في حكم الاجتهاد : لا يخلو حال المجتهد فيه إما أن تتفق عليه أقوال المجتهدين أو تختلف : فإن اتفقت فهو إجماع يجب العمل به ، وإن اختلفت أقوالهم فإما أن يكون في حكم عقلي أو شرعي : الأول - العقلي : فإن كان الغلط مما يمنع معرفة الله سبحانه ورسوله ، كما في إثبات العلم بالصانع والوحدانية وما يتعلق بالعدل والتوحيد ، فالحق فيها واحد ، هو المكلف ، وما عداه باطل . فمن أصابه أصاب الحق ، ومن أخطأه فهو كافر . وإن كان في غير ذلك ، كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ، وكما في وجوب متابعة الإجماع والعمل بخبر الواحد ، فقد أطلق عليه اسم ( الكفر ) ، فمن أصحابه من أجراه على ظاهره ، ومنهم من أوله على كفران النعم ، وصححه الشافعي النووي وغيره ، ولا شك في أنه مبتدع فاسق ، لعدوله عن الحق .
هذا كله إذا كانت المسألة دينية . أما ما ليس كذلك ، كما في وجوب تركيب الأجسام من ثمانية أجزاء ، وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف ، فلا المخطئ فيه آثم ، ولا المصيب مأجور ، إذ يجري مثل هذا مجرى الخطأ في أنمكة شرفها الله أكبر من المدينة أو أصغر . وقال عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة : كل مجتهد في الأصول [ ص: 277 ] مصيب . ونقل مثله عن . ويلزم من مذهب الجاحظ العنبري أن لا يكون أحد من المخالفين في الدين مخطئا . وأما فجعل الحق في هذه المسائل واحدا ، ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم . الجاحظ
أما رأي العنبري فبين الاستحالة ، فإنه يستحيل أن يكون الحق أن العالم قديم وأنه محدث ، وأما [ رأي ] فباطل ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قاتل الجاحظ اليهود والنصارى ، وكذلك الصحابة ، ولولا أنهم مخطئون لما كان كذلك . قال ابن السمعاني : وكان ابن العنبري يقول في مثبتي القدر : هؤلاء عظموا الله ، وفي نافي القدر : هؤلاء نزهوا الله ، وقد استبشع هذا القول منه ، فإنه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم ، قال : ولعله أراد . وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل ، أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة ، كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه كاليهود والنصارى والمجوس ، فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام قلت : وهذا أحد المنقولات عنه . قال القاضي في " مختصر التقريب " : اختلفت الرواية عن العنبري فقال في أشهر الروايتين : إنما أصوب كل مجتهد في الدين تجمعهم الملة . وأما الكفرة فلا يصوبون .
وغلا بعض الرواة عنه فصوب الكافرين المجتهدين دون الراكنين إلى البدعة . ونحن نتكلم معهما مختصرا فنقول : أنتما ( أولا ) محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما . و ( ثانيا ) إذا أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد فقد [ ص: 278 ] خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام . وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ونفي الحرج - كما نقل عن - فالبراهين العقلية من الكتاب والسنة والإجماع الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة . وأما تخصيص التصويب بالمجمعين على الملة الإسلامية فنقول : مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره . وأجمعوا قبل الجاحظ العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه . وقال الغزالي في " المنخول " : لعله أراد خلق الأفعال وخلق القرآن ، إذ المسلم لا يكلف الخوض فيه ، بخلاف قدم العالم ونفي النبوات ، وهو مع هذا فاسد ، فإن اعتقاد الإصابة المحققة على هذا محال . وقال إلكيا : ذهب العنبري إلى أن المصيب في العقليات واحد ، ولكن ما يتعلق بتصديق الرسل وإثبات حدوث العالم وإثبات الصانع ، فالمخطئ فيه غير معذور . وأما ما يتعلق بالقدر والجبر وإثبات الجهة ونفيها فالمخطئ فيه غير معذور ولو كان مبطلا في اعتقاده بعد الموافقة بتصديق الرسل والتزام الملة ، وبين ذلك على أن الخلق ما كلفوا إلا اعتقاد تعظيم الله وتنزيهه من وجه ، ولذلك لم يبحث الصحابة عن معنى الألفاظ الموهمة للتشبيه ، علما منهم بأن اعتقادها لا يجر حرجا . وقال ابن برهان : لعله أراد أنه معذور في اجتهاده ، ولكن عبر عنه بالمصيب . والذي نقله الإمام عنهما الجواز في الأصول مطلقا بمعنى حط الإثم ، لا بمعنى المطابقة للحق في نفس الأمر ، إذ فيه الجمع بين النفي والإثبات ، وهو محال . وما ذكراه ليس بمحال عقلا ، لكنه محال شرعا ، للإجماع على تخليد الكفار في النار ، ولو كانوا غير آثمين لما ساغ ذلك . وأما فنقل عنه ذلك فيما يمكن فيه التأويل ، نحو القول بالقدر والإرجاء . ابن فورك
