الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما الفائدة من الدراسة والتعلم والعمل إذا كنت سوف أموت في النهاية؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أتمنى التعاطي مع مشكلتي بالأهمية التي أراها أنا، فقبل يومين جاءتني بعض الأفكار التي عكرت علي عيشي وحياتي، أولاً أنا طالب في السنة الثالثة في معهد الهندسة، والفكرة هي أنني أصبحت أقول ما الفائدة من الدراسة والتعلم والعمل وكسب المال إذا كنت سوف أموت في النهاية؟

وأيضاً أقول أنه قد أموت قبل النهاية من الدراسة أو بعدها بقليل! وبعد سماعي لحديث عدة شيوخ كالشعراوي مثلا يقول أن الحياة أتفه من أن نفكر فيها، ولهذا أصبحت أقول إن من الأفضل ترك الدراسة وكل شيء والاعتكاف بالصلاة وقراءة القرآن في انتظار الموت، فهل أنا طبيعي؟

أيضاً الخوف على أمي يزداد بشكل كبير، وفكرة الموت تراودني في كل ثانية، وكل دقيقة وكل ساعة، هل هذا طبيعي؟ حتى أخي الصغير الذي يبلغ 5 سنوات تراودني أفكار الموت حوله، فما فائدة الأب والأم والإخوة والعائلة بشكل عام إذا كنا كلنا سوف نموت ونفترق!

آسف على الإطالة، وشكراً على تحمل هذه الأفكار التي قتلتني بالفعل!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سالم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

لا شك أن الموت حقيقة، والاستعداد له واجب على العاقل المتدبر في هذه الحياة الدنيا؛ قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185).

ونبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أوصى بتذكر الموت في العديد من الأحاديث النبوية؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من ذكر هادم اللذات» رواه الترمذي.

وعن عبد اللّه بن مسعود -رضي الله عنه- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «استحيوا من اللّه حقّ الحياء»، فقلنا: يا نبي الله، إنّا لنستحيي، قال: «ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء» رواه الترمذي.

وعَنْ الْبَرَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِالْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» رواه ابن ماجة.

إلا أنه أيضاً علمنا أن نجعل الحياة الدنيا دار عمل ودأب، وقد أوصانا بالحرص على العمل الصالح وتقديم النفع للآخرين، حتى وإن كنا على يقين أنها اللحظة الأخيرة في هذه الحياة الدنيا: روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل).

وبناء على ما تقدم فإنني أهنئك على نجاحك في سنوات الدراسة الثلاث وعلى اختيارك قسم الهندسة الذي يعتبر من التخصصات المرموقة في العالم اليوم، وكونك وصلت إلى هذه المرحلة فهذا يدل على أنك شاب نشيط دراسياً ولك أهداف في حياتك وأنك تسعى إلى تحقيقها.

ولا شك أن من أهداف الإنسان في هذه الحياة هو عمارتها بما يرضي الله تعالى، وأن يكون لك زوجة وأولاد وبيت وأسرة ناجحة، وأن تكون متفوقاً في تخصصك، وأن تخدم من خلال تخصصك بلدك ووطنك، وأن تسعى في إدخال السرور على الناس، ومساعدة الآخرين، ألا تعتقد معي أن هذه الأشياء لا تقل من حيث الأجر والثواب عن قراءة القرآن.

ألا تعتقد أن المسلم القوي الإيجابي الذي خيره يتعدى دائرة ذاته وينطلق إلى دائرة أسرته، ومن ثم إلى من حوله، خير من المسلم الضعيف الذي خيره لا يتعدى ذاته وشخصه.

ألم تقرأ في فضل العالم على العابد قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) رواه الترمذي، وروي: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) رواه ابن ماجه، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ).

فالمسلم مأمور بأن يعمل، قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

أما فكرة الخوف من الموت بشكل عام فلا بأس بها إن خطرت ببالك كخاطر يذكِّرك بأن لكل شيء نهاية، ولكن إن سيطرت الفكرة عليك إلى أن بلغت حد الشلل الفكري لدماغك، وجعلتك تتوقف عن العمل، فهذا جنوح في التفكير، وهي حالة نفسية غير طبيعية، ينبغي أن تتنبه لنفسك وتعلم علم اليقين أن الله خلق الموت لحكمة، وأن ما بعد هذه الحياة حياة أخرى، وأننا يجب أن نخلص في هذه الحياة، وأن نعمر الكون كما أمرنا خالقنا جل جلاله.

وإلا فلو أن الأنبياء فكروا بنفس طريقة تفكيرك لما بلَّغوا رسالات الله، ولو أن الصحابة -رضي الله عنهم- فكروا كذلك لما فتحوا البلاد ونشروا هذا الدين في كل بقاع الأرض.

فالتفكير في الموت إما أن يكون تفكيراً إيجابياً وهو الذي يدفعنا إلى الإكثار من العمل الصالح والنجاح في مهمتنا في هذه الحياة، وإما أن يكون تفكيراً سلبياً وهو يتمثل في ترك عمارة الكون، وترك الدراسة، وترك الزواج، وترك كل مناحي الحياة، وهذا مخالف لهدي القرآن وسيرة الأنبياء عليهم السلام.

فتوكل على الله، وكن متفوقاً في دراستك، واحرص على أن تكون متألقا في علاقاتك مع الجميع، وأن تحصل على أعلى الشهادات لتقدم لنا النموذج الرائع للشاب الطموح الذي يخدم أمته ويحقق خلافة الله في الأرض، فقد قال الله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)، أي جعلكم عُمَّارًا فيها.

بارك الله فيك وسدد خطاك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً