قال الأستاذ الإمام في بيان وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها : إنها جاءت بعد أفاعيل أهل الكتاب ، وغيرهم مع المؤمنين ، فهي تدل على أن أولئك المجاهدين لو كانوا يتفكرون في خلق السماوات والأرض لكفوا من غرورهم ، ولعلموا أنه يليق بحكمته - تعالى - أن يرسل إلى الناس رسولا من أنفسهم ، ولكنه جعل الآية مطلقة موجهة إلى أولي الألباب ليطلق النظر [ ص: 244 ] وقال الرازي : اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب ، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام ، والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد ، والإلهية ، والكبرياء ، والجلال ، فذكر هذه الآية . اهـ .
أقول : وقد بينا في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها عند الابتداء بتفسيرها أن كلا منهما مفتتحة بذكر الكتاب وشئون الناس فيه ، ومختتمة بالثناء على الله - عز وجل - ودعائه .
وقد ذكروا سببا لنزول هذه الآيات على عدم تعلقها بالحوادث ، فقد أخرج ، الطبراني ، عن وابن أبي حاتم قال : " أتت ابن عباس قريش اليهود ، فقالوا : بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا : عصاه ، ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى ، فقالوا : كيف كان عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه ، فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب فليتفكروا فيها . انتهى من لباب النقول . وأنت لا ترى المناسبة قوية بين الاقتراح وبين الآية إلا من حيث إن مراد القرآن - من عبادة الله وحده دون الخوارق ، والآيات الكونية ، وقد ورد الرد على هؤلاء المقترحين في كثير من السور المكية ، وسيأتي تفسيرها في مواضعه إن شاء الله - تعالى - . الاستدلال بآيات الله في الكائنات على حقيقة ما يدعو إليه النبي - صلى الله عليه وسلم
وقد تقدم تفسير ما في خلق السماوات والأرض ، - بوحدة النظام في ذلك ، وعلى رحمته بما فيها من المنافع والمرافق للعباد ، فليراجع في تفسير آية واختلاف الليل والنهار من الآيات على وحدانية الله - تعالى إن في خلق السماوات [ 2 : 164 ] إلخ [ ص4 ج 2 ط الهيئة العامة للكتاب ] .
وقال الأستاذ الإمام هنا : السماوات : ماعلاك مما تراه فوقك ، والأرض : ما تعيش عليه ، والخلق : التقدير والترتيب لا الإيجاد من العدم ، كما اصطلح عليه في علم الكلام ، فذلك لا يتضمن معنى النظام والإتقان وهو ما هي عليه في الواقع ، ونفس الأمر ، وبعد ما ذكر خلق السماوات والأرض لفت العقول إلى أمر مما يكون في الأرض وهو اختلاف الليل والنهار; فإن هذا الاختلاف قائم بنظام في طول الليل والنهار ، وقصرهما ، وتعاقبهما ، وهذا أمر عظيم سواء كان سببه ما كانوا يعتقدون من أنه حادث من حركة الشمس ، أو ما يعتقدون الآن من أن سببه حركة الأرض تحت الشمس ، ومن الحكم في ذلك ما نراه في أجسامنا وعقولنا من تأثير حرارة الشمس ، ورطوبة الليل ، وكذا في تربية الحيوان والنبات ، وغير ذلك ، ولو كان الليل سرمدا والنهار سرمدا لفاتت .
وهذه الآيات تظهر لكل أحد على قدر علمه وفهمه وجودة فكره ، فأما علماء الهيئة [ ص: 245 ] فإنهم يعرفون من نظامها ما يدهش العقل ، وأما سائر الناس فحسبهم هذه المناظر البديعة ، والأجرام الرفيعة ، وما فيها من الحسن ، والروعة ، وخص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولو ألباب ; لأن من اللب ما لا فائدة فيه ، كلب الجوز ونحوه إذا كان عفنا ، وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن ، فهي لا تهتدي إلى وغيرهما . الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض
وإنما سمي العقل لبا ; لأن اللب هو محل الحياة من الشيء ، وخاصته وفائدته ، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية ، وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله ، وحكمته ، ولكن بعضهم لا ينظر ، ولا يتفكر ، وإنما العقل الذي ينظر ، ويستفيد ، ويهتدي هو الذي وصف أصحابه بقوله - تعالى - : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم والذكر في الآية على عمومه لا يخص بالصلاة ، والمراد به ذكر القلوب ، وهو إحضار الله - تعالى - في النفس وتذكر حكمه ، وفضله ، ونعمه في حال القيام ، والقعود ، والاضطجاع ، وهذه الحالات الثلاث التي لا يخلو العبد عنها تكون فيها السماوات ، والأرض معه لا يتفارقان ، ، فكأين من عالم يقضي ليله في رصد الكواكب فيعرف منها ما لا يعرف الناس ، ويعرف من نظامها ، وسننها ، وشرائعها ما لا يعرف الناس ، وهو يتلذذ بذلك العلم ولكنه مع هذا لا تظهر له هذه الآيات ; لأنه منصرف عنها بالكلية . والآيات الإلهية لا تظهر من السماوات والأرض إلا لأهل الذكر
ثم إن ذكر الله - تعالى - لا يكفي في الاهتداء إلى الآيات ، ولكن يشترط مع الذكر التفكر فيها ، فلا بد من الجمع بين الذكر ، والفكر ، فقد يذكر المؤمن بالله ربه ، ولا يتفكر في بديع صنعه ، وأسرار خليقته ; ولذلك قال : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض .
أقول : قد يتفكر المرء في عجائب السماوات والأرض ، وأسرار ما فيهما من الإتقان ، والإبداع ، والمنافع الدالة على العلم المحيط ، والحكمة البالغة ، والنعم السابغة ، والقدرة التامة ، وهو غافل عن العليم الحكيم القادر الرحيم الذي خلق ذلك في أبدع نظام ، وكم من ناظر إلى صنعة بديعة لا يخطر في باله صانعها اشتغالا بها عنه ، فالذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض هم غافلون عن خالقهما ، ذاهلون عن ذكره ، يمتعون عقولهم بلذة العلم ، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله - عز وجل - ، فمثلهم كما قال الأستاذ الإمام : كمثل من يطبخ طعاما شهيا يغذي به جسده ، ولكنه لا يرقى به عقله ، يعني أن الفكر وحده وإن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر ، ، فيا طوبى لمن جمع بين الأمرين واستمتع بهاتين اللذتين ، فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ونجوا من عذاب النار في الآخرة ، فتلك النعمة التي لا تفضلها نعمة ، واللذة التي لا تعلوها لذة ; لأنها هي التي يهون معها كل كرب ، ويسلس كل صعب ، وتعظم كل نعمة ، وتتضاءل كل نقمة ، تلك اللذة التي تتجلى مع الذكر [ ص: 246 ] في كل شيء فيكون في عين ناظره جميلا ، وفي كل صوت فيكون في سمع سامعه مطربا ، فلسان حال الذاكر ينشد في هذا التجلي قول الشاعر الذاكر : والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر
من كل معنى لطيف أجتلي قدحا وكل حادثة في الكون تطربني
فإذا تحول التجلي عن جمال الأكوان ، وتفكر الذاكر في تقصيره من حيث هو إنسان عن شكر المنعم عليه بكل شيء يتمتع به ، وعن القيام بما يصل إليه استعداده من معرفته استولى عليه سلطان الجلال فتعلو همته في طلب الكمال فينطلق لسانه بالدعاء ، والثناء ، وقلبه بين الخوف والرجاء