[ ص: 17 ] مقدمة التفسير
( المقتبسة من درس الأستاذ الإمام بالمعنى ، مع البسط والإيضاح )
التكلم في
nindex.php?page=treesubj&link=28959تفسير القرآن ليس بالأمر السهل ، وربما كان من أصعب الأمور وأهمها ، وما كل صعب يترك . ولذلك لا ينبغي أن يمتنع الناس عن طلبه . ووجوه الصعوبة كثيرة .
أهمها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29568القرآن كلام سماوي تنزل من حضرة الربوبية التي لا يكتنه كنهها على قلب أكمل الأنبياء . وهو يشتمل على معارف عالية ، ومطالب سامية ، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية ، والعقول الصافية ، وإن الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال الفائضين من حضرة الكمال ما يأخذ بتلبيبه ، ويكاد يحول دون مطلوبه ، ولكن الله تعالى خفف علينا الأمر بأن أمرنا بالفهم والتعقل لكلامه ؛ لأنه إنما أنزل الكتاب نورا وهدى ، مبينا للناس شرائعه وأحكامه ، ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه .
والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة ، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه ، وما وراء هذا من المباحث تابع له وأداة أو وسيلة لتحصيله .
nindex.php?page=treesubj&link=28962التفسير له وجوه شتى :
( أحدها ) : النظر في أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علو الكلام وامتيازه على غيره من القول ، سلك هذا المسلك الزمخشري ، وقد ألم بشيء من المقاصد الأخرى ونحا نحوه آخرون .
( ثانيها ) : الإعراب : وقد اعتنى بهذا أقوام توسعوا في بيان وجوهه وما تحتمله الألفاظ منها .
( ثالثها ) : تتبع القصص ، وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا في قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات ، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند
أهل الكتاب وغيرهم ، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وسمين ، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل .
[ ص: 18 ] ( رابعها ) : غريب القرآن .
( خامسها ) : الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات والاستنباط منها . وقد جمع بعضهم آيات الأحكام وفسروها وحدها . ومن أشهرهم
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر بن العربي وكل من يغلب عليهم الفقه من المفسرين ، يعنون بتفسير آيات أحكام العبادات والمعاملات أكثر من عنايتهم بسائر الآيات .
( سادسها ) : الكلام في أصول العقائد ومقارعة الزائغين ، ومحاجة المختلفين . وللإمام الرازي العناية الكبرى بهذا النوع .
( سابعها ) : المواعظ والرقائق ، وقد مزجها الذين ولعوا بها بحكايات المتصوفة والعباد ، وخرجوا ببعض ذلك عن حدود الفضائل والآداب التي وضعها القرآن .
( ثامنها ) : ما يسمونه بالإشارة ، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية . ومن ذلك التفسير الذي ينسبونه للشيخ الأكبر
nindex.php?page=showalam&ids=12816محيي الدين بن عربي . وإنما هو
للقاشاني الباطني الشهير ، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز .
وقد عرفت أن الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهي ، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقي ؛ لهذا كان الذي نعنى به من التفسير هو ما سبق ذكره ، أي من فهم الكتاب من حيث هو دين ، وهداية من الله للعالمين ، جامعة بين بيان ما يصلح به أمر الناس في هذه الحياة الدنيا ، وما يكونون به سعداء في الآخرة ويتبعه بلا ريب : بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى وتحقيق الإعراب على الوجه الذي يليق بفصاحة القرآن وبلاغته أي عند الحاجة إلى ذلك كالمسائل التي عدوها مشكلة ، وربما نشير أحيانا إلى الإعراب من غير تصريح بعبارات النحو الاصطلاحية ، كما نفعل ذلك في بعض نكت البلاغة أو قواعد الأصول ، حتى لا تكون الاصطلاحات شاغلا للقارئ عن المعاني ، صارفة له عن العبرة .
ويمكن أن
nindex.php?page=treesubj&link=28958يقول بعض أهل هذا العصر : لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن ؛ لأن الأئمة السابقين نظروا في الكتاب والسنة واستنبطوا الأحكام منهما ، فما علينا إلا أن ننظر في كتبهم ونستغني بهم - هكذا زعم بعضهم ، ولو صح هذا الزعم لكان طلب التفسير عبثا ، يضيع به الوقت سدى وهو - على ما فيه من تعظيم شأن الفقه - مخالف لإجماع الأمة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر واحد من المؤمنين ، ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ؟
الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقها هي أقل ما جاء في القرآن ، وإن فيه من التهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها ورفعها من حضيض الجهالة إلى أوج المعرفة ،
[ ص: 19 ] وإرشادها إلى طريقة الحياة الاجتماعية ما لا يستغني عنه من يؤمن بالله واليوم الآخر ، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقي ، ولا يوجد هذا الإرشاد إلا في القرآن ، وفيما أخذ منه - كإحياء العلوم - حظ عظيم من علم التهذيب ، ولكن سلطان القرآن على نفوس الذين يفهمونه وتأثيره في قلوب الذين يتلونه حق تلاوته لا يساهمه فيه كلام ، كما أن الكثير من حكمه ومعارفه لم يكشف عنها اللثام . ولم يفصح عنها عالم ولا إمام . ثم إن أئمة الدين قالوا : إن القرآن سيبقى حجة على كل فرد من أفراد البشر إلى يوم القيامة ، ومن أدلة ذلك حديث : " والقرآن حجة لك أو عليك " ولا يعقل إلا بفهمه ، والإصابة من حكمته وحكمه .
خاطب الله بالقرآن من كان في زمن التنزيل ، ولم يوجه الخطاب إليهم لخصوصية في أشخاصهم ، بل لأنهم من أفراد النوع الإنساني الذي أنزل القرآن لهدايته . يقول الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1ياأيها الناس اتقوا ربكم ) فهل يعقل أنه يرضى منا بأن لا نفهم قوله هذا ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه ، لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباعه لا جملة ولا تفصيلا ؟ ! كلا إنه يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته لا فرق بين عالم وجاهل .
يكفي العامي من فهم قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلخ : ما يعطيه الظاهر من الآيات ، وأن الذين جمعت أوصافهم في الآيات الكريمة لهم الفوز والفلاح عند الله تعالى ، ويكفي في معرفة الأوصاف أن يعرف معنى الخشوع والإعراض عن اللغو وما لا خير فيه ، والإقبال على ما فيه فائدة له ، دنيوية أو أخروية ، وبذل المال في الزكاة والوفاء بالعهد ، وصدق الوعد ، والعفة عن إتيان الفاحشة ، وأن من فارق هذه الأوصاف إلى أضدادها فهو المتعدي حدود الله ، المتعرض لغضبه ، وفهم هذه المعاني مما يسهل على المؤمن من أي طبقة كان ، ومن أهل أي لغة كان . ومن الممكن أن يتناول كل أحد من القرآن بقدر ما يجذب نفسه على الخير ، ويصرفها عن الشر ، فإن الله تعالى أنزله لهدايتنا وهو يعلم منا كل أنواع الضعف الذي نحن عليه . وهناك مرتبة تعلو على هذه وهي من فروض الكفاية .
nindex.php?page=treesubj&link=28962للتفسير مراتب أدناها : أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ، ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير ، وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ( 54 : 17 ) .
وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور :
( أحدها ) : فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة ، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان ، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد ، من ذلك لفظ " التأويل " اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه
[ ص: 20 ] مخصوص ، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى كقوله تعالى : ( هل
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=53ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) فما هذا التأويل ؟ يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ؛ ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب . فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى . فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله . والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه ، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ " الهداية " - سيأتي تفسيره في الفاتحة - وغيره ، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه ، وقد قالوا : إن القرآن يفسر بعضه ببعض ، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق من القول ، واتفاقه مع جملة المعنى ، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته .
( ثانيها ) : الأساليب ، فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة . وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته ، مع التفطن لنكته ومحاسنه ، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه . نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة . ويحتاج هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب ( المعاني والبيان ) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب .
ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مسددين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع ، أتحسبون أن ذلك كان طبيعيا لهم ؟ كلا ، وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة ، ولذلك صار أبناء العرب أشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم . ولو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدة خمسين سنة من بعد الهجرة .
( ثالثها ) : علم أحوال البشر ، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب ، وبين فيه ما لم يبينه في غيره . بين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر ، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها . فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ، ومناشئ اختلاف أحوالهم ، من قوة
[ ص: 21 ] وضعف ، وعز وذل ، وعلم وجهل ، وإيمان وكفر ، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه ، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه .
قال الأستاذ الإمام : أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى : ( كان
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ( 2 : 213 ) الآية - وهو لا يعرف أحوال البشر ، وكيف اتحدوا ، وكيف تفرقوا ؟ وما معنى تلك الواحدة التي كانوا عليها ؟ وهل كانت نافعة أم ضارة ؟ وماذا كان من آثار بعثه النبيين فيهم .
أجمل القرآن الكلام عن الأمم ، وعن السنن الإلهية ، وعن آياته في السماوات والأرض ، وفي الآفاق والأنفس ، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما ، وأمرنا بالنظر والتفكر ، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره ، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة .
( رابعها ) : العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن ، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم ؛ لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث به لهدايتهم وإسعادهم . وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة ، أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه ؟ هل يكتفي من علماء القرآن دعاة الدين والمناضلين عنه بالتقليد بأن يقولوا تقليدا لغيرهم : إن الناس كانوا على باطل ، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة ؟ كلا .
وأقول الآن : يروى عن
عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة ، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " والمراد أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور ، ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي . كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو ؛ لأنه من ضروريات الحياة عندهم ، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأمور وتأثير تلك الآداب من أين جاء ؟
( خامسها ) : العلم بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها .
[ ص: 22 ] فعلم مما ذكرنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28966التفسير قسمان :
( أحدهما ) : جاف مبعد عن الله وعن كتابه ، وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية ، وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرا ، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرهما .
( ثانيهما ) : وهو التفسير الذي قلنا : إنه يجب على الناس - على أنه فرض كفاية - هو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها ، وهو ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول ، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح ، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ، ليتحقق فيه معنى قوله : ( هدى ورحمة ) ونحوهما من الأوصاف . فالمقصد الحقيقي وراء كل تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن .
قال الأستاذ الإمام : وهذا هو الغرض الذي أرمي إليه في قراءة التفسير .
وتكلم الأستاذ الإمام أيضا عن
nindex.php?page=treesubj&link=28956التفسير والتأويل في اصطلاح العلماء ، ثم بين عظيم شأن تفسير القرآن وفهمه بما مثاله : مثل الناطقين بالعربية الآن - من
العراق إلى نهاية بلاد
مراكش - بالنسبة إلى العرب في لغتهم كمثل قوم من
الأعاجم المخالطين للعرب ، وجد في كلامهم - بسبب المخالطة - مفردات من العربية . فهؤلاء الأقوام أشد حاجة إلى التفسير ، وفهم القرآن من المسلمين الأولين ، ولاسيما من كانوا في القرن الثالث حيث بدئ بكتابة التفسير وأحس المسلمون بشدة حاجتهم إليه ، ولا شك أن من يأتي بعدنا يكون أحوج منا إلى ذلك إذا بقينا على تقهقرنا ، ولكن إذا يسر الله لنا نهضة لإحياء لغتنا وديننا فربما يكون من بعدنا أحسن حالا منا .
التفسير عند قومنا اليوم ومن قبل اليوم بقرون : هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير على ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( 4 : 82 ) وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم في العلم بمعاني الكتاب ، ثم يبثونه في الناس ويحملونهم عليه . ولكنهم لم يطلبوا ذلك ، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها ، ويمارون فيها من يباريهم في طلبها ، ولا يخرجون لإظهار البراعة في تحصيلها عن حد الإكثار من القول ، واختراع الوجوه من التأويل ، والإغراب في الإبعاد عن مقاصد التنزيل ، إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا ، وعن سنة نبيه الذي بين لنا ما نزل إلينا (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 )
[ ص: 23 ] يسألنا هل بلغتكم الرسالة ؟ هل تدبرتم ما بلغتم ؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم وما به أمرتم ؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن ، واهتديتم بهدي النبي واتبعتم سنته ؟ عجبا لنا ننتظر هذا السؤال ونحن في هذا الإعراض عن القرآن وهديه ، فيا للغفلة والغرور .
معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى : أول ما يلقن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى ، هو اسم " الله " تبارك وتعالى ، يتعلمه بالأيمان الكاذبة كقوله : والله لقد فعلت كذا وكذا ، والله ما فعلت كذا ، وكذلك القرآن يسمع الصبي ممن يعيش معهم أنه كلام الله تعالى ، ولا يعقل معنى ذلك ، ثم لا يعرف من تعظيم القرآن إلا ما يعظمه به سائر المسلمين الذين يتربى بينهم . وذلك بأمرين .
( أحدهما ) :
nindex.php?page=treesubj&link=18630_18629اعتقاد أن آية كذا إذا كتبت ومحيت بماء وشربه صاحب مرض كذا يشفى ، وأن من حمل القرآن ، لا يقربه جن ولا شيطان ، ويبارك له في كذا وكذا ، إلى غير ذلك مما هو مشهور ومعروف للعامة أكثر مما هو معروف للخاصة ، ومع صرف النظر عن صحة هذا وعدم صحته نقول : إن فيه مبالغة في التعظيم عظيمة جدا ولكنها - ويا للأسف - لا تزيد عن تعظيم التراب الذي يؤخذ من بعض الأضرحة ابتغاء هذه المنافع والفوائد نفسها . أقول : ونحو هذا ما يعلق على الأطفال من التعاويذ والتناجيس كالخرق والعظام والتمائم المشتملة على الطلسمات والكلمات الأعجمية ، المنقولة عن بعض الأمم الوثنية ، هذا الضرب من تعظيم القرآن نسميه - إذا جرينا على سنة القرآن - عبادة للقرآن لا عبادة لله به .
( ثانيهما ) :
nindex.php?page=treesubj&link=28896الهزة والحركة المخصوصة والكلمات المعلومة التي تصدر ممن يسمعون القرآن ، إذا كان القارئ رخيم الصوت حسن الأداء عارفا بالتطريب على أصول النغم . والسبب في هذه اللذة والنشوة هو حسن الصوت والنغم ، بل أقوى سبب لذلك هو بعد السامع عن فهم القرآن . وأعني بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها ، وتملكه مواعظه فتشغله عما بين يديه مما سواه . لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقة الشعور ولطف الوجدان ، اللذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر .
لهذا كله يمكننا أن نقول : إن الجاهلية اليوم أشد من الجاهلية والضالين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن من أولئك من قال الله تعالى فيهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) ومعرفة الحق أمر عظيم شريف ، نعم ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد ، ولكنه يكون
[ ص: 24 ] دائما ملوما من نفسه على الإعراض عن الحق ، وهذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل .
كان البدوي راعي الغنم يسمع القرآن فيخر له ساجدا لما عنده من رقة الإحساس ولطف الشعور ، فهل يقاس هذا بأي متعلم اليوم ؟ أرأيت أهل
جزيرة العرب ، كيف انضووا إلى الإسلام بجاذبية القرآن لما كان لهم من دقة الفهم ، التي كانت سبب الانجذاب إلى الحق ؟ ! وأشار الأستاذ الإمام هنا إلى البنت الأعرابية التي فطنت لاشتمال الآية الآتية على أمرين ونهيين وبشارتين . ومجمل الخبر أن
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي قال : سمعت بنتا من الأعراب خماسية أو سداسية تنشد :
أستغفر الله لذنبي كله قتلت إنسانا بغير حله مثل غزال ناعم في دله
وانتصف الليل ولم أصله
فقلت لها : قاتلك الله ما أفصحك ، فقالت : ويحك أيعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) ( 28 : 7 ) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين .
لما رأى علماء المسلمين في الصدر الأول تأثير القرآن في جذب قلوب الناس إلى الإسلام ، وأن الإسلام لا يحفظ إلا به ، ولما كان العرب قد اختلطوا
بالعجم ، وفهم من دخل في الإسلام من الأعاجم ما فهمه علماء العرب أجمع كل على وجوب حفظ اللغة العربية ، ودونوا لها الدواوين ووضعوا لها الفنون ، نعم إن الاشتغال بلغة الأمة وآدابها فضيلة في نفسه ومادة من مواد حياتها ، ولا حياة لأمة ماتت لغتها . ولكن لم يكن هذا وحده هو الحامل لسلف الأمة على حفظ اللغة بمفرداتها وأساليبها وآدابها ، وإنما الحامل لهم على ذلك ما ذكرنا .
ألف العلامة
الإسفراييني كتابا في الفرق ختمه بذكر أهل السنة ومزاياهم ، وعد من فضائلهم التي امتازوا بها على سائر الفرق : التبريز في اللغة وآدابها ، وبين ذلك بأجلى بيان . فأين هذه المزايا اليوم ؟ وأين آثارها في فهم القرآن ؟ بل فهم ما دونه من الكلام البليغ ! وقد بينا وجه الحاجة في التفسير إلى تحصيل ملكة الذوق العربي ، وإلى غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها فهم القرآن ا هـ .
أقول الآن : إن
nindex.php?page=treesubj&link=29568القرآن هو حجة الله البالغة على دينه الحق ، فلا بقاء للإسلام إلا بفهم القرآن فهما صحيحا ، ولا بقاء لفهمه إلا بحياة اللغة العربية ، فإن كان باقيا في بعض بلاد الأعاجم فإنما بقاؤه بوجود بعض العلماء العارفين من التفسير ما يكفي لرد الشبهات عن القرآن عندهم ، وببقاء ثقة العامة بهم وبما يقولونه تقليدا لهم فيه ، أو بعدم عروض الشبه لهم من دعاة
[ ص: 25 ] الأديان الأخرى ، مع تأثير الوراثة والتقليد من قبيل ما يسمى في العلم الطبيعي : بحركة الاستمرار ، ولهذا اتفق علماء الإسلام من العرب والعجم على حفظ اللغة العربية ونشرها كما تقدم ، وكان العلم والدين في أوج القوة بحياة اللغة العربية .
كان جميع من دخل في الإسلام يشعر بأنه صار أخا لجميع المسلمين ، وأن أمته هي الأمة الإسلامية ، لا العربية ولا الفارسية ولا القبطية ولا التركية . . . . كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=92إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( 21 : 92 ) ومن البديهي أن وحدة الأمة لا تتم إلا بوحدة اللغة ، ولا لغة تجمع المسلمين وتربطهم إلا لغة الدين الذي جعلهم بنعمة الله إخوانا ، وهي العربية التي لم تعد خاصة بالجنس العربي إذا نظرنا إلى الأجناس - المعبر عنهم في اصطلاح المنطق بالأصناف - من جهة أنسابهم وأوطانهم .
ولهذا كان يجتهد مسلمو العجم في خدمة هذه اللغة كما يجتهد مسلمو العرب بلا فرق ، ويعدونها لغتهم ؛ لأنها لغة القرآن التي تقوم بها حجته : وهم من أمة القرآن كالعرب بلا فرق . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وفي حديث
جابر عند
البيهقي وابن مردويه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الوداع في وسط أيام التشريق : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918561يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلغت ؟ - قالوا : بلى يا رسول الله ، قال - فليبلغ الشاهد الغائب " .
ثم حدثت في الإسلام عصبية الجنسية الجاهلية التي حرمها الإسلام وشدد في منعها ، بعد أن ضعف العلم والدين في المسلمين بضعف اللغة العربية فيهم ، حتى قام بعض الأعاجم في هذه السنين الأخيرة يدعون قومهم إلى ترجمة القرآن بلغتهم والاستغناء عن القرآن العربي . زاعما أن الإسلام دين ليس له لغة . وغلا بعض هؤلاء في بغض العربية فدعا مسلمي قومه إلى الأذان والصلاة والخطبة بلغتهم ، وقد أجمع المسلمون بالعمل على إقامة هذه الشعائر الإسلامية بلغة الإسلام العربية إلى اليوم ، وكان من عاقبة هذا الضعف في العلم والدين أن بعض المسلمين في بلاد الأعاجم - كجاوة ، التي يقل فيها العلماء العارفون بالدين ولغته ، القادرون على دفع الشبه عن القرآن - صاروا يرتدون عن الإسلام لإيضاع دعاة النصرانية خلالهم ، وسؤالهم الفتنة بالتشكيك في القرآن والطعن فيه . وأين من يفهمه ويدافع عنه هناك ؟ ومنهم من صار يفخر بسلفه من الوثنيين والمجوس حتى بفرعون الذي لعنه الله في جميع كتبه .
