( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) : أي مسرورين بما أعطاهم الله من قربه ، ودخول جنته ، ورزقهم فيها ، إلى سائر ما أكرمهم به ، ولا تعارض بين : فرحين ، وبين ( إن الله لا يحب الفرحين ) في قصة قارون ؛ لأن ذاك بالملاذ الدنيوية ، وهذا بالملاذ الأخروية ؛ ولذلك جاء قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا وجاء : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) .
ومن يحتمل أن تكون للسبب ، أي : ما آتاهم الله متسبب عن فضله ، فتتعلق الباء بآتاهم . ويحتمل أن تكون للتبعيض ، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على " ما " ، أي : بما آتاهموه الله كائنا من فضله . ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، فتتعلق بآتاهم . وجوزوا في فرحين أن يكون حالا من الضمير في يرزقون ، أو من الضمير في الظرف ، أو من الضمير في أحياء ، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب .
( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ) : وهم جميع المؤمنين ، أي : يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة ، فهم فرحون بما حصل لهم ، مستبشرون بما يحصل لإخوانهم المؤمنين . قاله الزجاج وغيرهما . وقال وابن فورك قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون ، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء ، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله تعالى .
قال ابن عطية : وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار . انتهى كلامه . أما قوله : ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح ، وأما قوله : بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار ، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني ، واستمجد بمعنى مجد ، ونقل أنه يقال : بشر الرجل بكسر الشين ، فيكون استبشر بمعناه . ولا يتعين هذا المعنى ، بل يجوز أن يكون [ ص: 115 ] مطاوعا لأفعل ، وهو الأظهر ، أي : أبشره الله فاستبشر ، كقولهم : أكانه فاستكان ، وأشلاه فاستشلى ، وأراحه فاستراح ، وأحكمه فاستحكم ، وأكنه فاستكن ، وأمره فاستمر ، وهو كثير . وإنما كان هذا الأظهر هنا ؛ لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلا عن غيره ، فحصلت له البشرى بإبشار الله له بذلك . ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد ؛ لأنه لا يدل على المطاوعة . ومعنى : " من خلفهم " ، قد بقوا بعدهم ، وهم قد تقدموهم ، إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء ، وإن كان المعني بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم .
( أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) : وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفا على فرحين ومستبشرين ، كقوله : " صافات ويقبضن " أي قابضات ، وأن يكون على إضمارهم . والواو للحال ، فتكون حالية من الضمير في فرحين ، أو من ضمير المفعولي في آتاهم ، أو للعطف ، ويكون مستأنفا من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها .
وإن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها الجملة المنفية بلا . وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين ، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة . أو منصوب على أنه مفعول من أجله ، فيكون علة للاستبشار ، والمستبشر به غيره ، التقدير : لأنه لا خوف عليهم . والذوات لا يستبشر بها ، فلا بد من تقدير مضاف مناسب ، وتقدم تفسير : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأغنى عن إعادته .
وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير ، فيتمنى مثله لإخوانه في الله ، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب . قاله ، وهو كلام حسن . الزمخشري
قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع : الطباق في قوله : " لقد من الله " الآية ، إذ التقدير : من الله عليهم بالهداية ، فيكون في هذا المقدر . وفي قوله : " في ضلال مبين " ، وفي : " يقولون بأفواههم " ، والقول ظاهر و " يكتمون " . وفي " قالوا لإخوانهم وقعدوا " ، إذ التقدير : حين خرجوا وقعدوا هم . وفي : " أمواتا بل أحياء " وفي : فرحين ويحزنون . والتكرار في : " وليعلم المؤمنين " ، " وليعلم الذين نافقوا " الاختلاف متعلق العلم . وفي فرحين ويستبشرون ، والتجنيس المغاير في : أصابتكم مصيبة ، والمماثل في : أصابتكم ، قد أصبتم ، والاستفهام الذي يراد به الإنكار في : " أولما أصابتكم " ، والاحتجاج النظري في : " قل فادرءوا عن أنفسكم " ، والتأكيد في : " ولا هم يحزنون " ، والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها .