وقد وجهها بعض من قال : إنها نزلت في اليهود بغير ذلك الوجه الخاص في رواية الصحيحين ، عن ، ومما أخرجه ابن عباس ، عن ابن جرير في ذلك أنه قال : هم أهل الكتاب ، أنزل عليهم الكتاب ، فحكموا بغير الحق ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فرحوا بأنهم كفروا ابن عباس بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل الله ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصلون ، ويطيعون الله ، وروي عن الضحاك : أنهم فرحوا بما أتوا من تكذيب النبي ، والكفر به ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، وهو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام . وهذا وجه وجيه وهو الذي اختاره ، وبمثل هذا العموم يوجه نزولها في المنافقين . ابن جرير
الأستاذ الإمام : كان الكلام في أهل الكتاب لتحذير المسلمين من مثل فعلهم في سياق الحض على الاستمساك بعروة الحق ، وحفظه ، والدعوة إليه ، إذ أخذ على أولئك الميثاق ، فقصروا فيه ، وتركوا العمل بالكتاب ، وتبيينه للناس ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فاستحقوا العقاب من الله - تعالى - . بعد هذا بين في هذه الآية حالا آخر من أحوال أولئك الغابرين ليحذر المؤمنين منه ، لأنهم عرضة له ، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ، ويرون لأنفسهم شرفا فيه ، وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم ، وهذا فرح بالباطل ، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب ، ومفسروه ، وعلماؤه ، ومبينوه ، والمقيمون له ، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه عن الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام ، وأهواء سائر الناس يطلبون بذلك حمدهم ، بين الله هذه الحال في أسلوب عجيب ، بين فيه حكما آخر ، وهو أن هؤلاء الفرحين المحبين للمحمدة الباطلة قد اشتبه أمرهم على الناس ، فهم يحسبون أنهم أولياء الله ، وأنصار دينه ، وعلماء كتابه ، وأنهم أبعد الناس عن عذابه ، وأقربهم من رضوانه ، فبين الله كذب هذا الحسبان ، ونهى عنه ، وسجل عليهم العذاب .
أقول : إن هذه الآية على عمومها مبينة لشيء من الثمن الذي استبدلوه بكتاب الله ، وكونه بئس الثمن ، وهو أمران : " أحدهما " فرحهم بما أتوه من الأعمال فرح غرور ، وخيلاء ، وفخر [ ص: 237 ] على أن منه نبذ كتاب الله بترك العمل به ، وعدم تبيينه على وجهه ، إما بتحريفه عن مواضعه ليوافق أهواء الحكام ، أو أهواء الناس ، وإما بالسكوت عنه ، والأخذ بكلام العلماء السابقين تقليدا بغير حجة إلا ادعاء أنهم كانوا أعلم بالكتاب ، وأنهم إن خالفوا بعض نصوصه فلا بد أن يكون عندهم دليل أوجب عليهم ذلك . " وثانيهما " : حب المدح ، والثناء بالباطل ، فإنهم يتبعون أهواء الحكام ، والناس في الدين ، ويحبون أن يحمدوا بأنهم يبينون الحق لوجه الله لا تأخذهم فيه لومة لائم ، فإن الحاكم ، أو غير الحاكم إذا احتاج إلى عمل يرضي به هواه ، وشهوته مما يحظره عليه الدين فلجأ إلى العالم فعلمه حيلة شرعية يسلم بها من نقد الناقدين ، وذم المتدينين ، فشك أنه يحمد ذلك العالم ويطريه بأنه العالم التقي المحقق ، لا مكافأة له فقط بل يرى من مصلحته أن يعتقد الناس العلم والصلاح في مفتيه ليأخذوا كلامه بالقبول ، وقد علمنا من الثقات أن الحكام منذ كانوا يتواطئون مع كبار شيوخ العلم ، وشيوخ الطريق المحترمين - عند العامة - على تعظيم كل فريق منهم للآخر ، فرؤساء الحكام يظهرون للعامة احترام العلماء ، والاعتقاد بولاية كبار شيوخ أهل الطريق ، فيقبلون أيديهم عند اللقاء ، وربما أهدوا إليهم بعض الهدايا ، والمشايخ من العلماء ، وأهل الطريق يظهرون للعامة احترام أولئك الحكام ، ويشهدون بقوة دينهم ، وشدة غيرتهم على الإسلام والمسلمين ، ووجوب طاعتهم في السر والجهر - يقولون : وإن ظلموا وجاروا ; لأنهم مسلطون من الله عز وجل ! ! ! فهكذا كان الظالمون المستبدون ، وما زالوا يستفيدون من الدين بمساعدة رجاله ، ويتفق الرؤساء من الفريقين على إضاعة حقوق الأمة وإذلالها لهم ليتمتعوا بلذة الرياسة ونعميها فيفرحون بما أتوا من ضروب المكايد السياسية ، والاجتماعية ، والتأويلات الدينية التي ترفع قدرهم ، وتخضع العامة لهم ، ويحبون أن يحمدوا دائما بأنهم أنصار الدين ، وحماته ، ومبينو الشرع ودعاته ، وإن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وتوجهوا إلى كتب أمثالهم ، وأشباهم ، وكانت الأمة لا تزداد كل يوم إلا شقاء بهم ، حتى سبقتها الأمم كلها بسوء سياستهم ، ولو أنهم أقاموا الكتاب كما أمروا بالبيان له ، والعمل به ، وإلزام الحكام بهديه لما عم الفسق ، والفجور ، وصارت الشعوب الإسلامية دون سائر الشعوب حتى ذهبت سلطتها ، وتقلص ظلها عن أكثر الممالك التي كانت خاضعة لها ، وهي تتوقع نزول الخطر بالباقي وهو أقلها .
وقد كان الأمراء والسلاطين فمن دونهم من كبراء الحكام هم الذين يخطبون ود العلماء ، والمتصوفة ، ويستميلونهم إليهم ، وهؤلاء يتعززون ، فيستجيب للرقية بعضهم ، ويعتصم بالإباء ، والتقوى آخرون ; ثم انعكست الحال ، وضعف سلطان التقوى أمام سلطان الجاه ، والمال ، فصار رجال الدين هم الذين يتهافتون على أبواب الأمراء والسلاطين ، فيقرب المنافقون ، ويؤذى المحقون المتقون ، وتكون مراتب الآخرين على نسبة قربهم من أحد الطرفين .
[ ص: 238 ] هذا ما أحببت التذكير به في تبيين العبرة بالآية في سياسة الأمة ، وعمل رؤساء الدين والدنيا الذين يفرحون بأعمالهم وإن ساءت ، ويحبون أن يحمدوا بالشعريات الكاذبة التي راجت سوقها في هذا العصر بالصحف المنتشرة المعروفة بالجرائد ، فالكثير منها قد أتقن هذه الجريمة - - حتى اطمأنوا باعتقاد السواد الأعظم أن سيئاتهم حسنات ، وحتى بطلت فائدة المحمدة الصحيحة وحب الثناء بالحق ، والشكر على العمل فانهد بذهاب هذه الفائدة ركن من أركان التربية ، والإصلاح القومي ، والشخصي ، فإن حب الحمد غريزة من أقوى غرائز البشر التي تنهض بالهمم ، وتحفز العزائم إلى الأعمال العظيمة النافعة رغبة في اقتطاف ثمار الثناء عليها ، فإذا كان الإنسان يدرك هذا الثناء الذي يستحقه العاملون بدون أن يكلف نفسه عناء العمل للأمة ، ونفع الناس بكذب الجرائد في حمده ، والثناء عليه بالباطل قعدت همته ووهت عزيمته ، وأخلد إلى الراحة ، أو اشتغل بالعمل للذته فقط . مدح السلاطين والأمراء والرؤساء بما لم يفعلوا
فإذا كان العالم الذي ينتمي إلى الأمراء والسلاطين ، وينال الحظوة عندهم لا يوثق بعلمه ، ولا بدينه - كما تقدم بيانه والاستدلال عليه بالأحاديث والآثار - فأصحاب الجرائد أولى بعدم الثقة بأخبارهم ، وآرائهم إذا كانوا كذلك . وأنى للعوام المساكين فهم هذا وإدراك سره والجهل غالب ، والغش رائج ، والناصح المخلص نادر ؟ وقد صارت حاجة الملوك والأمراء المستبدين إلى حمد الجرائد توازي حاجتهم إلى حمد رجال الدين في غش الأمة ، أو تزيد عليها ; ولذلك يغدقون عليهم النعم ، ويقربونهم ، ويحلونهم بالرتب ، وشارات الشرف التي تعرف بالأوسمة ، أو النياشين ، كما يحرص على إرضائهم كل محبي الشهرة بالباطل من الأغنياء ، والوجهاء .
