المقدمة
تشهد ساحتنا الثقافية (اشتباكا) تزيد حدته بين التراث وأهله وبين وكلاء الغرب وعشاق العلمنة والحداثة.
ومنذ الحرب العالمية الأولى يتولى الحكم في كثير من البلاد العربية والإسلامية نفر يعشق الغرب، ويريد أن يدمجنا في الغرب وقيمه وثقافته وتقاليده مع قطع النظر عن قربها وبعدها عن الدين، ويناصب (التراث) عداء شديدا، ويريد حرقه والتخلص منه.. والإنسان يفهم إذا كان الغرب يريد ذلك، فهو يختزن ثقافة تذكره بأن المسلمين اشتبكوا معه في أكثر من (2700) معركة كبرى، واحتلوا أسبانيا وأجزاء كبيرة من شرق أوروبا، وإذا كنا نسينا ذلك التاريخ، فالغرب يتذكره، وهناك من يذكره به، كما هناك إسرائيل والمتعصبون من رجال الدين، وتجار الاستشراق، يذكرون بذلك ليل نهار، ولدينا (مجانين) يساهمون في إشعال النيران، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ويتجاهلون دررا في ثقافتنا كقول الحق: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) (الممتحنة:8-9). [ ص: 7 ]
وكقوله عليه الصلاة والسلام: ( الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ) [1] ، ويقول القاضي عياض: "لا يجوز قتل كلب ولا خنزير غير مؤذ، فكيف يجوز قتل مسلم؟؟"
ولقد وجدت مفكرا (د. رضوان زيادة) يتحدث عن تلقينا البائس فيقول: إن المنطقة العربية، غير قادرة على (الإسهام) ويقتصر دورها على (التلقي السلبي)، وغالبا ما يكون (سيئا بائسا)، فنحن نقرأ الإشكاليات في غير سياقها، كما حصل في مفاهيم العلمانية والاشتراكية والحداثة وما بعدها.
أما الباحث المفكر د. عبد الإله بلقزيز فيتحدث عن (النموذج العلماني)، الذي عرفته الدول العربية، فقد كانت زراعته في (حقل نابذ) فكان سببا وراء (تشوهات خطيرة) في الدولة، كما كان مصدرا لمشاكل وأزمات جعلت استقرار الوطن ووحدته في (امتحان عسير).
ويسجل ملاحظة دقيقة مفادها: أن البلاد العربية والإسلامية (الأكثر علمانية) ... هذه البلاد كلها قد أفرزت (أشد الحركات السياسية والدينية) معاداة للعلمانية، وأكثرها دفاعا عن فكرة إعادة التوحيد بين السياسي والديني.
لقد أخفقت العلمانية العربية (الكسيحة في تحقيق قضيتها، التي من أجلها تبلورت ولم يكن إخفاقها (الشاحب الباهت) يتجلى في تأثيرها في النظام الاجتماعي، وفي علاقة هذا بالنظام السياسي فحسب، وإنما كان مظهره الأوضح في أن العلمانية (استثارت) أوسع معارضة ومقاومة شعبية وثقافية ضدها، لدرجة [ ص: 8 ] أفقدت الدولة (توازنها) وأطاحت بهيبتها، وليس من مبرر للاعتقاد، بأن ضعف (الدولة العلمانية) في مواجهة (الاعتراض الإسلامي)، المتزايد عليها يمكن تداركه (بحل أمني) بحيث يفرض هيبة القانون والسلطة، فقد جربت ذلك، ولكن دون جدوى، فقد أصبح الاعتراض على (شرعية القانون نفسه)، ولن يكون من المنطق أن تحقق (شرعيتها سلما)، وهي المالكة لأجهزة التربية والتعليم والإعلام، فأي شرعية إذن تستحق أن تكون (الحرب الأهلية) طريقها؟
لقد ولدت العلمانية العربية في امتداد عملية (اغتصاب سياسي ثقافي) للتاريخ الخاص، وفي سياق عملية (إلحاق عنيف وقسري) للنظام السياسي وفق نموذج (مرجعي)، يقع خارج البيئة، وعليه فقد (حوصرت العلمانية) بخطيئة الولادة، وليس من الحكمة (انتظار شرعيتها)، فذلك خارج مدار العقل ومطالب الأخلاق [2] .
هذا الهجوم الصاعق يأتي من حداثي -غير متهم - فما رأي رفاق الدرب؟
د. حسن حنفي يتحدث عن الإبداع فيقول: لا إبداع ذاتي دون تحرر من هيمنة الآخر، ولا إبداع أصيل دون عودة إلى (الذات الخاصة) بعد القضاء على اغترابها الآخر، وتتجاوز هذه (الأصالة) مستوى الفنون الشعبية والمظاهر الخارجية، إلى مستوى القوالب الذهنية والتصورات العامة [3] .
