هذه السورة [ ص: 224 ] مكية بلا خلاف ، كان - عليه السلام - يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله علي . وقال الضحاك : صلى - عليه السلام - هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن ، فقالت قريش : ما أنزل عليه إلا ليشقى . وقال مقاتل : قال أبو جهل والنضر والمطعم : إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت . ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أي : بلغته وكان فيما علل به قوله ( لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ) أكد ذلك بقوله ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ) والتذكرة هي البشارة والنذارة ، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة ، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو : يس والر وما أشبههما ، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة . وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : معنى ( طه ) يا رجل . فقيل بالنبطية . وقيل بالحبشية . وقيل بالعبرانية . وقيل لغة يمنية في عك . وقيل في عكل . وقالالكلبي : لو قلت في عك : يا رجل لم يجب حتى تقول ( طه ) . وقال معنى ( السدي طه ) يا فلان . وأنشد في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم : الطبري
دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا
وقول الآخر :
إن السفاهة طه من خلائقكم لا بارك الله في القوم الملاعين
وقيل هو اسم من أسماء الرسول . وقيل : من أسماء الله . وقال : ولعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به . الزمخشري
إن السفاهة طه في خلائقكم لا قدس الله أخلاق الملاعين
انتهى . وكان قد قدم أنه يقال : إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل ، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء ، وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء ، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه . وقيل : طا فعل أمر وأصله ( طأ ) ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفا ( وها ) مفعول وهو ضمير الأرض ، أي : طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه . وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة في اختياره ( طه ) . قيل : وأصله ( طأ ) فحذفت الهمزة بناء على قلبها في ( يطأ ) على حد لا هناك المرتع بني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف ، أو أصله ( طأ ) وأبدلت همزته هاء فقيل ( طه ) . وقرأ وورش الضحاك وعمرو بن فائد : طاوي .
وقرأ طلحة : ما نزل عليك ، بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنيا للمفعول ( القرآن ) بالرفع . وقرأ الجمهور ( ما أنزلنا عليك القرآن ) ومعنى ( لتشقى ) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله ( لعلك باخع نفسك ) والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل : أتعب من رائض مهر . وأشقى من رائض مهر . قال : أي : ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة انتهى . وقيل : أريد رد ما قاله الزمخشري أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول . و ( لتشقى ) و ( تذكرة ) علة لقوله ( ما أنزلنا ) وتعدى في ( لتشقى ) باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير ( ما أنزلنا ) هو لله ، وضمير ( لتشقى ) للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما اتحد الفاعل في ( أنزلنا ) و ( تذكرة ) إذ هو مصدر ذكر ، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافا والجمهور يشترطونه .
وقال : فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله ( الزمخشري أن تحبط أعمالكم ) قلت : بلى ولكنها [ ص: 225 ] نصبة طارئة كالنصبة في ( واختار موسى قومه ) وأما النصبة في ( تذكرة ) فهي كالتي في ضربت زيدا ؛ لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها . انتهى . وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوبا متفقا عليه بل في ذلك خلاف . أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله ؟
وقال ابن عطية : ( إلا تذكرة ) يصح أن ينصب على البدل من موضع ( لتشقى ) ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة . انتهى . وقد رد تخريج الزمخشري ابن عطية الأول فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكون ( تذكرة ) بدلا من محل ( لتشقى ) ؟ قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن . انتهى . ويعني باختلاف الجنسين أن نصب ( تذكرة ) نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في ( لتشقى ) بعد نزع الخافض نصبة عارضة ، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه .
وقال : ويجوز أن يكون المعنى ( إنا أنزلنا ) إليك ( الزمخشري القرآن ) لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة ، و ( ما أنزلنا عليك ) هذا المتعب الشاق ( إلا ) ليكون ( تذكرة ) وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ( تذكرة ) حالا ومفعولا له ( لمن يخشى ) لمن يئول أمره إلى الخشية . انتهى . وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ ، وكون ( إلا تذكرة ) بدل من محل ( لتشقى ) هو قول . وقال الزجاج النحاس : هذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من قبل أن التذكرة ليست بشقاء . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون ( تذكرة ) بدلا من ( القرآن ) ويكون القرآن هو التذكرة ، وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدرا ، أي : لكن ذكرنا به ( تذكرة ) . قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا المذكور ؛ لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو ( لتشقى ) ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى . والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح .
وانتصب ( تنزيلا ) على أنه مصدر لفعل محذوف ، أي : نزل ( تنزيلا ممن خلق ) . وقال : في نصب ( الزمخشري تنزيلا ) وجوه : أن يكون بدلا من ( تذكرة ) إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له ؛ لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمرا ، وأن ينصب بأنزلنا ؛ لأن معنى ( ما أنزلنا ) ( إلا تذكرة ) أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص ، وأن ينصب بيخشى مفعولا به ، أي : أنزله الله ( تذكرة لمن يخشى ) تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين . انتهى . والأحسن ما قدمناه أولا من أنه منصوب بنزل مضمرة . وما ذكره من نصبه على غير ذلك متكلف ، أما الأول ففيه جعل ( الزمخشري تذكرة ) و ( تنزيلا ) حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالا لا ينقاس ، وأيضا فمدلول ( تذكرة ) ليس مدلول ( تنزيلا ) ولا ( تنزيلا ) بعض ( تذكرة ) فإن كان بدلا فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول ؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها . وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك ؛ لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة ، وأما نصبه على المدح فبعيد ، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد ؛ لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولا بيخشى ، وقوله فيه ( وهو معنى حسن وإعراب بين ) عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة .
وقرأ ( تنزيل ) رفعا على إضمار هو ، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق ( ابن أبي عبلة يخشى ) بـ ( تنزيل ) وأنه منقطع مما قبله ، فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه ، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف . وفي قوله ( ممن خلق ) تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته ، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر ، وكان في قوله ( ممن خلق ) التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام [ ص: 226 ] وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد ، وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة ، والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه ، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين .
وقال ويجوز أن يكون ( الزمخشري أنزلنا ) حكاية لكلام جبريل - عليه السلام - والملائكة النازلين معه . انتهى . وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه . و ( العلى ) جمع العليا ووصف ( السماوات ) بالعلى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى ، والظاهر رفع ( الرحمن ) على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ( الرحمن ) . وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون بدلا من الضمير المستتر في ( خلق ) انتهى . وأرى أن مثل هذا لا يجوز ؛ لأن البدل يحل محل المبدل منه ، و ( الرحمن ) لا يمكن أن يحل محل الضمير ؛ لأن الضمير عائد على من الموصولة و ( خلق ) صلة ، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط . وأجاز أن يكون رفع ( الرحمن ) على الابتداء قال يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق . وروى الزمخشري جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ ( الرحمن ) بالكسر . قال : صفة لـ ( من خلق ) يعني لمن الموصولة ، ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون ( الرحمن ) صفة لمن ، فالأحسن أن يكون ( الرحمن ) بدلا من من ، وقد جرى ( الرحمن ) في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل . وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو ( الزمخشري على العرش استوى ) وعلى قراءة الرفع إن كان بدلا كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك ، أو مبتدأ كما ذكره ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر ، فيكون ( الرحمن ) والجملة خبرين عن هو المضمر . وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف . الزمخشري
وما روي عن من الوقف على قوله ( ابن عباس على العرش ) ثم يقرأ ( استوى له ما في السماوات ) على أن يكون فاعلا لاستوى لا يصح إن شاء الله .
ولما ذكر تعالى أنه اخترع السماوات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى ( له ) ملك جميع ( ما ) حوت السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ) ، أي : تحت الأرض السابعة ، قاله ابن عباس . وعن ومحمد بن كعب : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة . وقيل : ( السدي وما تحت الثرى ) ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيدا لقوله ( وما في الأرض ) إلا إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيدا . وقيل : المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك ؛ لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير : له علم ما في السماوات
ولما ذكر تعالى أولا إنشاء السماوات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه ، ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله : ( وإن تجهر بالقول ) للرسول ظاهر ، أو المراد أمته ، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلا بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر ؛ لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر ؛ أي : إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر ، والسر مقابل للجهر كما قال ( يعلم سركم وجهركم ) والظاهر أن ( أخفى ) أفعل تفضيل ، أي : وأخفى من السر .
قال : ( ابن عباس السر ) ما تسره إلى غيرك ، والأخفى ما تخفيه في نفسك ، وقاله الفراء . وعن أيضا ( السر ) ما أسره في نفسه ، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه . وعن ابن عباس قتادة : قريب من هذا . وقال مجاهد : ( السر ) ما تخفيه من الناس ( وأخفى ) منه الوسوسة . وقال ابن زيد ( السر ) سر الخلائق ، وأخفى منه سره تعالى وأنكر ذلك . وقيل : ( السر ) العزيمة ، وأخفى منه ما لم يخطر على القلب ، وذهب بعض السلف إلى أن قوله ( وأخفى ) هو فعل ماض لا أفعل تفضيل ، أي : ( يعلم ) أسرار العباد ( وأخفى ) عنهم ما يعلمه [ ص: 227 ] هو كقوله ( الطبري يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه ) وقوله ( ولا يحيطون به علما ) . قال ابن عطية : وهو ضعيف .
وقال : وليس بذلك قال : فإن قلت : كيف طابق الجزاء الشرط ؟ قلت : معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله ( الزمخشري واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ) وإما تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر . انتهى .
والجلالة مبتدأ و ( لا إله إلا هو ) الخبر و ( له الأسماء الحسنى ) خبر ثان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى ؟ فقيل : هو ( الله ) و ( الحسنى ) تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير ، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة ، والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلا منه ، وذكروا أن هذه الأسماء هي التي قال فيها رسول الله : . وذكرها " إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة " الترمذي مسندة .