من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى . الفتيل : فعيل بمعنى مفعول . فقيل : هو الخيط الذي في شق نواة التمرة . وقيل : ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما . الجبت : اسم لصنم ثم صار مستعملا لكل باطل ، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي . وقال قطرب : الجبت الجبس ، وهو الذي لا خير عنده ، قلبت السين تاء . قيل : وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل . النقير : النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله : . وقال ابن عباس الضحاك : هو البياض الذي في وسطها . النضج : أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه ، ومنه نضج اللحم ، ونضج الثمرة . يقال : نضج الشيء ينضج نضجا ونضاجا . الجلد معروف .
( ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ) دعا رسول الله أحبار اليهود منهم بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم : ( إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق ) فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت . قاله الأعمش . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله : ( ابن عباس ولو أنهم قالوا ) الآية . خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان ، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) الآية . وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع .
والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود ، والكتاب التوراة قاله : الجمهور ، أو اليهود والنصارى قاله : الماوردي وابن عطية . والكتاب التوراة والإنجيل ، و بما نزلنا هو القرآن بلا خلاف ، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . قرأ الجمهور : نطمس بكسر الميم . وقرأ أبو رجاء : بضمها . وهما لغتان ، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي ، وأما طمسها فقال ابن عباس : هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا ، فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى . وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي : من قبل أن نطمس عيون وجوه ، ولا يراد بذلك مطلق وجوه ، بل المعنى وجوهكم . وقالت طائفة : طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها ، والرد على الأدبار هو بالمعنى أي : خلوه من الحواس دثر الوجه لكونه عابرا بها ، وحسن هذا القول وعطية العوفي وجوزه وأوضحه ، فقال : أن [ ص: 267 ] نطمس وجوها ، أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردها على أدبارها ، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء ، مطموسة مثلها . والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ، فالمعنى : أن نطمس وجوها فننكسها ، الوجوه إلى خلف ، والأقفاء إلى قدام انتهى . والطمس بمعنى المحو الذي ذكره - مروي عن الزمخشري ، واختاره القتبي . وقال ابن عباس قتادة والضحاك : معناه نعمي أعينها . وذكر الوجوه وأراد العيون ، لأن الطمس من نعوت العين . قال تعالى : ( فطمسنا أعينهم ) . ويروى هذا أيضا عن . وقال ابن عباس الفراء : طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة . وقيل : ردها إلى صورة بشعة كوجوه الخنازير والقردة . وقال مجاهد والسدي والحسن : ذلك تجوز ، والمراد وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها ، والرد على الأدبار التصيير إلى الكفر . وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها إخراجهم منها . والرد على الأدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولا . وحسن هذا القول ، فقال : ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رءوسهم ووجهاؤهم أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ، وتكسوها صغارهم وأدبارهم ، أو نردهم إلى حيث جاءوا منه . وهي أذرعات الشام ، يريد إجلاء بني النضير انتهى . الزمخشري
( أو نلعنهم ) هو معطوف على قوله : أن نطمس . وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله : ( من لعنه الله وغضب عليه ) . وقال الحسن : معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت . وقال ابن عطية : هم أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد ، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة . وقيل : معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم .
وظاهر قوله : من قبل أن نطمس أو نلعن - أن ذلك يكون في الدنيا . ولذلك روي أن لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . وقال عبد الله بن سلام مالك : كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية ، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وقيل : الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد . وقيل : المراد أنه يحل بهم في القيامة ، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأولين والآخرين ، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب . وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة ، وإما إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد ، فقد وقع ذلك . وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن ، فإنهم ملعونون بكل لسان . وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما ، بل متى وقع أحدهما صح التعليق ، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما . وقيل : الوعيد مشروط بالإيمان ، وقد آمن منهم ناس . و ( من قبل ) متعلق بـ ( آمنوا ) ، و ( على أدبارها ) متعلق بـ فنردها .
وقال أبو البقاء : على أدبارها حال من ضمير الوجوه ، والضمير المنصوب في ( نلعنهم ) .
قيل : عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء ، أو عائد على أصحاب الوجوه ، لأن المعنى : من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات ، وهذا عندي أحسن . ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفا لهم ، وهز السماع ما يلقيه إليهم ، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل ، ثم ذكر أن الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب ، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان ، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله : من قبل أن نطمس وجوها [ ص: 268 ] والمعنى : وجوهكم ، ثم عطف عليه قوله : أو نلعنهم ، فأتى بضمير الغيبة ، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول ، وهذا من جليل المخاطبة . وبديع المحاورة .
( وكان أمر الله مفعولا ) الأمر هنا واحد الأمور ، واكتفى به لأنه دال على الجنس ، وهو عبارة عن المخلوقات : كالعذاب ، واللعنة ، والمغفرة . وقيل : المراد به المأمور ، مصدر وقع موقع المفعول ، والمعنى : الذي أراده أوجده . وقيل : معناه أن كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى : أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله . وقال : وكان إخبارا عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة ، وأن ذلك واقع لا محالة ، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد . ولذلك قال : ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا ، يعني الطمس واللعنة . الزمخشري