ونبقى مع د. حسن حيث يسجل التدافع بين ثقافتين فيقول: لقد أصبحت الثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة ظاهرة تدعو للانتباه، فالعالم هو من [ ص: 9 ] يعرف (التراث الغربي)، والعـلـم هـو المـعـلـومـات الـوافـدة عـليـنـا مـن الغرب، ولا يستطيع إنسان أن يكون (مجددا) إلا إذا تعلم الوسائل الغربية، لقد صار العلم نقلا، وصار العالم مترجما، كما صار المفكر عارضا لبضاعة الغير، وقد وجدت طبقة (هشة) من الأفكار والنظريات (طائرة) فوق الواقع، لا هي مستمدة من (الموروث القديم) ولا هي نابعة من الواقع أو تنظير له.
تتضارب المعلومات وتتعارض النظريات، فينفي بعضها بعضا، فيختار الباحث أمام هذا التعدد في الأفكار والمذاهب المنتشرة فوق الواقع (المجتث) من الجذور والمنتزع من الواقع، فيحتار كيف يختار، وما هي مقاييس الاختيار، خصوصا وقد زاد الكم، بدرجة رهيبة، ومع ذلك ما زالت الفكرة الأساسية غائبة [4] .
إن الثقافة الغربية تصارع، وقد كسبت (محاربين مرتزقة) هم أكثر حماسا لثقافة الغرب، ذلك أن (الدعي) يظهر الحماس والتعصب بحيث يتجاوز الغربي في حماسه وتطلعاته!
عبد المجيد بوقربة، له كتاب عنوانه: "الحداثة والتراث" صدر عن دار الطليعة، يقول في المقدمة [5] : لو ألقينا نظرة على نوع القضايا، التي تعج بها الساحة الثقافية العربية - في الوقت الراهن- فإن أول انطباع لدينا ينصب على الصيغة (الازدواجية)، التي تشد هذه القضايا، فلا يخلو منها مجال من مجالات البحث العلمي والثقافي عندنا، فعلى كافة المستويات الفكرية والأدبية والألسنية هناك [ ص: 10 ] (تمزق وثنائية) تلازم أية مسألة من المسائل، التي تزدحم بها هذه المستويات، حتى يخيل للناظر أن الأمر يتعلق باختلاف الأطر المرجعية، تلك التي ينظر من خلالها المثقف العربي إلى القضايا والإشكالات الفكرية، غير أن الأمر ليس كذلك دائما، فالكثير من دعاة الحداثة، من يصدر عن رؤية (رجعية) في حين يبدو من يصنف في (خانة الماضي) أكثر امتلاكا لناصية (الحداثة)، فعلام يدل هذا إذن؟
إنه يدل على أن الثقافة العربية في حاجة إلى إعادة تأسيس، بحيث يجعل قضاياها تلتئم ضمن (رؤية نقدية) تنزع عنها (طابعها الإشكالي)، الطابع الذي لا يسمح بالتفكير في أية قضية منها إلا من خلال منظومتين مرجعيتين مختلفتين.. إن الوعي بأبعاد هذه المسألة سيجعل من (دعوة الحداثة)، التي تنشدها المجتمعات العربية، عملية لتأكيد حضور واع في الحضارة المعاصرة، وليست دعوة (للاستلاب أو الانكفاء على الذات)، نحن لا نرى بأسا في ذلك، فقد قام أجدادنا بتأسيس علومهم عندما اصطدموا بالنموذج اليوناني، فأعادوا تقنين (اللغة والشريعة والأدب ومختلف المعارف)، التي بحوزتهم، وفق الشروط، التي تحفظ لهم كيانهم وهويتهم، وعلينا أن نقوم بالعمل نفسه، إذا أردنا أن نحفظ ذاتنا من زحف النموذج الحضاري الغربي، ولكن مع الفارق، الذي يراعي (خصوصية) الظرف، الذي يفصلنا عنهم، إننا نعيش اليوم مرحلة تراجع حضاري، بخلاف ما كان عليه أجدادنا من مد وانطلاق.
لنتعرف على كيفية ممارسة أجدادنا بناء معارفهم، وهل بإمكاننا أن نستعيد، مرة ثانية تأسيس معارفنا. [ ص: 11 ]
من المعلوم أن الترجمة للمعارف اليونانية ابتدأت على أيدي غير المسلمين، من النصارى واليهود، وفي مرحلة لاحقة وجد المسلمون مخالفة لما يؤمنون به خصوصا في الفلسفة والمنطق، أما الآداب فلم ينقل منها شيء؛ لأنها وثنية، تؤمن بتعدد الآلهة وتقاتلها، لذا جاء الرد الإسلامي من (علم الكلام)، ويلاحظ أن الفيلسوف الفارابي، ومثله ابن رشد، حاول الجمع بين الفلسفة والعلوم الإسلامية، فكتب الفارابي كتابه: (الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون وأرسطو)، وكتب ابن رشد: (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، والهدف (تصالحي) بين الإسلام والفلسفة اليونانية، على حين قام الغزالي بدراسة الفلسفة فكتب: (تهافت الفلاسفة)، أما العلمانيون عندنا فهم عشاق للغرب، يعادون التراث، ويعتقدون أنه السبب في تأخرنا، ويتناسون أن الفضل في تقدمنا كان للتراث الإسلامي، وقد خرجنا من الجزيرة (نحمل الإسلام وحضارته) وليس لدينا إلا عقيدتنا وجهودنا، ولسنا على استـعداد (لحرق هذا التراث أو تجاهله) ولا قبول كل ما لدى الغرب من تصور ديني فاسد وخرافي، لكننا لا نرفض علوم الغرب ومعارفهم، ولن نكون في هذا أكثر مما فعل الغرب، فقد رفض الإسلام عقيدة وشريعة، وقبل الحضارة الإسلامية وخصوصا (العلم التجريبي)، لقد فتحنا كافة مدارسنا في الأندلس ولكل طالب علم، مع قطع النظر لما يعتقد، وهذه شهادة للمفكر والباحث "ديورنت"، يقول فيها: كان المسيحيون يقدمون بـكامـل حريـاتـهم، وهـم آمنون، من جميـع أوروبا، قاصـدين قرطبـتة أو طليطـلـة أو أشبيليا، طلبا للعلم أو زائرين، وقد شكا أحد المسيحيين من تسامح المسلمين فقال: إن إخواني يعجبون بقصائد العرب وقصصهم وهم لا يدرسون مؤلفات [ ص: 12 ] (الفقهاء والفلاسفة) ليردوا عليها ويكذبوها، بل يستعملون الأساليب العربية الأنيقة، واحسرتاه، إن شبابنا، الذين اشتهروا بمواهبهم العقلية، لا يعرفون علما ولا أدبا ولا لغة غير علوم العرب وآدابهم ولغتهم، فهم يقبلون في نهم على دراسة كتب العرب، ويملؤون بها مكتباتهم، ينفقون في سبيل جمعها الأموال الطائلة، وأينما حلوا فهم يقضون بمدح علوم العرب [6] .
ولأن بقاء الحال من المحال، والدنيا دول، فلا عجب أن يتخلف المتقدم ويتقدم المتخلف، وكما رفض الغرب الإسلام، عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة، فمن حقنا وحـق غـيرنا أن يرفـض ويقـبـل من الغرب وثقـافته وحضـارته... إن بعض أبنائنا يعيش بجسمه معنا، أما عقله وقلبه فيطوف حول أصنام في لندن وواشنطن وباريس، وهو يدعونا ليل نهار لنشاركه الطواف، فهل من الواجب علينا أن نجيب ونستجيب؟ وهل عرف العالم ثقافة واحدة، وحضارة واحدة، تحكمه وتتحكم فيه، رضي الناس أم سخطوا، عشقوا أم كرهوا، رغبوا أم نفروا؟
وأختـم هـذه المقـدمـة، الـتي طـالـت، بنـقل نص جيـد للمرحـومـة د. منى أبو الفضل، جاء تحت عنوان: (إطلالة منهاجية على مصادر التراث السياسي)، تحدثت عن (التراث) وتعدد الأسئلة [7] ، فقالت: يسألونك عن التراث، قل هو الثمين، لا تدرك قيمته إلا بفقده وتفقده، وهو الزاد، الذي لا تحصل (الحـداثة) إلا به، ويسألونك عن الحداثة، قل هي الفتنة، التي لا يرد بأسها، ولا ترشد إلى هداها، بغير التراث، وهكذا يدور السجال، وتحتد النبرات، في لحمة الخطاب [ ص: 13 ] المعـاصـر، ليفـصـح عن بنـيـة من متـلازمـات، ونـسـيـج من المتقـابـلات، هي في الحقيقة مفتاح لخارطة المتغيرات الفكرية والاجتماعية، التي تشكل صبغة المعاصرة، في منطقتنا الحضارية اليوم، وليسـت الخطـورة بتـعـدد الاجتـهـادات في مجال التراث، أو اختلاف الآراء والمداخل، فكل ذلك ليكون زادا لإثراء التراث، وأداة في بناء صرح الفكر الحضاري الجديد للأمة، وشاهدا على استعادة فاعليتها، وعاملا لصالح نهضتها وبنيتها الفكرية، لكن الخطورة في بنية وواقع ومنطلقات (خطاب التراث)، وهذه مشكلة ترتبط أساسا بواقع (الصراع الحضاري المعاصر)، وبموقع أمة: الكتاب "والشهود الحضاري".
لقد جمعت الكثير من النصوص، والمعركة مفروضة علينا، ومن يطلع على ما يصدر عن بعض المؤسسات البحثية الغربية سيجد تحيات لأشخاص ومؤسسات يعتبرون (حلفاء الغرب) بل يجد (تلقينا) لشبهات تتعلق بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد جعلت البحث في قسمين: واحد للحوار حول التراث، والثاني لدراسة الموقف من التراث والحداثة.
وأعتقد أن المعركة حامية الوطيس وداخلة في قول الحق: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج:40)، فالتدافع والتصارع عمل إنساني، ولن ينقطع حتى تقوم الساعة.
والله الموفق. [ ص: 14 ]