خاتمة
وفي ختام هذه الدراسة، وعلى الرغم من الإشكاليات والتحديات، التي تمت الإشارة إليها والتي تواجه تطبيق "المنظور الحضاري الإسلامي" تجاه المنظمات الدولية، لا بد من التأكيد أن العلاقات الدولية أصبحت ضرورة إنسانية، وبالتالي يتعين فهم واستيعاب الواقع الدولي ومعادلاته وتعقيداته، حيث إنه لا يستطيع أي عضو في المجتمع الدولي المعاصر أن يعيش معزولا عن تفاعلاته وتأثيراته.
وفي ضوء هذا السياق، فإن ذلك يؤكد أن ظاهرة المنظمات الدولية المعاصرة والتي تشكل أحد عناصر العلاقات الدولية المعاصرة أصبحت ظاهرة تضطلع بدور مؤثر، سلبا أو إيجابا، في الحياة السياسية للمجتمع الدولي بكافة أعضائه، بما فيها الدول العربية والإسلامية، وبالتالي أصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهل دورها وتأثيرها على المجتمع العربي والإسلامي، وتطور ذلك الدور بشكل كبير في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وبداية القرن الحادي والعشرين.
من ناحية أخرى، فإن هذه الظاهرة معقدة في تفاعلاتها وتأثيراتها وأدوارها؛ نتيجة عوامل عدة، منها: تعدد الفاعلين أو الأعضاء في [ ص: 122 ] المنظمات الدولية، وتعدد أشكال وطبيعة المنظمات الدولية ومهامها، وكذلك أهمية وطبيعة القضايا التي تقوم بمعالجتها أو التدخل فيها.
إن تطـور دور وتأثير المنظمات الدوليـة وصل إلى حد أنه أصبح لها القدرة على تجاوز موضوع "السيادة الوطنية" للدول، أو "التدخل" على حساب مفهوم وحدود "السيادة" للدول بذرائع ودوافع شتى، بعضها مبرر وبعضها فيه نوع من التعدي.
من جانب آخر، إن مسار هذه المنظمات الدولية أصبح يخضع في كثير من الأحيان لنفوذ ومصالح الكبار، بغض النظر عن حقوق الآخرين؛ وبالتالي همشت في كثير من ممارساتها الضوابط القيمية، وغاب عنها في أحيان كثيرة قيم "العدالة" و"المساواة" و"الرسالة الحضارية العالمية".
إن ضرورة تعزيز تعددية النظام الدولي، ومنع ظاهرة هيمنة القطب أو الحلف الواحد على المجتمع الدولي، وإن المشاركة في المنظمات الدولية المعاصرة هو جزء من عملية التدافع "ضد الهيمنة الأحادية"؛ وكذلك هو جزء من الدفاع عن مصالح المجموع أو المجتمع الإنساني العام، وكذلك الدفاع أو المحافظة على المنظومة والضوابط القيمية، خاصة المتعلقة بالعدالة والمساواة والرحمة.
وفي ضوء ما سبق، سواء من حيث تأثير هذه المنظمات على حياة المجتمع العربي الإسلامي من جهة، أو الانحراف في بعض الأحيان في مسيرة [ ص: 123 ] أو ممارسات هذه المنظمات على حساب العدالة والمساواة ودورها الحضاري الإنساني العالمي من جهة ثانية، وفي المقابل السعي لتأكيد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وقدرته على التوجيه الإيجابي للظواهر والمستجدات السياسية المعاصرة؛ كل ذلك يجعل من بناء وصياغة "منظور حضاري إسلامي" تجاه هذه المنظمات الدولية ضرورة لحماية مصالح الأمة العربية والإسلامية من جهة، وإعمالا أو تفعيلا لعالمية دور هذه الأمة في العمران والصالح الإنساني العام وكذلك "عولمة الرحمة"، كما جاء في قوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، من جهة أخرى.
وبمعنى آخر، المشـاركة البناءة من خلال قاعدة "الفعل والمبادرة" أو التأثير وبناء المجتمع الدولي المنشود وتحقيق سنة "التدافع" وفق السنن الربانية في الحياة.
ولعل هذه الدراسة تبرز هذه القدرة وعناصرها، من خلال محاولتها المساهمة في "التقعيد" و"التأصيل" الإسلامي تجاه المنظمات الدولية المعاصرة والتعامل معها. [ ص: 124 ]