القسم الثاني
الموقف من التراث والحداثة [ ص: 99 ] [ ص: 100 ]
- مدخل:
- اتهامات متبادلة:
إذا جرى طرح المسألة وجدنا الاختلاف في الأسباب، فهناك من يتهم (العقل العربي)، ومن يتهم (التراث).. د. غليون: يرى أن (الحداثيين) يفسرون عدم النجاح في ميدان العلوم والمعارف، في الحاضر والماضي، وللثقافة بعمومها، كل ذلك يعود لخصائص في (العقل العربي) أو الشرقي أو البدوي، ليصـلوا إلى أن (شرط اكتساب العلم) لن يـكون حتى (نتخلى) عن تاريخنا وثقافتنا، إذ هي (أصل الفساد) ومنبع الخطـأ، لذا فالواجب (النهل) من العلم الغربي، لكن (الجماعـة) لا يـدركون أن هذا (النهل) مخالف للعلم، وللمنهج العلمي الصحيح [1] .
ويناقـش د. غـليـون كل ذلك مناقشـة علميـة مستفيضـة فـيـذكر جمـلـة أمور [2] :
1- عـدم وجـود مسـاهمـات علمية في الإنـتـاج العـلـمـي الحـديـث في جـامعاتنا، والاستثناء من ذلك العرب الباحثون في الغـرب، سـواء في الجامعات أو مراكز البحوث. [ ص: 101 ]
2- إن اتهام العقول العربية بتهم مثل اللاعقلانية أو السحرية أو البيانية، كل ذلك لا يفيد ولا يفسر.
3- اتهام العقلية العربية بالتعلق بالـتراث، فإن ثقـافة اليوم العـلمية لا تستمد مفاهيمها ولا طرقها ولا غاياتها من التعليم القرآني أو الفقهي مثلا بل الأغلبية (الدارسة للعلوم) قد تعلموا في مدارس حديثة، وفي كليات ومعاهد لا تختلف عن مثيلاتها في الغرب.
4- بل هناك نخب كبيرة تخرجت في جامعات الغرب الكبرى، ولا صلة لهم (بالتراث)، ولا بالثقافة العربية (الكلاسيكية)، أما معرفتهم للعلوم الدينية والفقهية - باستثناء قلة من المختصـين - فهي معدومة، وإن وجد شيء فهو انتماء (رمزي) في أحسن الأحوال.
5- كيف إذن يتصور أن هؤلاء يستقون عقليتهم اللاهوتية والسحرية من المعارف الإسلامية التقليدية؟؟
6- يطرح د. غليون تساؤلا ثم يجيب عنه فيقول: ما أسباب انعدام (الروح العلمية الإبداعية)؟ فيردها إلى (القطيعة) مع التراث، وكذلك كون الثقافة المحلية، هي مصدر غياب الحافز (للبحث والتجديد).
7- كذلك يمكن التسليم بأخذ العلوم كما هي، ولن يفيد هنا القول: بأن الثقافة (المحلية) قد (ضحت) بالتيار (العقلاني) لصـالح التيار الفقهي، إلا إذا آمنا بفكرة (الخطيئة الأصلية)، والتهرب من مواجهة الواقع الراهن. [ ص: 102 ]
إن اخـتراع (الأعداء) ليس صعبا، ورمي الفشل عليهم سهل ميسـور، لا يعجز عنه حاكم ولا محكوم، فهل يعجز عنه (الأخ الحداثي)؟
لقد ظل العقل العربي قرونا متقدما على سواه في العالم، وحين كانت مدارسنا في الأندلس والقاهرة ودمشق وبغداد يأمها كل طلبة العالم، ولا يعتبر الإنسان عالما حتى يتعلم اللغة العربية، يقـول "ديورانت" في قصة الحضارة: إن مكتبة الصاحب بن عباد الشخصية كانت تحوي من الـكتب أكثر من كل ما مكان في المكتبات العامة في أوروبا كلها.. ومراجعنا وكتبنا كانت تدرس في العالم إلى عهد قريب، في الطب والهندسة والجبر والرياضيات والفلك، فكيف يمكن تفسير ذلك؟ [ ص: 103 ]