تعميم التعليم الشرعي
دائرة الحاجة للتعليم الشرعي دائرة واسعة، وليست قاصرة على المختصين به، ويمكن أن نقسم من يعنيهم تعلم العلم الشرعي إلى دوائر ثلاث:
الدائرة الأولى: الدائرة العامة، وتستوعب كافة المسلمين؛ فكل مسلم يحتاج إلى العلم الشرعي أيا كان مستوى تعليمه، أو جنسه، أو تخصصه، وهو قدر مشترك لجميع الناس.
الدائرة الثانية: وهي ما يحتاجه الإنسان باعتبار خاص لا يشاركه فيه الآخرون، كمجال عمله؛ فمن يعمل في ميدان التجارة يحتاج من أحكام المعاملات ما لا يحتاجه غيره، ومن يعمل في المجوهرات ليس كمن يعمل في نشاط آخر، وهكذا من يعمل في المصارف وأسواق المال، وكذلك الطبيب، ورجل الأمن، ومن تقتضي طبيعة مهنته كثرة السفر.
وأصحـاب هاتين الدائرتين لهـم احتياجات محدودة، فلا يحتاجون إلى كثير من مسائل العلم وتفصيلاته، قال ابن القيم، رحمه الله: "الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصـه من الأحـكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعـوه الحاجـة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصلحة الخلق، [ ص: 110 ] ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، قائمين بمصالحهم ومعاشهم، وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم غبارهم" (إعلام الموقعين، 2 / 182 ).
الدائرة الثالثة: دائرة المختصين بالعلم الشرعي، الذين يسعون للاستزادة منه لأنفسهم، أو يعدون للإسهام في تعليمه ونشره، وتولي الوظائف الشرعية.
ومن يتأمل في الساحة العلمية يرى تركز الجهد في الدائرة الثالثة؛ فالتعليم الشرعي النظامي، أو دروس المساجد، إنما تستهدف المختصين، مخاطبة إياهم باللغة العلمية المتخصصة ومعتنية بالاحتياجات الملائمة لهم.
ورغم تأكيد أهل العلم وخطباء المساجد والدعاة على عامة الناس بضرورة التعلم وطلب العلم؛ إلا أن هناك أسئلة مهمة تفرض نفسها:
- ما البرامج المتاحة لأمثال هؤلاء؟
- ما المناهج المناسبة لهم؟
- هل المتون والكتب، التي يدرسها المتخصصون تلائم هؤلاء؟
- هل التفصيلات والفروع وأدوات الاستدلال التي تناقش بها المسائل العلمية تعني العامة؟ أو من هم في حكم العامة من المثقفين غير المختصين بالعلوم الشرعية؟ [ ص: 111 ]
إن من أهم مقتضيات نشر العلم الشرعي الاعتناء بتعميمه وخطاب كافة الفئات المحتاجة إليه، ومما يشمله ذلك ما يلي:
- تحديد احتياجات كل فئة من هذه الفئات تحديدا واضحا وإجرائيا، بصورة تلائم جعله مدخلا وأساسا للتخطيط للبرامج الموجهة لهم؛ فاحتياجات طلبة العلم، الذين يراد توجيههم للتخصص فيه مختلفة عن احتياجات غيرهم.
- تخطيط برامج علمية متكاملة ومتنوعة تلائم هذه الفئات.
- إعداد مراجع وكتب وأدوات تعليمية تلائم هذه الفئات في أهدافها ولغتها ومستوى التفصيل فيها، ولن يتحقق المراد من ذلك بصورة مناسبة بمجـرد الاكتفاء بكتاب يحـوي لغة مبسطة فحسب، والكتب التراثية قد لا تكون هي الخيار المناسب لأمثال هؤلاء.
- تهيئة ظروف ومجالات وأوقات مناسبة للتعليم؛ فكثير منهم لا تلائمه ظـروفه وأوقاته لحضـور دروس المسـاجد وحلقها، ولو حضر فكثير منها لا يلبي احتياجه، وليس من المناسب مطالبة كل الناس بالتفرغ لطلب العلم وجعله أولوية، أو مخاطبتهم كطلاب العلم بلغة: "إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك".
إنك حين تثير هذا الأمر يحتج عليك بعض المهتمين بالتعليم الشرعي بسرد قائمة من الكتب أعدت بلغة مبسطة، وهذا له قدر من الوجاهة، لكن المطلوب أوسع من ذلك، فهو يبدأ من تحديد الاحتياج بصورة علمية بعيدا [ ص: 112 ] عن المتاح من المراجع، ثم التخطيط للبرامج.. إلخ وحين نصل إلى مرحلة المراجع والكتب فليس شرطا أن يعد كل شيء من الصفر، فيمكن الاختيار مما هو موجود، لكن وفق معيارية وأهداف واضحة، وقد يكفي التعامل مع ما هـو موجود على ما هـو عليه، وقد يحتـاج إلى استكمال أو تطوير أو مراجعة.
إن المهتمـين بالتعليـم الشـرعي بحـاجة إلى أن يستحضروا وصية عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، التي قال فيها: "ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا" (صحيح البخاري، 1 / 31 ).
وتحقيق هذه الوصية وتعميم التعليم الشرعي لن يتحقق بمجرد مزيد من النشاط والجهد البدني، فلا بد من تفكير وإعداد ومراجعة لأساليب تقديم العلم الشرعي وتعميمه.
ولا يزال الجهد الموجه للعـامة يركز على الوعظ والمحاضرات العامة، أو الفتوى في البرامج العلمية -وهذا جهد مطلوب- لكنه لا يغني عن برامج تعليمية منهجية، تلائم احتياجاتهم وقدراتهم. [ ص: 113 ]