أمرنا الله تعالى أن نتدبر القرآن ونعتبر به ، ونتذكر ونهتدي ، وأن نعلم ما نقوله في صلاتنا من آياته وأذكاره ، وأكد هذه المسائل في آيات كثيرة ، والامتثال لها والعمل بها لا يكون إلا بفهم العربية الفصحى . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وجعل الله تعالى القرآن معجزا
[ ص: 26 ] للبشر ولا تقوم حجته في هذا عليهم إلا بفهمه ، ولا يمكن فهمه إلا بفهم العربية الفصحى ،
nindex.php?page=treesubj&link=32264فمعرفة العربية من ضروريات دين الإسلام ، ندعو إليها جميع المسلمين بدعائهم إلى القرآن .
وإننا نعتقد أن المسلمين ما ضعفوا وزال ما كان لهم من الملك الواسع إلا بإعراضهم عن هداية القرآن ، وأنه لا يعود إليهم بشيء مما فقدوا من العز والسيادة والكرامة إلا بالرجوع إلى هدايته ، والاعتصام بحبله كما يرون ذلك مبينا في تفسير الآيات الكريمة الدالة عليه ، ولا يتم ذلك إلا بالاتفاق على إحياء لغته فالدعاء له دعاء لها (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=25واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=26واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) ( 8 : 24 - 26 ) وبالشكر تدوم النعم ، وكفرها مجلبة للنقم ، ولذلك أرشدنا الله في فاتحة كتابه إلى الدعاء بأن يهدينا صراط المنعم عليه من الشاكرين ، وها نحن أولاء نبدأ بالمقصود بعون الله الرحمن الرحيم .
[ ص: 17 ] مُقَدِّمَةُ التَّفْسِيرِ
( الْمُقْتَبَسَةُ مِنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِالْمَعْنَى ، مَعَ الْبَسْطِ وَالْإِيضَاحِ )
التَّكَلُّمُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28959تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ السَّهْلِ ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ وَأَهَمِّهَا ، وَمَا كُلُّ صَعْبٍ يُتْرَكُ . وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ طَلَبِهِ . وَوُجُوهُ الصُّعُوبَةِ كَثِيرَةٌ .
أَهَمُّهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29568الْقُرْآنَ كَلَامٌ سَمَاوِيٌّ تَنَزَّلَ مِنْ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ كُنْهَهَا عَلَى قَلْبِ أَكْمَلِ الْأَنْبِيَاءِ . وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَارِفَ عَالِيَةٍ ، وَمَطَالِبَ سَامِيَّةٍ ، لَا يُشْرِفُ عَلَيْهَا إِلَّا أَصْحَابُ النُّفُوسِ الزَّاكِيَةِ ، وَالْعُقُولِ الصَّافِيَةِ ، وَإِنَّ الطَّالِبَ لَهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ الْفَائِضَيْنِ مِنْ حَضْرَةِ الْكَمَالِ مَا يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ ، وَيَكَادُ يَحُولُ دُونَ مَطْلُوبِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَّفَ عَلَيْنَا الْأَمْرَ بِأَنْ أَمَرَنَا بِالْفَهْمِ وَالتَّعَقُّلِ لِكَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ نُورًا وَهُدًى ، مُبَيِّنًا لِلنَّاسِ شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانُوا يَفْهَمُونَهُ .
وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي نَطْلُبُهُ هُوَ فَهْمُ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَحَيَاتِهِمُ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْلَى مِنْهُ ، وَمَا وَرَاءَ هَذَا مِنَ الْمَبَاحِثِ تَابِعٌ لَهُ وَأَدَاةٌ أَوْ وَسِيلَةٌ لِتَحْصِيلِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28962التَّفْسِيرُ لَهُ وُجُوهٌ شَتَّى :
( أَحَدُهَا ) : النَّظَرُ فِي أَسَالِيبِ الْكِتَابِ وَمَعَانِيهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ عُلُوُّ الْكَلَامِ وَامْتِيَازُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَوْلِ ، سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الزَّمَخْشَرِيُّ ، وَقَدْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْأُخْرَى وَنَحَا نَحْوَهُ آخَرُونَ .
( ثَانِيهَا ) : الْإِعْرَابُ : وَقَدِ اعْتَنَى بِهَذَا أَقْوَامٌ تَوَسَّعُوا فِي بَيَانِ وُجُوهِهِ وَمَا تَحْتَمِلُهُ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا .
( ثَالِثُهَا ) : تَتَبُّعُ الْقَصَصِ ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَقْوَامٌ زَادُوا فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مَا شَاءُوا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ، بَلْ أَخَذُوا جَمِيعَ مَا سَمِعُوهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ غَثٍّ وَسَمِينٍ ، وَلَا تَنْقِيحٍ لِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَلَا يُطَابِقُ الْعَقْلَ .
[ ص: 18 ] ( رَابِعُهَا ) : غَرِيبُ الْقُرْآنِ .
( خَامِسُهَا ) : الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْهَا . وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَفَسَّرُوهَا وَحْدَهَا . وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ
nindex.php?page=showalam&ids=12815أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَكُلُّ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْفِقْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، يُعْنَوْنَ بِتَفْسِيرِ آيَاتِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِسَائِرِ الْآيَاتِ .
( سَادِسُهَا ) : الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَمُقَارَعَةِ الزَّائِغِينَ ، وَمُحَاجَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ . وَلِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ الْعِنَايَةُ الْكُبْرَى بِهَذَا النَّوْعِ .
( سَابِعُهَا ) : الْمَوَاعِظُ وَالرَّقَائِقُ ، وَقَدْ مَزَجَهَا الَّذِينَ وَلِعُوا بِهَا بِحِكَايَاتِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْعُبَّادِ ، وَخَرَجُوا بِبَعْضِ ذَلِكَ عَنْ حُدُودِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ الَّتِي وَضَعَهَا الْقُرْآنُ .
( ثَامِنُهَا ) : مَا يُسَمُّونَهُ بِالْإِشَارَةِ ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ كَلَامُ الْبَاطِنِيَّةِ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الَّذِي يَنْسُبُونَهُ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ
nindex.php?page=showalam&ids=12816مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ . وَإِنَّمَا هُوَ
لِلْقَاشَانِيِّ الْبَاطِنِيِّ الشَّهِيرِ ، وَفِيهِ مِنَ النَّزَعَاتِ مَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ دِينُ اللَّهِ وَكِتَابُهُ الْعَزِيزُ .
وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الْإِكْثَارَ فِي مَقْصِدٍ خَاصٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ يَخْرُجُ بِالْكَثِيرِينَ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ ، وَيَذْهَبُ بِهِمْ فِي مَذَاهِبَ تُنْسِيهِمْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ ؛ لِهَذَا كَانَ الَّذِي نُعْنَى بِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ هُوَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ ، أَيْ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ ، وَهِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَالِمِينَ ، جَامِعَةٌ بَيْنَ بَيَانِ مَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَمَا يَكُونُونَ بِهِ سُعَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ وَيَتْبَعُهُ بِلَا رَيْبٍ : بَيَانُ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَعْنَى وَتَحْقِيقُ الْإِعْرَابِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ أَيْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي عَدُّوهَا مُشْكِلَةً ، وَرُبَّمَا نُشِيرُ أَحْيَانًا إِلَى الْإِعْرَابِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِعِبَارَاتِ النَّحْوِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ ، كَمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَوْ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ ، حَتَّى لَا تَكُونَ الِاصْطِلَاحَاتُ شَاغِلًا لِلْقَارِئِ عَنِ الْمَعَانِي ، صَارِفَةً لَهُ عَنِ الْعِبْرَةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28958يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ : لَا حَاجَةَ إِلَى التَّفْسِيرِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ السَّابِقِينَ نَظَرُوا فِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتَنْبَطُوا الْأَحْكَامَ مِنْهُمَا ، فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَنْظُرَ فِي كُتُبِهِمْ وَنَسْتَغْنِيَ بِهِمْ - هَكَذَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الزَّعْمُ لَكَانَ طَلَبُ التَّفْسِيرِ عَبَثًا ، يَضِيعُ بِهِ الْوَقْتُ سُدًى وَهُوَ - عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْفِقْهِ - مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى آخَرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْطُرُ هَذَا عَلَى بَالِ مُسْلِمٍ ؟
الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي جَرَى الِاصْطِلَاحُ عَلَى تَسْمِيَتِهَا فِقْهًا هِيَ أَقَلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ التَّهْذِيبِ وَدَعْوَةِ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهَا وَرَفْعُهَا مِنْ حَضِيضِ الْجَهَالَةِ إِلَى أَوْجِ الْمَعْرِفَةِ ،
[ ص: 19 ] وَإِرْشَادُهَا إِلَى طَرِيقَةِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالدُّخُولِ فِي الْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْإِرْشَادُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ ، وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ - كَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ - حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْ عِلْمِ التَّهْذِيبِ ، وَلَكِنَّ سُلْطَانَ الْقُرْآنِ عَلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهُ وَتَأْثِيرَهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ لَا يُسَاهِمُهُ فِيهِ كَلَامٌ ، كَمَا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ حِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ لَمْ يُكْشَفْ عَنْهَا اللِّثَامُ . وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا عَالِمٌ وَلَا إِمَامٌ . ثُمَّ إِنَّ أَئِمَّةَ الدِّينِ قَالُوا : إِنَّ الْقُرْآنَ سَيَبْقَى حُجَّةً عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ : " وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ " وَلَا يُعْقَلُ إِلَّا بِفَهْمِهِ ، وَالْإِصَابَةِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَحِكَمِهِ .
خَاطَبَ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ ، وَلَمْ يُوَجِّهِ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي أَشْخَاصِهِمْ ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِهِدَايَتِهِ . يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) فَهَلْ يُعْقَلُ أَنَّهُ يَرْضَى مِنَّا بِأَنْ لَا نَفْهَمَ قَوْلَهُ هَذَا وَنَكْتَفِيَ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِ نَاظِرٍ نَظَرَ فِيهِ ، لَمْ يَأْتِنَا مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا ؟ ! كَلَّا إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَفْهَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَالَمٍ وَجَاهِلٍ .
يَكْفِي الْعَامِّيَّ مِنْ فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) إِلَخْ : مَا يُعْطِيهِ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ ، وَأَنَّ الَّذِينَ جُمِعَتْ أَوْصَافُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ لَهُمُ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَوْصَافِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْخُشُوعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَا فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُ ، دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَصِدْقِ الْوَعْدِ ، وَالْعِفَّةِ عَنْ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ ، وَأَنَّ مَنْ فَارَقَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ إِلَى أَضْدَادِهَا فَهُوَ الْمُتَعَدِّي حُدُودَ اللَّهِ ، الْمُتَعَرِّضُ لِغَضَبِهِ ، وَفَهْمُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ أَيِّ طَبَقَةٍ كَانَ ، وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ لُغَةٍ كَانَ . وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا يَجْذِبُ نَفْسَهُ عَلَى الْخَيْرِ ، وَيَصْرِفُهَا عَنِ الشَّرِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ لِهِدَايَتِنَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنَّا كُلَّ أَنْوَاعِ الضَّعْفِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ . وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ تَعْلُو عَلَى هَذِهِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28962لِلتَّفْسِيرِ مَرَاتِبُ أَدْنَاهَا : أَنْ يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَالِ مَا يُشْرِبُ الْقَلْبَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَتَنْزِيهَهُ ، وَيَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيَجْذِبُهَا إِلَى الْخَيْرِ ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( 54 : 17 ) .
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ :
( أَحَدُهَا ) : فَهْمُ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي أُودِعَهَا الْقُرْآنُ بِحَيْثُ يُحَقِّقُ الْمُفَسِّرُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، غَيْرَ مُكْتَفٍ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفَهْمِ فُلَانٍ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " التَّأْوِيلِ " اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ
[ ص: 20 ] مَخْصُوصٍ ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( هَلْ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=53يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) فَمَا هَذَا التَّأْوِيلُ ؟ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ ؛ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ . فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْمُفَسِّرُونَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى . فَعَلَى الْمُدَقِّقِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِحَسْبِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ . وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْهَمَ اللَّفْظَ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ مَا تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ ، فَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَلَفْظِ " الْهِدَايَةِ " - سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْفَاتِحَةِ - وَغَيْرِهِ ، وَيُحَقِّقُ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَعْرِفُ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ مِنْ بَيْنِ مَعَانِيهِ ، وَقَدْ قَالُوا : إِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قَرِينَةٍ تَقُومُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ ، وَاتِّفَاقُهُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَعْنَى ، وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْقَصْدِ الَّذِي جَاءَ لَهُ الْكِتَابُ بِجُمْلَتِهِ .
( ثَانِيهَا ) : الْأَسَالِيبُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهَا مَا يَفْهَمُ بِهِ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الرَّفِيعَةَ . وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمُزَاوَلَتِهِ ، مَعَ التَّفَطُّنِ لِنُكَتِهِ وَمَحَاسِنِهِ ، وَالْعِنَايَةِ بِالْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ . نَعَمْ إِنَّنَا لَا نَتَسَامَى إِلَى فَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَلَكِنْ يُمْكِنُنَا فَهْمُ مَا نَهْتَدِي بِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ . وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَعِلْمِ الْأَسَالِيبِ ( الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ ) وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْفُنُونِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا وَحِفْظِ أَحْكَامِهَا لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ .
تَرَوْنَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُسَدَّدِينَ فِي النُّطْقِ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يُوَافِقُ الْقَوَاعِدَ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ ، أَتَحْسَبُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَبِيعِيًّا لَهُمْ ؟ كَلَّا ، وَإِنَّمَا هِيَ مَلَكَةٌ مُكْتَسَبَةٌ بِالسَّمَاعِ وَالْمُحَاكَاةِ ، وَلِذَلِكَ صَارَ أَبْنَاءُ الْعَرَبِ أَشَدَّ عُجْمَةً مِنَ الْعَجَمِ عِنْدَمَا اخْتَلَطُوا بِهِمْ . وَلَوْ كَانَ طَبِيعِيًّا ذَاتِيًّا لَهُمْ لَمَا فَقَدُوهُ فِي مُدَّةِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بَعْدِ الْهِجْرَةِ .