لولا أن من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية لما قيد الله الوعيد على حب الحمد بقوله : حب المحمدة بالحق على العمل النافع بما لم يفعلوا فهذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم ، ولا متوعد عليه ، وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة ، بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة كقوله - تعالى - لنبيه : ورفعنا لك ذكرك [ 94 : 4 ] وقوله في القرآن : وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 : 44 ] نعم ، إن هناك مرتبة أعلى من مرتبة من يعمل الحسنات ليحمد عليها ، وهي مرتبة من يعملها حبا بالخير لذاته ، وتقربا به إلى الله - تعالى - .
على أن لا يخلو في بعض الأحوال من ضرر في الممدوح كالغرور والعجب ، وفتور الهمة عن الثبات والمواظبة على العمل الذي حمد عليه ، وهذا هو سبب النهي عن المدح في حديث المدح بالحق أبي بكرة عند أحمد ، والشيخين ، وغيرهم قال : " وفي رواية عند إن رجلا ذكر عند النبي [ ص: 239 ] - صلى الله عليه وسلم - فأثنى عليه رجل خيرا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ويحك - وفي رواية : - ويلك - قطعت عنق صاحبك - يقوله مرتين - إن كان أحدكم مادحا لأخيه ، فليقل : أحسبه كذا وكذا ، إن كان يرى أنه كذلك ، وحسيبه الله ، ولا يزكي على الله أحدا في المعجم الكبير زيادة : الطبراني نعم ، يحتمل أن تكون عبارة ذلك المادح مما يستنكر من قبح الإطراء ، وأن يكون ذلك الممدوح بها ممن يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - استعداده للغرور بما يقال فيه ، فوقائع الأحوال موضع للاحتمالات لما فيها من الإجمال كما هو مشهور ، ولكن قل من يسلم من الاغترار بالمدح ، ولاسيما إذا كان إطراء ، وقلما يكون الإطراء حقا ، وقلما يلتزم المطرون الحق ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله لو سمعها ما أفلح رواه إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، من حديث والترمذي ، وبعضهم ، وغيرهم عن المقداد بن الأسود أنس ، وعبد الله بن عمرو ، . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : وأبي هريرة النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله رواه ولا تطروني كما أطرت من حديث البخاري . ابن عمر
ثم أعود إلى المسألة الأولى ، فأقول : إن ، وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل ، وانبساطها لما يأتيه من العمل الذي يرى أنه محمود - كما فهم الفرح بالعمل من شأن المغرورين مروان - وإنما هو فرح البطر ، والغرور الذي يتبعه الخيلاء والفخر - كما أشرنا إلى ذلك - وهو ما نبه عليه القرآن في تصيب المؤمنين بقوله - عز وجل - : فائدة المصائب لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [ 57 : 23 ] ومنه قوله - تعالى - : إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين [ 28 : 76 ] وهذا الإفراط في الفرح بالنعمة الذي يكون من الضعفاء يقابله عندهم إلى أن يقع المصاب في اليأس والكفر ، وقد بين - تعالى - حال الفريقين بقوله : المبالغة في الحزن في المصيبة ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور [ 11 : 9 - 11 ] أي لأنهم هم الذين رباهم الله - تعالى - بحوادث الزمان وغيره مع إرشادهم إلى وجه الاستفادة من ذلك - كما تقدم بيانه مفصلا في سياق تفسير الآيات التي نزلت في غزوة أحد - وإليه أشير بقوله بعد ذكر المصائب : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وفي معنى الآيتين مع زيادة في الفائدة آية سورة الروم : وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [ 30 : 36 ] .
ولما كان هذا هو شأن أصحاب هذا النوع من الفرح - فرح البطر والغرور - كان مما يتبع ذلك تبع المعلول للعلة ، والمسبب للسبب باستعمالها فيما ينفع الناس [ ص: 240 ] بل يستعملونها فيما يسرهم ويمتعهم بلذاتهم ونعيمهم ، فيكون ذلك مهلكة للأمة كما قال - تعالى - في أقوام هذا شأنهم : ترك الشكر على النعمة فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 : 44 ] ولا يعارض ذلك قوله - تعالى - : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ 10 : 58 ] لأن السرور بالنعمة مع تذكر أنها فضل من الله لا يحدث بطرا ، ولا غرورا ، وإنما يحدث شكرا ، وإحسانا في العمل ، فإذا فقهت هذا كله علمت أن الذين يفرحون بأعمالهم - فرح بطر واختيال وغرور - يكونون مستحقين للوعيد بالعذاب ، وإن كانت أعمالهم التي بطروا بها ، وفخروا ، واغتروا بها ، وكفروا من الأعمال الحسنة ; لأن بعض الأعمال الحسنة قد تكون لها عواقب رديئة ، وبعض الأعمال السيئة قد تكون لها عاقبة حسنة ، وفي هذا قال ابن عطاء في حكمة : " رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا " .
ويؤيد هذا المعنى الذي حققه قوله - تعالى - في صفات الأخيار : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 : 60 ] وما روي من الحديث المرفوع في تفسيره ، ففي حديث عائشة عند أحمد ، ، والترمذي وابن ماجه والحاكم - وصححه - وغيرهم ، قالت : يا رسول الله ، قول الله : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يسرق ، ويزني ، ويشرب الخمر ، وهو مع ذلك يخاف الله ، قال : فهؤلاء هم الذين قال فيهم بعد ما تقدم : لا ، ولكنه الرجل يصوم ، ويتصدق ، ويصلي ، وهو مع ذلك يخاف الله ألا يقبل منه أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 : 61 ] بخلاف الذين يفرحون - بما أتوا من عمل ، وما آتوا من صدقة - فرح عجب وخيلاء ، فإنه يغلب عليهم الرياء ، وحب الثناء ، والسمعة ، فيكسلون عن العمل ، ولا يواظبون عليه .
هذا شأن العمل في الدين ، ومثله العمل في الدنيا ، وللدنيا كما يفيدنا البحث في أحوال الأمم ، فإن الذين استولى عليهم الغرور يفرحون ، ويبطرون بكل عمل يعملونه ، ويرون أنه منتهى الكمال ، فلا تنشط هممهم إلى طلب المزيد ، والمسارعة في الخيرات ، ولا يقبلون الانتقاد على التقصير . حدثني الأستاذ الإمام قال : حدثني عالم ألماني لقيته في السفينة في إحدى سياحاتي قال : إنه لا يوجد عندنا عمل من الأعمال نحن راضون به ، ومعتقدون أنه لا يقبل الترقي والإتقان ، بل عندنا جمعيات تبحث في ترقية كل شيء ، وتحسينه من الإبرة إلى أعظم الآلات ، وأبدع المخترعات ، مثال ذلك البندقية يبحثون فيها : هل يمكن أن تكون أخف وزنا ، أو أبعد رميا ، أو أقل نفقة ؟ إلى آخر ما قال .
فإذا تدبرت ما قلناه في هاتين الصفتين الذميمتين : فرح البطر ، والغرور ، والفخر بالأعمال الذي يدعو إلى الكسل ، والإهمال ، وحب المحمدة الباطلة ، والقناعة بالثناء الكاذب ، إذا تدبرت [ ص: 241 ] هذا فقهت بهما مرتين : واحدة في الدنيا وواحدة في الآخرة ، وهو المراد بقوله - عز وجل - : سر الوعيد الشديد بتعذيب الأمة المتصفة فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب إلخ .
أي لا تظن يا محمد أو أيها المخاطب أنهم بمنجاة من العذاب الدنيوي ، أي متلبسون بالفوز والنجاة منه ، وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها ، وساءت أعمالها ، وكابرت الحق والعدل ، وألفت الفساد والظلم ، وهو على قسمين : عذاب هو أثر طبيعي اجتماعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري ، وهو خذلان أهل الباطل والإفساد ، وانكسارهم ، وذهاب استقلالهم بنصر أهل الحق ، والعدل عليهم ، وتمكينهم من رقابهم ، وديارهم ، وأموالهم ، ليحل الإصلاح محل الإفساد ، والعدل مكان الظلم وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 : 102 ] وعذاب لا يكون أثرا طبيعيا ، بل يسمى سخطا سماويا كالزلزال ، والخسف ، والطوفان ، وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بهم ، وكذبوهم ، وآذوهم ، فكان الله يوفق بين أسباب ذلك العذاب المعتادة ، وأقدارها فينزلها بالقوم عند اشتداد عتوهم ، وإيذائهم لرسوله فيكونون من الهالكين ، وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعراف ونحوها إن أحيانا الله - تعالى - وأمدنا بتوفيقه .
فإن قلت : إن ما قررته يشمل استعلاء بعض الأمم الشمالية على كثير من ممالك المسلمين الجنوبية فهل كان أولئك الشماليون على الحق والصلاح ، وهؤلاء الجنوبيون على الباطل والفساد ؟ أقل : نعم ، الأمر كذلك ، فلولا أنهم يفضلونهم أخلاقا ، وأعمالا ، وعدلا ، وإصلاحا ، واتباعا لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة لما سلطوا عليهم وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [ 11 : 117 ] ولكنه يهلكها وأهلها مفسدون في الأرض - كما ثبت في آيات كثيرة - - كما تقدم في غير ما موضع من التفسير - ولكن لذلك شروطا وسننا بينها الله في كتابه ، وتقدم تفسير بعض الآيات فيها ، فتطلب من مواضعها ومنها تتذكر ، وتعلم أسباب ما عليه المسلمون الآن ، فإن الله ما فرط في الكتاب من شيء . والإيمان قد يكون من جملة أسباب النصر
ثم قال : ولهم عذاب أليم أي في الآخرة ، فإن فساد أخلاقهم ، وفرحهم ، وبطرهم ، وصغارهم الذي زين لهم حب الحمد الكاذب بالباطل جعل أرواحهم مظلمة دنسة ، فهي التي تهبط بهم إلى الهاوية حيث يلاقون ذلك العذاب المؤلم .
[ ص: 242 ] ومن مباحث اللفظ في الآية : أن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن قوله - تعالى - : فلا تحسبنهم تأكيد لقوله : لا تحسبن الذين كما هو معهود في الكلام العربي من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله . قال : إن العرب إذا أطالت القصة تعيد " حسبت " وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول ، فتقول : لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا ، فيقيد ( لا تظنن ) توكيدا وتوضيحا . والفاء زائدة كما في قوله : الزجاج
فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
ونقل الأستاذ الإمام هذا التوجيه في الدرس عن الكشاف ورده ، فقال : لولا الفاء لصح ، ولكن الفاء تمنع منه ، وهذا بناء على مذهبه في عدم زيادة حرف ما في القرآن بلا فائدة ، على أن الذين يقولون بزيادة بعض الحروف ، وبعض الكلمات إنما يعنون زيادتها غالبا بحسب الإعراب لا أنهم يقولون : إن إثباتها وتركها سواء ، ووجه العبارة هنا بأن المفعول الثاني في قوله : لا تحسبن الذين يفرحون محذوف حذف إيجاز لتذهب النفس في تقديره كل مذهب ، قال : والقرآن ما أنزل لتحديد المسائل ، والأخبار ، والقصص تحديدا يستوي في فهمه كل قارئ ، وإنما الغرض الأهم منه إصلاح النفوس ، والتأثير الصالح فيها بترغيبها في الحق والخير ، وتنفيرها من ضدهما . فإذا قال هاهنا : لا تحسبن الذين يفرحون بكذا ويحبون كذا تتوجه نفس القارئ ، أو السامع إلى طلب المفعول الثاني ، وتذهب فيه مذاهب شتى كلها من النوع الذي يليق بمن هذا حالهم ، كأن تقدر : لا تحسبنهم مطيعين لربهم ، أو عاملين بهدايته ، وعندما يرد عليها بعده فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب يتعين عندها بهذا التفريع الذي ذكر فيه المفعول الثاني ما حذف من الأول لا بشخصه وعينه بل بنوعه ; لأننا لو قلنا : إن ما حذف من الأول هو عين ما أثبت في الثاني لم يكن للتفريع فائدة . ثم قال - تعالى - :
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير قال الأستاذ الإمام : عطف هذه الآية على ما قبلها لاتصالها بالآيات التي قبلها ، فالواو فيها عاطفة للجملة المستقلة على مثلها ، كأنه يقول : لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا واصبروا واتقوا ولا تخورون عزائمكم ، بينوا الحق ، ولا تكتموا منه شيئا ، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، ولا تفرحوا بما عملتم ، ولا تحبوا أن تحمدوا بما لم تفعلوا ، فإن الله - تعالى - يكفيكم ما أهمكم ، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها ، فإن ملك السماوات والأرض كله له ، يعطي منه ما يشاء وهو على كل شيء قدير ، ولا يعز عليه نصركم على الذين يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين ، وإليه ترجع الأمور ; لأنه هو الذي يدبرها بحكمته وسننه في خلقه . وفي هذا التذييل حجة على كون الخير في اتباع ما أرشد إليه - تعالى - ، وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين ، ووعد لهم بالنصر ، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين الذين سبق وصفهم في الآيات التي قبل هذه الآية ، وهو أنهم لا يؤمنون بالله - تعالى - إيمانا صحيحا يظهر أثره في أخلاقهم ، وأعمالهم [ ص: 243 ] وإلا لما تركوا العمل بكتابه ، وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا ، فإن هذا لا يكون إلا من عدم الثقة بوعده - تعالى - والخوف من وعيده ، واليقين بقدرته وتدبيره .