( وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ) : هو على حذف مضاف أي : وليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا . أو المعنى : وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين . وقيل : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقا للعلم الذي لم يزل ولا يزال . وقيل : ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء . وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله : ( لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب ) وقالوا : تتعلق الآية بمحذوف أي : ولكذا فعل ذلك . والذي يظهر : أنه معطوف على قوله : " بإذن الله " عطف السبب على السبب . ولا فرق بين الباء واللام ، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله : فهو كائن . والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه .
( وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ) : القائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، أبو جابر بن عبد الله ، لما انخذل عبد الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم ، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، ونحو هذا من القول . فقال عبد الله بن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمناه لكنا معكم . فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله عنكم ، ومضى حتى استشهد . قال ، السدي ، وابن جريج ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، : معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير . وقال والفراء أبو عون الأنصاري معناه : رابطوا ، وهو قريب من الأول ؛ لأن المرابط في الثغور دافع للعدو ؛ إذ لولاه لطرقها . قال أنس : رأيت يوم عبد الله بن أم مكتوم القادسية وعليه درع يجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك ؟ قال : بلى ، ولكني أكثر المسلمين بنفسي . وقيل : القتال بالأنفس ، والدفع بالأموال . وقيل : المعنى : أو ادفعوا حمية ؛ لأنه لما دعاهم أولا إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك ، إذ لا باعث لهم في ذلك ؛ لنفاقهم ، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة ، فنبه على ما يقاتل لأجله : إما لإعلاء الدين ، أو لحمى الذمار . ألا ترى إلى قول قزمان : والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي ، وقول الأنصاري وقد رأى قريشا ترعى زرع قناه : أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب ، مع أنه أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره .
و " أو " على بابها من أنها لأحد الشيئين . وقيل : يحتمل أن تكون بمعنى الواو ، فطلب منهم الشيئين : القتال في سبيل الله ، والدفع عن الحريم والأهل والمال . فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب ، والظاهر أن قوله : وقيل لهم : كلام مستأنف . قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة ، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم . حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب ، ويحتمل أن يكون قوله : وقيل لهم معطوف على نافقوا ، فيكون من الصلة .
( قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) : إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال ، كأنه قيل : فماذا قالوا ؟ فقيل : قالوا لو نعلم ، ونعلم هنا في معنى علمنا ؛ لأن لو من القرائن التي تخلص المضارع لمعنى الماضي إذا كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، فإذا كانت بمعنى إن الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال . ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال ، وعلمهم للقتال منتف ، فانتفى الاتباع ، وإخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إما على سبيل المكابرة والمكاذبة ؛ إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد ، وخرج إليهم العسكر الآخر من [ ص: 110 ] بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله ، وإن كانوا أقل من أولئك - أنه سينشب بينهم قتال لا محالة ، فأنكروا علم ذلك رأسا ؛ لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين . وإما على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله . وليس كذلك ، إنما هو رمي النفوس في التهلكة ؛ إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين ؛ لأن رأي عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهرا للمؤمنين ، وما كان يستصوب الخروج كما مر ذكره في قصة أحد .
( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) : وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب أنهم كانوا يظهرون الإيمان ، ولم تكن تظهر لهم أمارة تدل على الكفر ، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قربا للكفر ، وتباعدوا عن الإيمان . وقيل : هو على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ؛ لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين .
وأقرب هنا أفعل تفضيل ، وهي من القرب المقابل للبعد . ويعدى بإلى وباللام وبمن ، فيقال : زيد أقرب لكذا ، وإلى كذا ، ومن كذا من عمرو . فمن الأولى ليست التي يتعدى بها أفعل التفضيل مطلقا في نحو : زيد أفضل من عمرو . وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب ، وهذا من خواص أفعل التفضيل ، أنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ، وليس أحدهما معطوفا على الآخر ، ولا بدلا منه ، بخلاف سائر العوامل ، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف ، أو على سبيل البدل . فتقول : زيد بالنحو أبصر منه بالفقه .
والعامل في " يومئذ " : " أقرب " . و " منهم " متعلق بأقرب أيضا ، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة ، أي : هم قوم إذ قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم . وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش : إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد ، وإنما هو من القرب بفتح القاف والراء وهو المطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الوداد ، فاللفظة بمعنى الطلب . ويتعين على هذا القول التعدية باللام ، ولا يجوز أن تعدى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل ، وصار نظير : زيد أقرب لعمرو من بكر . وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم . قال الحسن : إذا قال الله : أقرب ، فهو اليقين بأنهم مشركون . كقوله : " مائة ألف أو يزيدون " ، فالزيادة لا شك فيها ، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان . فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر .
وقال الواحدي في الوسيط : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ؛ لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم ، مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله . قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود ؛ لقوله : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم ، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به . ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر . أو من حيث قالوا للمؤمنين : " ألم نكن معكم " ، وللكافرين : " ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب . فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من حيث إنهم أحق به أن يعرفوا . كما جعل الله لهم أعلاما يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أربابا ، أو لتقربهم بها إلى الله ، فإذا أصابتهم شدة فزعوا إلى الله ، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدة والرخاء .
( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) : أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم ، ويحفظون أهليهم [ ص: 111 ] من السبي ، وأموالهم من النهب . وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم ، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها ، ولم تع قلوبهم منه شيئا . وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم ، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم . قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه . انتهى . ولا يظهر أنه توكيد ؛ إذ القول ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين ، إلا إن قلنا : إن إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيدا لحقيقة القول .
( والله أعلم بما يكتمون ) : أي من الكفر وعداوة الدين . وقال : " أعلم " ؛ لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته ، ونحن نعلم بعض ذلك علما مجملا . وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم ؛ إذ المعنى : ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون .