جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية ، وكأنه تعالى ذكر أولا ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنتقل ، بل ينتقل الناس إليها . ثم ذكر ثانيا ما من به علينا من المتخذ من جلود الأنعام ، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم ، أو ذكر أولا البيوت على طريق العموم ، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصا تنبيها على حال أكثر العرب ، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود ، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر ، وبيوت الصوف والوبر . وقال ابن سلام : تندرج لأنها ثابتة فيها ، فهي منها . ومعنى تستخفونها : تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل . يوم ظعنكم : يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها . وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر ، أي : مدة النجعة والإقامة . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ظعنكم ، بفتح العين ، وباقي السبعة بسكونها ، وهما لغتان . وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو : الشعر والشعر لمكان حرف الحلق ، والظاهر أن أثاثا مفعول ، والتقدير : وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا . وقيل : أثاثا ، منصوب على الحال على أن المعنى : جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتا ، فيكون ذلك معطوفا على ( من جلود الأنعام ) ، كما تقول : جعلت لك من الماء شرابا ومن اللبن ، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجرورا على مجرور ، ومنصوبا على منصوب ، كما تقول : ضربت في الدار زيدا وفي القصر عمرا ، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا ، واندرجت في قوله ( سرابيل تقيكم الحر ) . والمتاع : ما يتمتع به ، أي : ينتفع به . وقال : الزينة . وقال ابن عباس المفضل : المتجر والمعاش . وقال الخليل : الأثاث والمتاع : واحد وجمع [ ص: 524 ] بينهما لاختلاف اللفظين ; كقوله : وألفى قولها كذبا ومينا . وغيا تعالى ذلك بقوله : إلى حين ، فقال : إلى الموت . وقال ابن عباس مقاتل : إلى بلى ذلك الشيء . وقيل : إلى انقضاء حاجتكم منه . ولما ذكر تعالى ما من به عليهم ما سبق ذكره ، وكانت بلادهم غالبا عليها الحر ، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس . وقال ابن عباس ومجاهد : ظلال الغمام . وقال ابن السائب : ظلال البيوت . وقال قتادة ، : ظلال الشجر . وقال والزجاج ابن قتيبة : ظلال الشجر والجبال ; والأكنان من الجبال هي الغيران ، والكهوف ، والبيوت المنحوتة منها . والسربال : ما لبس على البدن من : قميص ، وقرقل ، ومجول ، ودرع ، وجوشن ، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها . واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد ، قاله ، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه ، قاله الزجاج ، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر . وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط ، قاله المبرد . وهذا في بلاد عطاء الخراساني الحجاز ، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم :إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
وقال آخر :في ليلة من جمادى ذات أندية والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع
قال كعب بن زهير :
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
والسربال عام ، يقع على ما كان من حديد وغيره . والبأس في أصل اللغة : الشدة ، وهنا الحرب . وفي الحديث : " " - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : تقيكم أذى الحرب ، وهو ما يعرض فيها من الجراح الناشئة من ضرب السيف ، والدبوس ، والرمح ، والسهم ، وغير ذلك مما يعد للحديث . كذلك ، أي : مثل ذلك الإتمام للنعمة فيما سبق ، يتم نعمته في المستقبل . وقرأ كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله : تتم ، بتاء مفتوحة ، نعمته ، بالرفع ، أسند التمام إليها اتساعا ، وعنه نعمه جمعا . وقرأ : لعلكم تسلمون : بفتح التاء ، واللام من السلامة والخلاص ، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب ، أو تسلمون من الشرك . وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى : تؤمنون ، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد . روي أن أعرابيا سمع قوله تعالى : ( ابن عباس والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ) إلى آخر الآيتين ، فقال عند كل نعمة : اللهم نعم ، فلما سمع : لعلكم تسلمون ، قال : اللهم هذا فلا فنزلت فإن تولوا ، يحتمل أن يكون ماضيا ، أي : فإن أعرضوا عن الإسلام . ويحتمل أن يكون مضارعا ، أي : فإن تتولوا ، وحذفت التاء ، ويكون جاريا على الخطاب السابق والماضي على الالتفات ، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة ، والجواب حقيقة محذوف ، أي : فأنت معذور إذ أديت ما وجب عليك ، فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه . وقال ابن عطية : المعنى : إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم ، فإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه ; انتهى . ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها ، وأنها منه تعالى ، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله ، وجعل ذلك إنكارا على سبيل المجاز ، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته ، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه من الشركاء ، قال قريبا من هذا المعنى مجاهد . وقال : النعمة هنا السدي محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته ، وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه . وعن الطبري مجاهد أيضا : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا . وعن ابن عون : إضافتها إلى الأسباب لا إلى مسببها ، وحكى صاحب الغنيان : يعرفونها في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء . وقيل : إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله . وقيل : [ ص: 525 ] يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم . والظاهر أن المراد من ( وأكثرهم ) موضوعه الأصلي . وقال الحسن : وكلهم : ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر ، فجعله من كفران النعمة . والظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان . وقيل : أكثر أهل مكة ، لأن منهم من أبى . وقيل : معنى الكافرون : الجاحدون المعاندون ، لأن فيهم من كان جاهلا لم يعرف فيعاند . وقال : ( فإن قلت ) : ما معنى ثم ؟ ( قلت ) : الدلالة على أن إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة ، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر . الزمخشري