[ ص: 279 ] وقال في " الشفاء " : ذهب القاضي عياض العنبري إلى تصويب فيما كان عرضة للتأويل وحكى القاضي أقوال المجتهدين في أصول الدين ابن الباقلاني مثله عن ، وحكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا وغيرهم . وقال داود بن علي الأصفهاني نحو هذا القول . وتمامه في أن كثيرا من العامة والنساء والبله مقلدة الجاحظ النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله تعالى عليهم ، إذ لم يكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال ، وقد نحا الغزالي قريبا من هذا المنحى في كتاب " التفرقة بين الإسلام والزندقة " وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود ، وكل من فارق دين المسلمين ووقف في تكفيرهم أو شك ، لقيام النص والإجماع على كفرهم . فمن وقف فيه فقد كذب النص . انتهى .
وما نسبه للغزالي غلط عليه ، فقد صرح بفساد مذهب العنبري ، كما سبق عنه ، وهو بريء من هذه المقالة والذي أشار إليه في كتاب " التفرقة " هو قوله : إن من لم تبلغه الدعوة من نصارى الروم أو الترك أنهم معذورون ، وليس فيه تصويبهم ، والكلام إنما هو فيمن بلغته الدعوة وعاند . وإنما نبهت على هذا لئلا يغتر به الواقف عليه . وقال ابن دقيق العيد : ما نقل عن العنبري إن أرادا أن كل واحد من المجتهدين مصيب لا في نفس الأمر فهو باطل قطعا ، لأن الحق متعين في نفس الأمر في جهة واحدة ، والمتفاضلان لا يكونان حقين في نفس الأمر . وإن أريد به أن من بذل الوسع ولم يقصر في الأصوليات أنه يكون معذورا غير معاقب فهذا أقرب وجها ، لكونه نظريا ، ولأنه قد يعقد فيه أنه لو عوقب وكلف بعد استفراغه غاية الجهد لزم تكليفه لما لا يطاق . [ ص: 280 ] والجاحظ
وقال في " شرح الإلمام " : يمكن أن يجيب العنبري عما رد به عليه من تبييت المشتركين واغترارهم وعدم المعرفة بالفرق بين المعاند وغيره ، فله أن يقول : المكلف منه مع إمكان النظر بين معاند ومقصر ، وأنا أقول بهلاك كل واحد منهما . هذا إن كان ما قالا بناء على ما ذكرناه . وأما الذي حكي عنه من الإصابة في العقائد القطعية فباطل قطعا ، ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى . وأما : فلا شك في تأثيمه وتفسيقه وتضليله . واختلف في تكفيره . المخطئ في الأصول والمجسمة وللأشعري قولان . قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما : وأظهر مذهبيه ترك التكفير ، وهو اختيار القاضي في كتاب " إكفار المتأولين " : وقال ابن عبد السلام : رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة ، لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات . وقال : اخطفنا في عبارة والمشار إليه واحد . والخلاف فيه وجهان لأصحابنا كما قاله ابن القشيري ، وكان : لا يكفر ، قيل له : ألا تكفر من يكفرك ؟ فعاد إلى القول بالتكفير . وهذا مذهب الإمام أبو سهل الصعلوكي المعتزلة ، فهم يكفرون خصومهم ويكفر كل فريق منهم الآخر . قال الإمام : ومعظم الأصحاب على ترك التكفير . وقالوا : إنما نكفر من جهل وجود الرب ، أو علم وجوده ولكن فعل فعلا ، أو قال قولا ، أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر . ومن قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه في نفي البقاء أيضا ، كما يكفر في نفي العلم وغيره من المسائل المختلف فيها . قلت : وقد أطلق رحمه الله تكفير القائل بخلق القرآن ، لكن جمهور أصحابه تأولوه على كفران النعمة ، كما قاله الشافعي النووي وغيره . .