أهمية وضرورة المنظور الحضاري الإسلامي
تجاه المنظمات الدولية المعاصرة
يرى عبد الحميد أبو سليمان "أن النظرية الإسلامية والفلسفة التي تقوم عليها العلاقات بين الدول تركز على فكرة السلام. والرؤية الإسلامية للسلام تستند بشكل قطعي إلى وحدة الأصل الإنسـاني والمصالح المشتركة أو المصير المشترك، وهي تشكل الأسس الثابتة والوحيدة لفهم طبيعة الإنسان وطبيعة العلاقات الشخصية البيئية والتفاعلات الدائرة بين الجماعات".
ومن المهم أن ندرك أن الإسلام يقرر أن طبيعة الإنسان ومصالحه وعلاقاته في تفاعلها وتلاحمها إنما تماثل الحلقات الدائرية المتداخلة، تبدأ بالفرد وتنتهي بالإنسانية.
وفي المقابل، فإن الفلسفـات والأيدلوجيـات العالمية الأخرى تركز في جهودها نحو السلام على كيفية إدارة المنازعات والحروب، ومحاولة الحد من أضرارها.
وهذه الفلسفات الغربية إنما تقوم على أساس مفهوم القومية وصراع الجماعات والطبقات، وبذلك تؤكد على العامل السلبي في العلاقات [ ص: 36 ] الإنسانية في اختلاف المفـاهيم والمصالح والتوجهـات المتعارضة، وعادة ما يؤدي هذا الموقف التنازعي إلى وقوع الحروب، وإنزال الأضرار والدمار بالحياة والأحياء.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا بد لنا أن لا نتجاهل أن الطريق الطويل الذي يسلكه المجتمع العالمي على خطى الوظيفية العالمية ونمط المنظمات الدولية يعتبر تقدما عظيما وملموسا، ويجب الإبقـاء عليه، كما يمكن تطويره وتحسينه من خلال إطار فلسفي بناء، وفي ظل مبادئ الوفاق والسلام التي يكفلها الإسلام [1] .
من جانب آخر، وبالرغم من أن ارتكاز الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية على السلام، كأصل وغاية في العلاقات الدولية، إلا أن المنظور الإسلامي لم يأخذ مكانه في الواقع العملي للعلاقات الدولية، خاصة على صعيد تسوية الصراعات والنـزاعات الدولية، وهو ما يدفع نحو بناء منظومة إسلامية أو إطار فكري مكمل في مجال إدارة الصراعات وفض المنازعات، وهو مجال آخر للبحث والدراسة.
من ناحية أخرى، فإن الواقع الدولي والعلاقات الدولية المعاصرة أصبحت من التداخل والتفاعل بشكل أصبح لا بد لأي وحدة من [ ص: 37 ] وحداته أو مكوناته - كالدولة القطرية أو المنظمات الدولية والإقليمية، وغيرها - أن تتفاعل في أي مجتمع إنساني بشكل يؤثر فيه ويتأثر به، وذلك حسب موارد القوة وطبيعة إدارتها.
وتعتبر المجتمعات العربية والإسلامية من أكثر المجتمعات تأثرا بطبيعة العلاقات والسياسات الدولية المعاصرة؛ بحكم الأهمية الاستراتيجية، وحجم الاهتمام الدولي بالمنطقة.
وقد أصبحت المنظمات الدولية غير العربية أو الإسلامية فاعلا مهما في التأثير، سلبا أو إيجابا، على الواقع العربي والإسلامي، خاصة في ضوء معطيات الضعف الذي نعيشه، ذلك أن المنظمات الدولية ظاهرة معاصرة، نشأت منذ منتصف القرن العشرين، في عهد الضعف العربي والإسلامي، والواقع السياسي المتدهور للمجتمعات العربية الإسلامية، واستنـزاف الأمة العربية والإسلامية في قضايا الاستقلال القطري، وقضية الصراع العربي - الإسرائيلي، والخلافات والتجزئة السياسية بين دول هذه الأمـة، وتغييب الرؤية أو الدور السياسي للمنظور الإسلامي الحضاري عن قضايا العصر.
وفي المقابل، فإن ظاهرة المنظمات الدولية السياسية أصبحت تلعب دورا أساسيا في المجتمع الدولي، ولا يمكن لأي مشروع حضاري تجاهل أهميتها ودورها السياسي في مختلف مناحي الحياة. [ ص: 38 ]
وفي ضوء ما سبق فإنه لا بد من البحث عن ماهية الرؤية الإسلامية الحضارية تجاه المنظمات الدولية وكيفية التعامل معها، خاصة أن طبيعة الإسلام تدعو إلى الاجتهاد في قضايا ومستجدات العصر وظواهرها، وعدم الوقوف أو الجمود الفكري والسياسي أو السلبية أمام هذه الظواهر الإنسانية، التي تؤثر في حياة المجتمع العربي والإسلامي، وضرورة انتقال المجتمع العربي والإسلامي إلى ظاهرة الفعل والتأثير والفاعلية تجاه هذه الظواهر، ولكن ضمن رؤية فكرية حضارية واضحة.
كما أننا مطالبون بتقديم البديل السياسي الدولي الحضاري الإسلامي العالمي، الذي يستطيع أن يتعامل مع مستجدات العصر وظواهره الدولية المعاصرة؛ ذلك أن الإسلام يدعو أتباعه إلى إحداث نظام عالمي جديد، وهذا يعني تحقيق "أداء واجب الطاعة والتسليم لله تعالى، الذي أمر الناس جميعا بالدخول في دين الإسلام، وتنظيم شؤونهم وتدبير أمور حياتهم في عدل موثوق وإخاء مسؤول.... ولأن ذلك هو الطريق الوحيد لإنقاذ البشرية من المنافسة المتواصلة والمعاناة العقيمة والآلام الخاوية بالحاضر، ومن الدمار الوشيك في المستقبل... ولذلك، فإن التزام المسلمين بنظام عالمي، يسوده السلام والعدالة والإخاء، هو التزام ديني ومنفعي معا" [2] . [ ص: 39 ]
ومما يؤكد ضرورة ما سبق أن طبيعة عالمية الإسـلام تدعو إلى الاتصال بالحضارات والأمم الأخرى، فما دامت الأمة والدولة الإسلامية تحمل "رسالة حضارية إلى أمم أخرى غير مسلمة يفرض عليها الشرع الاتصال مع هذه الأمم، وعملية الاتصال هي في حقيقتها تفـاعل حيوي، أي تتفاعل مع هذه الأمم تأثيرا وتأثرا، والتفاعل يقتضي التجديد المستمر والتنويع الدائم" [3] .
إن هذه الطبيعة العالمية للإسلام، وتوجهه نحو تحقيق الاتصال الحضـاري مع (الآخر)، يعنـي تجاوز مجموعـة من المثالب في هذا المجال، أهمها [4] :
1- مثلب الجمود والتوقف (وهو ما يعني غياب الحـركة والتفاعل مع الآخر).
2- مثلب العيش خارج نطاق الزمن الحاضر (وهو يعني التخلف عن لحظتها وواقعها المعاش ومتابعة التطورات والمستجدات والتفاعل معها).
3- مثلب الدفاع عن الراهن (وهو يعني رضا بالأمر الواقع، وتبريرا لعجز الأمة أن يكون لها موقع في النشاط الإنساني العام). [ ص: 40 ]
4- مثلب افتقاد وعي الموقـف المحيط بالحركة (وهو ما يرتبط بضرورة التجديد في الفكر والحركة والمؤسسات والرؤى والسياسات، والتجديد في التعامل الخارجي، والتجديد في إدراك مقاصـد هذا التعامل، وفي ترتيب أولويات القضـايا والواجب؛ حتى لا تعيش هذه الأمة خارج دائرة العصر).
إن دراسة المنظمات الدولية، من خلال رؤية إسلامية، هو جزء من دفع أو مغالبة هذه المثالب، والانتقال إلى الحركة والتواصل الحضاري، وكذلك جزء من الفعالية الكونية للإسلام، وبشكل خاص في المحيط السياسي الدولي.
وقبل أن نخوض في بلورة الرؤية الإسلامية تجاه التعامل مع المنظمات الدولية، لا بد أن نؤكد على:
1- ضرورة التفريق بين الثوابت الإسلامية (خاصة في الإطار العقائدي) والمتغيرات التي تخضع "لآلية الاجتهاد الإسلامي في مستجدات العصر (خاصة في إطار المعاملات)، وبشكل خاص فيما يعرف بـ"السياسة" عموما، والسياسة الشرعية خصوصا".
2- وكذلك "لا ينبغي أن نجعل أكـبر همنا مقاومة كل جديد، وإن كان نافعا، ولا مطـاردة كل غريب، وإن كان صالحا، وإنما يجب [ ص: 41 ] أن نفرق بين ما يحسـن اقتباسـه وما لا يحـسن، وما يجب مقاومته وما لا يجب، وأن نميز بين ما يلزم فيه الثبات والتشدد، وما تقبل فيه المرونة والتطور" [5] .
3- وكذلك "إن تطبيق الشريعة وتنـزيلها على الواقع منوط بالاستطاعة والإمكان" [6] .
4- وأخيرا، (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)، كما تنص على ذلك القاعدة الفقهية، وهو ما يؤكده المحققون من العلماء، فـ"كثير من الأحكام تختلف باختـلاف الزمان، يتغـير عرف أهـله لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان أولا للزم المشقة والضرر بالناس، وخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد"
[7] . [ ص: 42 ]
وضابط الأحـكام التي تتغير بتغير الزمان يشير إليها أحد العلماء بقوله: "اتفقت كلمة المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخـلاق الناس هي الأحـكام الاجتهـادية التي بنيت على القياس ودواعي المصلحـة، فإذا أصبحت لا تتـلاءم وأوضـاع الزمان ومصلحة الناس وجب تغيـيرها، وإلا كانت عبثا وضـررا، والشريعـة منـزهة عن ذلك" [8] .
ولا شـك أن ظاهرة المنظمات الدولية، وكيفية التعامل معها، تصب في دائرة مستجدات العصر، وترتبط بمصالح المسلمين. [ ص: 43 ]