، وهي كما تقول : ندس ونطس .
وفخره : هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء ، واستثنى تعالى الصابرين يعني : على الضراء وعاملي الصالحات . ومنها الشكر على النعماء . أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه ، و ( أجر كبير ) هو : الجنة ، فيقتضي الفوز بالثواب . ووصف الأجر بقوله : كبير ، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف ، والأمن من العذاب ، ورضا الله عنهم ، والنظر إلى وجهه الكريم .