( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) : لما دعا ربه بالأمن لمكة وبالرزق لأهلها ، وبأن يجعل من ذريته أمة مسلمة ، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة ، وهو بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية . وقد تقدم معنى البعث في قوله : ( ثم بعثناكم ) ، والمراد هنا : الإرسال إليهم . والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية ، ويحتمل أن يعود على " أمة مسلمة " ويحتمل أن يعود على أهل مكة ، ويؤيده قوله : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) ، ولا خلاف أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصح عنه أنه قال : " أنا دعوة أبي إبراهيم " . ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو - صلى الله عليه وسلم - . وقرأ أبي : وابعث فيهم في آخرهم ، قال : كل الأنبياء من ابن عباس بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . ومنهم في موضع الصفة ل " رسولا " ، أي كائنا منهم لا من غيرهم ، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته ، كما قال : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) ، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم ; لأنه يكون أشفق على قومه ، ويكونون هم أعز به وأشرف وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته . قال الربيع : لما دعا إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو في آخر الزمان .
( يتلو عليهم آياتك ) جملة في موضع الصفة ل رسولا . وقيل : في موضع الحال منه ; لأنه قد وصف بقوله منهم ، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله ، أي يقرؤها ، فكان كذلك ، وأوتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، وهو أعظم المعجزات . وقبل الله دعاء إبراهيم ، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم ، والآيات هنا آيات القرآن . وقيل : خبر من مضى ، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة ، وقال الفضل : معناه يبين لهم دينهم .
( ويعلمهم الكتاب ) : هو القرآن ، والمعنى : أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه . وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة ; لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن ، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله . وأسند التعليم للرسول ; لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم ، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه ، ويتسبب في ذلك . والتعليم يكون بمعنى التفهيم ، وحصول العلم للمتعلم ، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم ولا يحصل به العلم ، ولذلك يقبل النقيضين ، تقول : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم ، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم . قال : يتلو عليهم آياتك : يقرأ عليهم ، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ، [ ص: 393 ] ويعلمهم الكتاب : القرآن ، ( الزمخشري والحكمة ) : الشريعة وبيان الأحكام . وقال قتادة : الحكمة : السنة ، وبيان النبي الشرائع . وقال مالك وأبو رزين : الحكمة ، الفقه في الدين ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى . وقال مجاهد : الحكمة : فهم القرآن . وقال مقاتل : العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيما حتى يجمعهما . وقيل : الحكم والقضاء . وقيل : ما لا يعلم إلا من جهة الرسول . وقال ابن زيد : كل كلمة وعظتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح : فهي حكمة . وقال بعضهم : الحكمة هنا الكتاب ، وكررها توكيدا . وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب : كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا فهو حكمة . وقال : الحكمة جند من جنود الله ، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروح عنها وهج الدنيا . وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها . وقيل : كل قول وجب فعله . وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة ، ويجمع هذه الأقوال قولان : أحدهما ، القرآن والآخر السنة ، لأنها المبينة لما انبهم من الكتاب ، والمظهرة لوجوه الأحكام . ويكون المعنى - والله أعلم - في قوله : ( يحيى بن معاذ يتلو عليهم آياتك ) ، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته ، كما لأبي : " إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن " ، وذلك لأن يتعلم قال - صلى الله عليه وسلم - أبي منه - صلى الله عليه وسلم - كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصله . وفي قوله : ( ويعلمهم الكتاب ) ، أي يبين لهم وجوه أحكامه : حلاله وحرامه ، ومفروضه ، ومسنونه ، ومواعظه ، وأمثاله ، وترغيبه ، وترهيبه ، والحشر ، والنشر ، والعقاب ، والثواب ، والجنة والنار . وفي قوله : والحكمة ، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل ، وتوضح ما انبهم من المشكل ، وتفصح عن مقادير وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه ، ويثبت أحكاما لم يتضمنها الكتاب . ( ويزكيهم ) باطنا من أرجاس الشرك وأنجاس الشك ، وظاهرا بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الإنعام . قال : التزكية : الطاعة والإخلاص . وقال ابن عباس : يطهرهم من الشرك . وقيل : يأخذ منهم الزكاة التي تكون سببا لطهارتهم . وقيل : يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء . وقيل : يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول ، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية . ابن جريج