( والمسيح ابن مريم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) تعدت اتخذ هنا لمفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى . قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعا في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث . وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله ، والسجود لا يكون إلا لله ، فأطلق عليهم ذلك مجازا . وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أربابا حقيقة . ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيرا ، وقالوا بالاتحاد . وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر . وحكى عدي بن حاتم أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشيا في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقى من أتباعه ادعى الإلهية . وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة ؟ انتهى . وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتابا في هذه الطائفة ، فذكر فيهم ، الحسين بن منصور الحلاج وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان ، وإبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بـ " لورقة " ، وأبا عبد الله بن العربي الطائي ، ، وعمر بن علي بن الفارض وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضا ، والعفيف التلمساني . وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب . وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب . وكان أبو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطا له خلطة كثيرة ، وكان متهما بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هاربا إلى الشام من القتل على الزندقة . وأما ملوك العبيديين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي ، وآخرهم سليمان المتلقب بالعاضد . والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع . أخبر عن المجموع ، وعاد كل إلى ما يناسبه ؛ أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم . ( والمسيح ابن مريم ) عطف على ( رهبانهم ) .
( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ; أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم . وقيل : في القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الكتب الثلاثة . وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء . وقال : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل الزمخشري والمسيح عليه السلام ، أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة . وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أربابا ; أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون ؟ وفي قوله : ( عما يشركون ) دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى .