الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل استمراري بالدراسة يُعتبر تقصيرًا في حق نفسي؟

السؤال

كيف أعلم أنني قد قمت بما علي أمام الله؟ دائمًا أرى أنه كان يجدر بي فعل كذا، وخاصة أن في أي خطوة أفعلها يكون هناك اختيارات عديدة، وأنا أمضي بالعمل على بعضها، فأحيانًا أعلم بعض الأمور، ولكن قد أهمل جزءًا أو أنسى، إذا لم أصل للنتيجة المطلوبة ألوم نفسي أنني قصرت، خاصة إذا كان السبب معلومًا، ولكني أهملت أو نسيت.

فمثلًا في الدراسة، أنا أعلم أنه مطلوب مني أن أدرس كل يوم عددًا من المحاضرات، ولكن عندما أجلس مع أهلي أأنس بهم، فأدرس عددًا أقل من المحاضرات (أنا أدرس، لكن ليس العدد المطلوب).

عندما تأتي الامتحانات، ألوم نفسي أنني كنت أستطيع المذاكرة، واستغلال الوقت بشكل أفضل، هذا لا يمنعني من محاولة التعويض لتدارك ما قصرت فيه، ولكني أعاني من مسألة التأنيب هذه، هذا سؤال.

سؤال آخر مرتبط بمسألة القدر: كيف أعرف أن الحدث الفلاني قدر من الله؟ وبالتالي يجب علي التسليم؟ مثلًا الزواج، أنا أدرس الطب، ووقتي ضيق لأعمل بوظيفة يومية بأجر مقبول؛ لأن العمل المتقطع يكون بأجور ضعيفة لا تكفي لمصاريفي الشخصية، فهل من القدر أن الله حدد أني لا أتزوج الآن، وعليّ التسليم والمضي في الدراسة بتسليم؟ أم أنه يمكن أن أتضايق من تأخر الزواج، فأترك الكلية مثلًا؟ ترك الكلية خيار غير منطقي، ولكن إذا كنت قد أذنبت فإن الله سيحاسبني لم لم تفعل كذا؟ والطب ليس فرضًا ولكن حفظ النفس فرض علي.

هل استمراري بالدراسة يُعتبر تقصيرًا؟ أم أنه من القدر؟ لأن فكرة وجود خيار أن علي ترك الدراسة تجعلني غير مرتاح، شعور بعدم الاستقرار، وكما تعلمون أن الطب لكي أحصل على دخل كافٍ فيحتاج إلى 10 سنوات على الأقل من دخول الجامعة، وبالتالي فكرة ترك الدراسة دائمًا لا أراها إلا إهدار وقت؛ لأن أمامي 5 سنوات بإذن الله.

أنا أحتاج أن أفهم ما هو القدر؟ وما هو اختياري؟ ومتى التسليم؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أحمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أخي الفاضل- في استشارات إسلام ويب.

أخي الكريم، سؤالك يعكس حرصك على رضا الله وسعيك المستمر لفهم دورك في هذه الحياة، وهذا أمر عظيم يدل على إيمان حي وقلب واعٍ، لكن يبدو أنك تُحمّل نفسك ما لا تطيق، مما يسبب لك قلقًا وتأنيبًا مستمرًا للنفس، لذلك سأوضح لك المسألة من عدة جوانب، وأسأل الله أن يجعل فيها النفع لك:

أولاً: الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها: فالله سبحانه وتعالى جعل الشريعة مبنية على اليُسر، وليس على المشقة، قال تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، فما دمت قد اجتهدت بما تستطيع، فإنك قد قمت بما عليك أمام الله، ولا يُطلب منك تحقيق الكمال، بل بذل الجهد ضمن حدود طاقتك، قال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري، هذا الحديث يوضح أن المطلوب هو السعي بما نقدر عليه، ويصل إليه جهدنا، وليس تحقيق النتائج المثالية دائمًا، وهناك فرق بين السعي للنتائج والهدف والغاية، وبين التحقيق الفعلي للنتائج، فنحن مأمورون بالسعي، والعمل، والاجتهاد، والتخطيط، وبذل الأسباب قدر الاستطاعة لتحقيق الأهداف، أما تحقيق الهدف والنتيجة، فعند الله وبتوفيقه ومعونته حسب علمه وتقديره.

ثانيًا: الفرق بين القدر والاختيار: فالقدر هو ما يقع خارج إرادتك ولا تملك تغييره، فهو تقدير الله تعالى الأشياء، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته لها ووقوعها على حسب ما قدرها -جلّ وعلا-، مثل توقيت الزواج، أو الظروف المختلفة المحيطة بك.

أما الاختيار فهو القرارات التي تستطيع التحكم في أسباب حدوثها، مثل تنظيم وقتك للدراسة، أو العمل، وكل ذلك بتقدير الله وعلمه أولاً وآخر، لذلك يقول النبي ﷺ :(احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم. هذا الحديث يعلمنا التوازن بين أن نسعى بما نستطيع، ثم نُسلم النتائج لله، والسعي يستلزم منك بذل الوسع والطاقة، وتحري النجاح في تحقيق الأهداف من تخطيط، وبذل كل سبب، أما مجرد السعي بدون أسباب، أو الاكتفاء بالتمني دون عمل فقد سماه النبي هنا (العجز)؛ لذلك الزواج، إذا لم تتهيأ ظروفه (الأسباب) الآن، فهذا جزء من القدر، لكن عليك الاستمرار في الدراسة والسعي لتحسين حياتك؛ لتحقيق تلك الأسباب، وهذا هو الاختيار.

ثالثًا: اجتهد ولا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها: أنت تبذل جهدًا في الدراسة والعمل والعبادة، لكنك تشعر بالذنب إذا لم تحقق الكمال، هذا التفكير قد يكون مرهقًا للنفس، قال النبي ﷺ (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)، رواه البخاري، فالمطلوب هو الاعتدال والسداد، أي بذل الجهد بما تستطيع دون إفراط أو تفريط، والدين قائم على التوازن والاعتدال دون تغليب شيء على شيء.

رابعًا: الأولويات بين الدراسة والزواج: فالدراسة وسيلة لتحقيق أهداف كبيرة، منها حفظ النفس، وتأمين المستقبل، لذلك إكمال دراستك لتحقيق حياة كريمة هو جزء من تحقيق مقصد "حفظ النفس"، وهو من مقاصد الشريعة، أما الزواج، فهو أمر مهم، لكنه يأتي بقدر الله، وفي وقته المناسب، فعليك أن تتوكل على الله في هذا الأمر، وتثق أن الله سييسر لك الزواج في الوقت الذي تتهيأ فيه الظروف المناسبة.

مع العلم أن الأولوية قد تختلف حسب الضرورة، فإذا كنت تتعرض لفتنة لا تندفع إلا بالزواج مع قدرتك عليه، فالدين أولى من غيره، لذلك عليك أن تحدد أولوياتك بوضوح لتستقر نفسيًا، لذلك لا تترك العمل الحالي بحجة الكمال، قال الله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) ما دمت قد اخترت دراسة الطب، فهذه عزيمة تحتاج منك التوكل والمضي قدمًا، لا تجعل التردد يفسد عليك طريقك، استمر في دراستك، فهي خطوة منطقية الآن، والزواج سيأتي حين تكتمل الظروف والأسباب المناسبة ما دام أن الاحتياج إليه خارج نطاق الضرورة كما وضحنا.

خامسًا: تأنيب الذات والراحة النفسية: النبي ﷺ قال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، رواه الترمذي، ومن الطبيعي أن تقع في بعض التقصير، أو الخطأ، لكن المطلوب هو الاستمرار في التوبة، والسعي للتصحيح دون أن تحمل نفسك همومًا لا داعي لها، اقبل ضعفك البشري، واعلم أن الله يحب التائبين، وجاء في الحديث عندما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أدومها وإن قل)، فرغم أنه قليل، لكنه حبيب إلى الله؛ لأن المداومة تحقق أثر الأعمال في النفوس، وجوهر الأعمال بأثرها وتزكيتها وتهذيبها للنفس.

أخيرًا: أخي الفاضل، اجتهد بما تستطيع، واعلم أن الله لا يطالبك بالكمال، بل ببذل الجهد ضمن طاقتك، والسعي والاختيار هما دورك، والنتائج بيد الله، فسلِّم للقدر بعد أن تبذل وسعك، واستمر في دراستك، فهي أولوية الآن، لا تجعل تأنيب النفس يستهلك طاقتك؛ بل استغفر الله عن أي تقصير، واستمر في طريقك، واستعن بحسن الظن بالله تعالى، وأكثر من الدعاء والتضرع إلى الله أن يشرح صدرك، ويذهب عنك العجز، ومكائد الشيطان.

أسأل الله أن يرزقك السكينة والتوفيق، وأن يلهمك الحكمة في القول والعمل.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً