( أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) : قال : كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشادا ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم . الزمخشري
ومن اقتراحاتهم : لولا أنزل عليه كنز ، أو جاء معه ملك ، وكانوا لا يعتدون بالقرآن ، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر - رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) أي : [ ص: 207 ] لعلك تترك أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به ، ( وضائق به صدرك ) : بأن تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه .
ثم قال : ( إنما أنت نذير ) أي : ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا ، ( والله على كل شيء وكيل ) : يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يحب أن يفعل ، فتوكل عليه وكل أمرك إليه .
وقال ابن عطية : سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك ، وقالوا ( ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) ونحو هذا من الأقوال ، فخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - على هذه الصورة من المخاطبة ، وقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ، ومبطلا لها . وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره به ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان .
ولعلك هاهنا بمعنى : التوقيف والتقرير ، وما يوحى إليه هو : القرآن والدعاء إلى الله ، كان في ذلك سب آلهتهم ، وتسفيه آبائهم أو غيره . ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عظم عليه ما يلقى من الشدة ، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت آيات الموادعة .
وعبر بـ ( ضائق ) دون ضيق : للمناسبة في اللفظ مع ( تارك ) ، وإن كان ضيق أكثر استعمالا ، لأنه وصف لازم ، وضائق وصف عارض . وقال : ( فإن قلت ) : لم عدل عن ضيق إلى ضائق ؟ ( قلت ) : ليدل على أن ( ضيق ) عارض غير ثابت ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أفسح الناس صدرا . ومثله قولك : سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد ، انتهى . وليس هذا الحكم مختصا بهذه الألفاظ ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث ، فنقول : حاسن من حسن ، وثاقل من ثقل ، وفارح من فرح ، وسامن من سمن ، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه : بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها والظاهر عود الضمير في به على بعض . وقيل : على ما ، وقيل : على التبليغ ، وقيل : على التكذيب ، قيل : ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل ، والمعنى : هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك ؟ وقدروا كراهته أن يقولوا ، ولئلا يقولوا ، وبأن يقولوا ، ثلاثة أقوال . والكنز : المال الكثير . الزمخشري
وقالوا : أنزل ولم يقولوا : أعطي ، لأن مرادهم التعجيز ، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة ، فإن الكنوز إنما تكون في الأرض .
وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان ، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار ، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال ، كالناقة لثمود .
وآنسه تعالى بقوله : ( إنما أنت نذير ) ، أي : الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم ، فإن ذلك إنما هو لله تعالى . وقال مقاتل : وقيل : كافل بالمصالح : قادر عليها . وقال ابن عطية : المحصي لإيمان من شاء ، وكفر من شاء . قيل : وهذه الآية منسوخة ، وقيل : محكمة .