( ثَالِثُهَا ) : عِلْمُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ آخِرَ الْكُتُبِ ، وَبَيَّنَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي غَيْرِهِ . بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَطَبَائِعِهِمْ وَالسُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْبَشَرِ ، قَصَّ عَلَيْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ وَسِيَرِهَا الْمُوَافَقَةِ لِسُنَّتِهِ فِيهَا . فَلَا بُدَّ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي أَطْوَارِهِمْ وَأَدْوَارِهِمْ ، وَمَنَاشِئِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ ، مِنْ قُوَّةٍ
[ ص: 21 ] وَضَعْفٍ ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ ، وَمِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ ، وَيُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهَمِّهَا التَّارِيخُ بِأَنْوَاعِهِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَنَا لَا أَعْقِلُ كَيْفَ يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( كَانَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) ( 2 : 213 ) الْآيَةَ - وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَحْوَالَ الْبَشَرِ ، وَكَيْفَ اتَّحَدُوا ، وَكَيْفَ تَفَرَّقُوا ؟ وَمَا مَعْنَى تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ؟ وَهَلْ كَانَتْ نَافِعَةً أَمْ ضَارَّةً ؟ وَمَاذَا كَانَ مِنْ آثَارِ بَعْثِهِ النَّبِيِّينَ فِيهِمْ .
أَجْمَلَ الْقُرْآنُ الْكَلَامَ عَنِ الْأُمَمِ ، وَعَنِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَعَنْ آيَاتِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَفِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفَسِ ، وَهُوَ إِجْمَالٌ صَادِرٌ عَمَّنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَأَمَرَنَا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ ، وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِنَفْهَمَ إِجْمَالَهُ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يَزِيدُنَا ارْتِقَاءً وَكَمَالًا ، وَلَوِ اكْتَفَيْنَا مِنْ عِلْمِ الْكَوْنِ بِنَظْرَةٍ فِي ظَاهِرِهِ ، لَكُنَّا كَمَنْ يَعْتَبِرُ الْكِتَابَ بِلَوْنِ جِلْدِهِ لَا بِمَا حَوَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ .
( رَابِعُهَا ) : الْعِلْمُ بِوَجْهِ هِدَايَةِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِالْقُرْآنِ ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ الْقَائِمِ بِهَذَا الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ أَنْ يَعْلَمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُنَادِي بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا فِي شَقَاءٍ وَضَلَالٍ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ بِهِ لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْعَادِهِمْ . وَكَيْفَ يَفْهَمُ الْمُفَسِّرُ مَا قَبَّحَتْهُ الْآيَاتُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ ؟ هَلْ يَكْتَفِي مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ دُعَاةِ الدِّينِ وَالْمُنَاضِلِينَ عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ بِأَنْ يَقُولُوا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ : إِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ دَحَضَ أَبَاطِيلَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ ؟ كَلَّا .
وَأَقُولُ الْآنَ : يُرْوَى عَنْ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً ، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ " وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ النَّاسِ قَبْلَهُ يَجْهَلُ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ وَعِنَايَةَ اللَّهِ بِجَعْلِهِ مُغَيِّرًا لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ وَمُخْرِجًا لَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا يَظُنُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَمْرٌ عَادِيٌّ . كَمَا تَرَى بَعْضَ الَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ فِي النَّظَافَةِ وَالنَّعِيمِ يَعُدُّونَ التَّشْدِيدَ فِي الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ وَالسِّوَاكِ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ ، وَلَوِ اخْتَبَرُوا غَيْرَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ لَعَرَفُوا الْحِكْمَةَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ وَتَأْثِيرَ تِلْكَ الْآدَابِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ ؟
( خَامِسُهَا ) : الْعِلْمُ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الشُّئُونِ دُنْيَوِيِّهَا وَأُخْرَوِيِّهَا .
[ ص: 22 ] فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28966التَّفْسِيرَ قِسْمَانِ :
( أَحَدُهَمَا ) : جَافٌّ مُبْعِدٌ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ كِتَابِهِ ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ حَلُّ الْأَلْفَاظِ وَإِعْرَابُ الْجُمَلِ وَبَيَانُ مَا تَرْمِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَالْإِشَارَاتُ مِنَ النُّكَتِ الْفَنِّيَّةِ ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِينِ فِي الْفُنُونِ كَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَغَيْرِهِمَا .
( ثَانِيهُمَا ) : وَهُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي قُلْنَا : إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ - عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ - هُوَ الَّذِي يَسْتَجْمِعُ تِلْكَ الشُّرُوطَ لِأَجْلِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ لِغَايَتِهَا ، وَهُوَ ذَهَابُ الْمُفَسِّرِ إِلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْذِبُ الْأَرْوَاحَ ، وَيَسُوقُهَا إِلَى الْعَمَلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُودَعَةِ فِي الْكَلَامِ ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ : ( هُدًى وَرَحْمَةً ) وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ . فَالْمَقْصِدُ الْحَقِيقِيُّ وَرَاءَ كُلِّ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَالْفُنُونِ هُوَ الِاهْتِدَاءُ بِالْقُرْآنِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي أَرْمِي إِلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ .
وَتَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَيْضًا عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=28956التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ ، ثُمَّ بَيَّنَ عَظِيمَ شَأْنِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ بِمَا مِثَالُهُ : مَثَلُ النَّاطِقِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْآنَ - مِنَ
الْعِرَاقِ إِلَى نِهَايَةِ بِلَادِ
مُرَّاكُشَ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ فِي لُغَتِهِمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ مِنَ
الْأَعَاجِمِ الْمُخَالِطِينَ لِلْعَرَبِ ، وَجَدَ فِي كَلَامِهِمْ - بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ - مُفْرَدَاتٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ . فَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَى التَّفْسِيرِ ، وَفَهْمِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ كَانُوا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ حَيْثُ بُدِئَ بِكِتَابَةِ التَّفْسِيرِ وَأَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ بِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا يَكُونُ أَحْوَجَ مِنَّا إِلَى ذَلِكَ إِذَا بَقِينَا عَلَى تَقَهْقُرِنَا ، وَلَكِنْ إِذَا يَسَّرَ اللَّهُ لَنَا نَهْضَةً لِإِحْيَاءِ لُغَتِنَا وَدِينِنَا فَرُبَّمَا يَكُونُ مَنْ بَعْدَنَا أَحْسَنَ حَالًا مِنَّا .
