[ ص: 231 ] ثم بين - تعالى - جريمة أخرى من جرائمهم في الكتاب فقال : واشتروا به ثمنا قليلا أي أخذوا بدله فائدة دنيوية قليلة لا توازي عشر فوائد بيان الكتاب ، والعمل به ، فكانوا مغبونين في هذا البيع ، والشراء ، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرءوسين وعكسه - كما تقدم في سورة البقرة ، وفي هذه السورة - ومنه ما يتقرب به العلماء إلى الحكام ، وأجور الفتاوى الباطلة ، وسيأتي بعض التفصيل فيه ، والعبرة به .
وقد أرجع بعضهم الضمير في قوله : فنبذوه وقوله : واشتروا به إلى الميثاق . وجرى مثل ذلك على لسان الأستاذ الإمام في الدرس ، ونقله عنه بعض الطلاب ، ولعله سهو ، فإن هذه الآية بمعنى آية البقرة كالزمخشري إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ما يأكلون في بطونهم إلا النار [ 2 : 174 ] الآية ، وهي صريحة في الكتاب ، فيراجع تفسيرها في الجزء الثاني ، وفي معناها آيات أخرى منها قوله : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون [ 2 : 79 ] ومنها في خطاب بني إسرائيل ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [ 2 : 41 ] فيراجع تفسيرهما في الجزء الأول . وورد في هذه السورة ( آل عمران ) بيع العهد والأيمان ، واشتراء الثمن القليل بهما في الكلام على اليهود ، قال - تعالى - : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة [ 3 : 77 ] الآية . وتراجع في الجزء الثالث ، والعهد يأتي بمعنى الميثاق ، ويطلق بمعنى ما عهد الله به إلى الناس في وحيه من الشرائع كقوله - عز وجل - : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان [ 36 : 60 ] الآية . وقوله : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين [ 2 : 125 ] الآية ، فالعهد بهذا المعنى يراد به المعهود به فيكون بمعنى الكتاب ، وهو المراد في الآية المذكورة آنفا ( 3 : 77 ) ، ولذلك أفرد العهد ، وعطف عليه الأيمان ; لأن العهد واحد وإن اشتمل على أحكام كثيرة وهو الكتاب ، والأيمان تعتبر كثيرة بكثرة من أخذت عليهم .
وجملة القول : أن الضمير في قوله : فنبذوه وقوله : واشتروا به هو ضمير الكتاب لا الميثاق كما قيل .
الأستاذ الإمام : نبذوا الميثاق : لم يفوا به إذ تركوا العمل بالكتاب ، والثمن القليل الذي اشتروه به لم يبينه القرآن ; لأنه ظاهر في نفسه ، ومعروف من سيرتهم ، وهو عبارة عن التمتع بالشهوات الدنية واللذائذ الفانية ، فكان أحدهم يجد في العمل بالكتاب ، والتزام الشريعة مشقة فيتركه حبا في الراحة ، وإيثارا للذة ، وأما فقد كان لهم فيه أغراض كثيرة : ( منها ) الخوف من الحكام ، والرجاء فيهم ، فيحرف رجال الدين [ ص: 232 ] النصوص عن مواضعها المقصودة ، ويصرفونها إلى معان أخرى ليوافقوا ما يريد الحاكم فيأمنوا شره ، وينالوا بره . ( ومنها ) إرضاء العامة ، أو الأغنياء خاصة بموافقة أهوائهم لاستفادة الجاه ، والمال . ( ومنها ) - وهو الأصل الأصيل في التحريف - الجدل ، والمراء بين رجال الدين أنفسهم لاسيما الرؤساء وطلاب الرياسة منهم ، فإن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا ، أو أفتى فأخطأ فأبان خطأه آخر ينبري لتصحيح قوله ، وتوجيه فتياه ، وتخطئة خصمه ، وتأخذه العزة بالإثم فيرى الموت أهون عليه من الاعتراف بخطئه ، والرجوع إلى قول أخيه في العلم والدين . ( ومنها ) الجهل ، فإن المتصدي للتعليم ، أو الفتيا قد يجهل مسائل فيتعرض لبيانها بغير علم ، وإذا أبيح لمثل هذا أن يعلم للأسباب التي نعهدها من الرؤساء الذين يجيزون جهلة الطلاب بالتدريس ، ويعطونهم الشهادة بالعلم محاباة لهم ، فإنه يربي تلاميذ أجهل منه فيكونون كلهم محرفين مخرفين ، ويفسد بهم الدين لاسيما إذا صاروا مقربين من الأمراء والحكام . ( ومنها ) انقطاع سلسلة أهل الفهم ، والتبيين ، وخبط الناس بعدهم فيما يؤثر عنهم من بيان ، وتأويل ، وحمله على غير المراد منه حتى بعدوا عن الأصل بعدا شاسعا قال : وانظر في حال المسلمين - الذين اتبعوا سنن من قبلهم - واعتبر بحال بعض أهل الأزهر ترى بعينيك كما رأينا ، وتسمع بأذنيك كما سمعنا ، وتفهم سر ما قصه الله من أنباء أهل الكتاب علينا . التأويل والتحريف
أقول : ومما سمعه هو - وهو العجب العجاب - قول شيخ من أكبر الشيوخ سنا وشهرة في العلم في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملإ من العلماء : " من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق " يعني أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء ، فقال له الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : " من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق " وقد ذكرنا هذه المسألة في المنار في زمنهما .
واعلم أنه لا مفسدة أضر على الدين وأبعث على إضاعة الكتاب ، ونبذه وراء الظهر ، واشتراء ثمن قليل به من ، فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام - لاسيما المستبدين منهم - وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية ، ومعايش العلماء في أيدي السلاطين ، والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالا في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاءوا من غش العامة باسم الدين ، وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين ، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ، ولا فتوى من عالم رسمي مطوق بتلك السلاسل ، وقد انتهى الأمر بالرتب العلمية في الدولة العثمانية أن صارت توجه على الأطفال بل الجاهلين من الرجال حتى قال فيها أحد علماء جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام طرابلس الشام من قصيدة طويلة في سوء حال الدولة :
[ ص: 233 ]
زمن رأيت به العجائب وذهلت فيه من الغرائب زمن به الوهم السخي
ف على عقول الناس غالب أفلا تراهم جانبوا
كسب المعارف والمآدب ورضوا بأوراق تخط
خطوطها مثل العقارب يشهدن زورا أن من
هي باسمه نور الغياهب علامة العلماء أو
بلاغ دولته المآرب ويكون أجهل جاهل
ولما لها بالغش ناهب أو أنه حدث على
فخذيه خرء الليل لازب
ثم هزأ الناظم بعد ذلك بكساوي التشريف العلمية وشبهها - وهي على العلماء - بالسروج ( المزركشة ) على الدواب " والسيور على القباقب " إلى أن قال :
ضحكت عليهم دولة هرمت وقاربت المعاطب
على أنه صار بعد ذلك من حملة هاتيك الأوراق ، والمتزينين بتلك الكساوي الموشاة والمتحلين بتلك الأوسمة البراقة الذين يسبحون بحمد السلطان معطيها بكرة وأصيلا ، ويضللون من يطلب إصلاح حال الدولة تضليلا ؟ فهل يوثق بعلم عالم مقرب من المستبدين أو بدينه ؟
إن أشد مما يهربون من الحيات ، والعقارب ، ورووا في ذلك أخبارا ، وآثارا كثيرة : منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين - زاد في رواية يكذبون ويظلمون - سيكون بعدي أمراء الحديث رواه فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ، وليس بوارد على الحوض الترمذي ، وصححه ، ، والنسائي والحاكم ، وصححه أيضا ، والبيهقي . وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم - : رواه سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم ، ويعملون فيسيئون العمل ، لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم وتصدقوا كذبهم ، فأعطوهم الحق ما رضوا به ، فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد عن الطبراني أبي سلالة ، وله طرق أخرى ، وإنما أوردناه لقوله فيه : . يملكون أرزاقكم
ومنها حديث أنس المشهور : " ما لم يخالطوا السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم العلماء أمناء الرسل على عباد الله " رواه في المصنف ، العقيلي في مسنده ، وكذا والحسن بن سفيان الحاكم في التاريخ ، وأبو نعيم في الحلية ، والديلمي في مسند الفردوس [ ص: 234 ] وغيرهم ، ونازع السيوطي في وضعه فقال : إن له شواهد فوق الأربعين ، فيحكم له على مقتضى صناعة الحديث بالحسن . ابن الجوزي
ومنها حديث : ابن عباس قال إن أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرءون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ، ولا يكون ذلك ، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك ، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا السيوطي : رواه بسند رواته ثقات ، وكذا ابن ماجه . ومن حديثه عند ابن عساكر الديلمي : " سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ، ولا يرغبون ، ويزهدون في الدنيا ولا يزهدون ، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون " .
ومنه أيضا عند أصحاب السنن الثلاثة وحسنه الترمذي : " " . من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى أبواب السلطان افتتن
ومنها حديث : " معاذ بن جبل ما من عالم أتى صاحب سلطان طوعا إلا كان شريكه في كل لون يعذب به في نار جهنم " أخرجه الحاكم في تاريخه ، والديلمي . وأخرج أبو الشيخ في الثواب ، والحاكم في التاريخ من حديثه أيضا : " إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ، ثم أتى باب السلطان تملقا إليه ، وطمعا لما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنم " وأخرجه الديلمي من حديث بلفظ آخر . أبي الدرداء
وفي الباب أحاديث أخرى ، أوردها الحافظ السيوطي في كتاب خاص سماه ( الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ) والآثار عن السلف الصالح في ذلك أكثر لظهور أمراء الجور في زمنهم ، وتهافت العلماء عليهم ، منها قول الجليل : " إياكم ومواقف الفتن . قيل : وما هي ؟ قال : أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ، ويقول ما ليس فيه : " وقال حذيفة الصحابي أبو ذر الصحابي الجليل لسلمة بن قيس : " لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك أفضل منه " ، وقال الإمام المشهور : " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا ، أي من عمال الحكومة " وقال الأوزاعي سمنون العابد الشهير : " ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد ، فيسأل عنه ، فيقال عند الأمير ، وكنت أسمع أنه يقال : إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك ، ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج ، فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم " اهـ ، وقد أشار بقوله : وكنت أسمع إلخ إلى حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أبي هريرة إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص رواه الديلمي في مسند الفردوس . أو إلى قول سفيان الثوري : إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص . وإذا رأيته [ ص: 235 ] يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء ، وإياك أن تخدع ، فيقال لك : نرد مظلمة ، ندفع عن مظلوم ، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها للقراء سلما . ليوسف بن أسباط
أقول : يعنون بالقراء علماء الدين ، يعني أن الشيطان يلبس على رجال الدين ما يلبسون فيقول لهم ويقولون : إننا لا نريد بغشيان الأمراء والتردد عليهم إلا نفع الناس ، ودفع المظالم عنهم ، وهم إنما يريدون المال والجاه بدينهم ، ويقل الصادق فيهم . وهكذا أضاعوا دينهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا .
وقد نظم كثيرون من ناظمي الحكم بعض هذه المعاني . ومن أحسن ما نظم في ذلك قول بعضهم :
قل للأمير مقالة لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى أبوابكم لا خير فيه
قال - تعالى - : فبئس ما يشترون أي هو ذميم قبيح ، لأنهم يجعلون هذا العرض الفاني بدلا من النعيم الباقي في الآخرة ، وكذا من سعادة الدنيا الحقيقية التي تحصل للأمة بمحافظة العلماء على الكتاب ، وتبيينه لها ، وإرشادها به إلى ما يهذب أخلاقها ، ويعلي آدابها ، ويجمع كلمتها ، ويحول بينها وبين مطامع المستبدين فيها حتى تكون أمة عزيزة قوية متكافلة متضامنة ، أمرها شورى بين أهل الرأي ، وأولي الأمر من أفرادها .