التَّفْسِيرُ عِنْدَ قَوْمِنَا الْيَوْمَ وَمِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ : هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنَ اخْتِلَافٍ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ( 4 : 82 ) وَلَيْتَ أَهْلَ الْعِنَايَةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ يَطْلُبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعْنًى تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ فِي الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْكِتَابِ ، ثُمَّ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَيْهِ . وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا صِنَاعَةً يُفَاخِرُونَ بِالتَّفَنُّنِ فِيهَا ، وَيُمَارُونَ فِيهَا مَنْ يُبَارِيهِمْ فِي طَلَبِهَا ، وَلَا يَخْرُجُونَ لِإِظْهَارِ الْبَرَاعَةِ فِي تَحْصِيلِهَا عَنْ حَدِّ الْإِكْثَارِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَاخْتِرَاعِ الْوُجُوهِ مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَالْإِغْرَابِ فِي الْإِبْعَادِ عَنْ مَقَاصِدِ التَّنْزِيلِ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْأَلُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَمَا فَهِمُوهُ وَإِنَّمَا يَسْأَلُنَا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِإِرْشَادِنَا وَهِدَايَتِنَا ، وَعَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا مَا نُزِّلَ إِلَيْنَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( 16 : 44 )
[ ص: 23 ] يَسْأَلُنَا هَلْ بَلَغَتْكُمُ الرِّسَالَةُ ؟ هَلْ تَدَبَّرْتُمْ مَا بُلِّغْتُمْ ؟ هَلْ عَقَلْتُمْ مَا عَنْهُ نُهِيتُمْ وَمَا بِهِ أُمِرْتُمْ ؟ وَهَلْ عَمِلْتُمْ بِإِرْشَادِ الْقُرْآنِ ، وَاهْتَدَيْتُمْ بِهَدْيِ النَّبِيِّ وَاتَّبَعْتُمْ سُنَّتَهُ ؟ عَجَبًا لَنَا نَنْتَظِرُ هَذَا السُّؤَالَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ ، فَيَا لَلْغَفْلَةِ وَالْغُرُورِ .
مَعْرِفَتُنَا بِالْقُرْآنِ كَمَعْرِفَتِنَا بِاللَّهِ تَعَالَى : أَوَّلُ مَا يُلَقَّنُ الْوَلِيدُ عِنْدَنَا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، هُوَ اسْمُ " اللَّهِ " تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، يَتَعَلَّمُهُ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ يَسْمَعُ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَعْقِلُ مَعْنَى ذَلِكَ ، ثُمَّ لَا يَعْرِفُ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ إِلَّا مَا يُعَظِّمُهُ بِهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّى بَيْنَهُمْ . وَذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) :
nindex.php?page=treesubj&link=18630_18629اعْتِقَادُ أَنَّ آيَةَ كَذَا إِذَا كُتِبَتْ وَمُحِيَتْ بِمَاءٍ وَشَرِبَهُ صَاحِبُ مَرَضِ كَذَا يُشْفَى ، وَأَنَّ مَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ ، لَا يَقْرَبُهُ جِنٌّ وَلَا شَيْطَانٌ ، وَيُبَارَكُ لَهُ فِي كَذَا وَكَذَا ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ وَمَعْرُوفٌ لِلْعَامَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ لِلْخَاصَّةِ ، وَمَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ هَذَا وَعَدَمِ صِحَّتِهِ نَقُولُ : إِنَّ فِيهِ مُبَالَغَةً فِي التَّعْظِيمِ عَظِيمَةً جِدًّا وَلَكِنَّهَا - وَيَا لَلْأَسَفِ - لَا تَزِيدُ عَنْ تَعْظِيمِ التُّرَابِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ الْأَضْرِحَةِ ابْتِغَاءَ هَذِهِ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ نَفْسِهَا . أَقُولُ : وَنَحْوُ هَذَا مَا يُعَلَّقُ عَلَى الْأَطْفَالِ مِنَ التَّعَاوِيذِ وَالتَّنَاجِيسِ كَالْخِرَقِ وَالْعِظَامِ وَالتَّمَائِمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الطَّلْسَمَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ ، الْمَنْقُولَةِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ ، هَذَا الضَّرْبُ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ نُسَمِّيهِ - إِذَا جَرَيْنَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ - عِبَادَةً لِلْقُرْآنِ لَا عِبَادَةً لِلَّهِ بِهِ .
( ثَانِيهِمَا ) :
nindex.php?page=treesubj&link=28896الْهِزَّةُ وَالْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ وَالْكَلِمَاتُ الْمَعْلُومَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ ، إِذَا كَانَ الْقَارِئُ رَخِيمَ الصَّوْتِ حَسَنَ الْأَدَاءِ عَارِفًا بِالتَّطْرِيبِ عَلَى أُصُولِ النَّغَمِ . وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ اللَّذَّةِ وَالنَّشْوَةِ هُوَ حُسْنُ الصَّوْتِ وَالنَّغَمِ ، بَلْ أَقْوَى سَبَبٍ لِذَلِكَ هُوَ بُعْدُ السَّامِعِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ . وَأَعْنِي بِالْفَهْمِ مَا يَكُونُ عَنْ ذَوْقٍ سَلِيمٍ تُصِيبُهُ أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ بِعَجَائِبِهَا ، وَتَمْلِكُهُ مَوَاعِظُهُ فَتَشْغَلُهُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ . لَا أُرِيدُ الْفَهْمَ الْمَأْخُوذَ بِالتَّسْلِيمِ الْأَعْمَى مِنَ الْكُتُبِ أَخْذًا جَافًّا لَمْ يَصْحَبْهُ ذَلِكَ الذَّوْقُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ رِقَّةِ الشُّعُورِ وَلُطْفِ الْوِجْدَانِ ، اللَّذَيْنِ هُمَا مَدَارُ التَّعَقُّلِ وَالتَّأَثُّرِ وَالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ .
لِهَذَا كُلِّهِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ : إِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْيَوْمَ أَشَدُّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالضَّالِّينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ لِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=146يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ شَرِيفٌ ، نَعَمْ رُبَّمَا كَانَ إِثْمُ صَاحِبِهَا مَعَ الْجُحُودِ أَشَدَّ ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ
[ ص: 24 ] دَائِمًا مَلُومًا مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ ، وَهَذَا اللَّوْمُ يُزَلْزِلُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ .
كَانَ الْبَدَوِيُّ رَاعِي الْغَنَمِ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ فَيَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا لِمَا عِنْدَهُ مِنْ رِقَّةِ الْإِحْسَاسِ وَلُطْفِ الشُّعُورِ ، فَهَلْ يُقَاسُ هَذَا بِأَيِّ مُتَعَلِّمٍ الْيَوْمَ ؟ أَرَأَيْتَ أَهْلَ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، كَيْفَ انْضَوَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ بِجَاذِبِيَّةِ الْقُرْآنِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دِقَّةِ الْفَهْمِ ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ الِانْجِذَابِ إِلَى الْحَقِّ ؟ ! وَأَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى الْبِنْتِ الْأَعْرَابِيَّةِ الَّتِي فَطِنَتْ لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ . وَمُجْمَلُ الْخَبَرِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13721الْأَصْمَعِيَّ قَالَ : سَمِعْتُ بِنْتًا مِنَ الْأَعْرَابِ خُمَاسِيَّةً أَوْ سُدَاسِيَّةً تُنْشِدُ :
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبِي كُلِّهِ قَتَلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ مِثْلَ غَزَالٍ نَاعِمٍ فِي دَلِّهِ
وَانْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهِ
فَقُلْتُ لَهَا : قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ ، فَقَالَتْ : وَيَحَكَ أَيُعَدُّ هَذَا فَصَاحَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( 28 : 7 ) فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ .
لَمَّا رَأَى عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي جَذْبِ قُلُوبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُحْفَظُ إِلَّا بِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ قَدِ اخْتَلَطُوا
بِالْعَجَمِ ، وَفَهِمَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَعَاجِمِ مَا فَهِمَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِ أَجْمَعَ كُلٌّ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَدَوَّنُوا لَهَا الدَّوَاوِينَ وَوَضَعُوا لَهَا الْفُنُونَ ، نَعَمْ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِلُغَةِ الْأُمَّةِ وَآدَابِهَا فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمَادَّةٌ مِنْ مَوَادِّ حَيَاتِهَا ، وَلَا حَيَاةَ لِأُمَّةٍ مَاتَتْ لُغَتُهَا . وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْحَامِلَ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ بِمُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا وَآدَابِهَا ، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا .
أَلَّفَ الْعَلَّامَةُ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ كِتَابًا فِي الْفِرَقِ خَتَمَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَزَايَاهُمْ ، وَعَدَّ مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْفِرَقِ : التِّبْرِيزَ فِي اللُّغَةِ وَآدَابِهَا ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ . فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَزَايَا الْيَوْمَ ؟ وَأَيْنَ آثَارُهَا فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ ؟ بَلْ فَهْمِ مَا دُونَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ! وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ ا هـ .
أَقُولُ الْآنَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29568الْقُرْآنَ هُوَ حُجَّةُ اللَّهِ الْبَالِغَةُ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ ، فَلَا بَقَاءَ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ فَهْمًا صَحِيحًا ، وَلَا بَقَاءَ لِفَهْمِهِ إِلَّا بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي بَعْضِ بِلَادِ الْأَعَاجِمِ فَإِنَّمَا بَقَاؤُهُ بِوُجُودِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَا يَكْفِي لِرَدِّ الشُّبُهَاتِ عَنِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ ، وَبِبَقَاءِ ثِقَةِ الْعَامَّةِ بِهِمْ وَبِمَا يَقُولُونَهُ تَقْلِيدًا لَهُمْ فِيهِ ، أَوْ بِعَدَمِ عُرُوضِ الشُّبَهِ لَهُمْ مِنْ دُعَاةِ
[ ص: 25 ] الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى ، مَعَ تَأْثِيرِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ : بِحَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَنَشْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي أَوْجِ الْقُوَّةِ بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .
كَانَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ صَارَ أَخًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ أُمَّتَهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ ، لَا الْعَرَبِيَّةُ وَلَا الْفَارِسِيَّةُ وَلَا الْقِبْطِيَّةُ وَلَا التُّرْكِيَّةُ . . . . كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=92إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( 21 : 92 ) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ ، وَلَا لُغَةَ تَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْبُطُهُمْ إِلَّا لُغَةُ الدِّينِ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِخْوَانًا ، وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَعُدْ خَاصَّةً بِالْجِنْسِ الْعَرَبِيِّ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَجْنَاسِ - الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِ بِالْأَصْنَافِ - مِنْ جِهَةِ أَنْسَابِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ .
وَلِهَذَا كَانَ يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَجَمِ فِي خِدْمَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ كَمَا يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ ، وَيَعُدُّونَهَا لُغَتَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّتُهُ : وَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الْقُرْآنِ كَالْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وَفِي حَدِيثِ
جَابِرٍ عِنْدَ
الْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918561يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ - قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ - فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " .
ثُمَّ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ وَشَدَّدَ فِي مَنْعِهَا ، بَعْدَ أَنْ ضَعُفَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِمْ ، حَتَّى قَامَ بَعْضُ الْأَعَاجِمِ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ . زَاعِمًا أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ لَيْسَ لَهُ لُغَةٌ . وَغَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي بُغْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَدَعَا مُسْلِمِي قَوْمِهِ إِلَى الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بِلُغَتِهِمْ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَمَلِ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِلُغَةِ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الْيَوْمِ ، وَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الضَّعْفِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْأَعَاجِمِ - كَجَاوَةَ ، الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِالدِّينِ وَلُغَتِهِ ، الْقَادِرُونَ عَلَى دَفْعِ الشُّبَهِ عَنِ الْقُرْآنِ - صَارُوا يَرْتَدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لِإِيضَاعِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ خِلَالَهُمْ ، وَسُؤَالِهِمُ الْفِتْنَةَ بِالتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآنِ وَالطَّعْنِ فِيهِ . وَأَيْنَ مَنْ يَفْهَمُهُ وَيُدَافِعُ عَنْهُ هُنَاكَ ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ يَفْخَرُ بِسَلَفِهِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالْمَجُوسِ حَتَّى بِفِرْعَوْنَ الَّذِي لَعَنَهُ اللَّهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ .
أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَنَعْتَبِرَ بِهِ ، وَنَتَذَكَّرَ وَنَهْتَدِيَ ، وَأَنْ نَعْلَمَ مَا نَقُولُهُ فِي صِلَاتِنَا مِنْ آيَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ ، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَالِامْتِثَالُ لَهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى . وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ مُعْجِزًا
[ ص: 26 ] لِلْبَشَرِ وَلَا تَقُومُ حُجَّتُهُ فِي هَذَا عَلَيْهِمْ إِلَّا بِفَهْمِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ فَهْمُهُ إِلَّا بِفَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى ،
nindex.php?page=treesubj&link=32264فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ ، نَدْعُو إِلَيْهَا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِدُعَائِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ .
وَإِنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا ضَعُفُوا وَزَالَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ إِلَّا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فَقَدُوا مِنَ الْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ وَالْكَرَامَةِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى هِدَايَتِهِ ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ كَمَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى إِحْيَاءِ لُغَتِهِ فَالدُّعَاءُ لَهُ دُعَاءٌ لَهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=25وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=26وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( 8 : 24 - 26 ) وَبِالشُّكْرِ تَدُومُ النِّعَمُ ، وَكُفْرُهَا مَجْلَبَةٌ لِلنِّقَمِ ، وَلِذَلِكَ أَرْشَدَنَا اللَّهُ فِي فَاتِحَةِ كِتَابِهِ إِلَى الدُّعَاءِ بِأَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَبْدَأُ بِالْمَقْصُودِ بِعَوْنِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .