( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) : قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر : هي كلها مكية . وقال : إلا ثلاث آيات منها نزلت ابن عباس بالمدينة بعد حمزة ، وهي قوله : ( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) إلى قوله : ( بأحسن ما كانوا يعملون ) وقيل : إلا ثلاث آيات ( وإن عاقبتم ) الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد ، وقوله : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) وقوله : ( ثم إن ربك للذين هاجروا ) وقيل : من أولها إلى قوله : ( يشركون ) مدني وما سواه مكي . وعن قتادة عكس هذا .
ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال : فوربك لنسألنهم أجمعين ، كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة ، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا ، فقيل : أتى أمر الله ، وهو يوم القيامة على قول الجمهور . وعن المراد بالأمر : نصر رسول الله ، وظهوره على الكفار . وقال ابن عباس : الزمخشري ; انتهى . وهذا الثاني قاله كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ، أو نزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيبا بالوعد ، قال : الأمر هنا ما وعد الله نبيه من النصر وظفره بأعدائه ، وانتقامه منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال ، والاستيلاء على منازلهم وديارهم . وقال ابن جريج الضحاك : الأمر هنا مصدر أمر ، والمراد به : فرائضه وأحكامه . قيل : وهذا فيه بعد ، لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض من قبل أن تفرض عليهم . وقال الحسن أيضا : الأمر عقاب الله لمن أقام على الشرك ، وتكذيب الرسول ، واستعجال العذاب منقول عن كثير من كفار وابن جريج قريش وغيرهم . وقريب من هذا القول قول : هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم . وقيل : الأمر بعض أشراط الساعة . وأتى : قيل : باق على معناه من المضي ، والمعنى : أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا . وقيل : أتى أمر الله ، أتت مبادئه وأماراته . وقيل : عبر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه ، وفي ذلك وعيد للكفار . وقرأ الجمهور : تستعجلوه ، بالتاء ، على الخطاب ، وهو خطاب للمؤمنين أو خطاب للكفار على معنى : قل لهم فلا تستعجلوه . وقال تعالى : ( الزجاج يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) وقرأ ابن جبير : بالياء نهيا للكفار ، والظاهر عود الضمير في ( فلا تستعجلوه ) على الأمر لأنه هو المحدث عنه . وقيل : يعود على الله ; أي : فلا تستعجلوا الله بالعذاب ، أو بإتيان يوم القيامة كقوله : ( ويستعجلونك بالعذاب ) وقرأ حمزة : تشركون ، بتاء الخطاب ، وباقي السبعة والكسائي وأبوه والأعرج جعفر ، ، وابن وضاح وأبو رجاء ، والحسن . وقرأ عيسى : الأولى بالتاء ، من فوق ، والثانية بالياء والتاء من فوق معا ; ، الأعمش وأبو العالية ، وطلحة ، وأبو عبد الرحمن ، وابن وثاب ، والجحدري ، وما يحتمل أن تكون بمعنى [ ص: 473 ] الذي ومصدرية . وأفضل قراءته عما يشركون باستعجالهم ، لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب ، وذلك من الشرك . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ينزل ، مخففا ، وباقي السبعة ، مشددا ، وزيد بن علي والأعمش وأبو بكر : تنزل ، مشددا مبنيا للمفعول ، الملائكة ، بالرفع . والجحدري كذلك ، إلا أنه خفف . والحسن ، وأبو العالية ، ، والأعرج والمفضل ، عن عاصم ويعقوب : بفتح التاء مشددا مبنيا للفاعل . وقرأ : ما ننزل ، بنون العظمة والتشديد ، ابن أبي عبلة وقتادة بالنون والتخفيف . قال ابن عطية : وفيهما شذوذ كثير ; انتهى . وشذوذهما أن ما قبله وما بعده ضمير غيبة ، ووجهه أنه التفات ، والملائكة هنا جبريل وحده قاله الجمهور ، أو الملائكة المشار إليهم بقوله : ( والنازعات غرقا ) وقال : ابن عباس : الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء ، ونظيره : ( الروح يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) وقال : هو القرآن ، ومنه ( الربيع بن أنس وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) وقال مجاهد : المراد بالروح أرواح الخلق ، لا ينزل ملك إلا ومعه روح . وقال الحسن وقتادة : الروح : الرحمة . وقال - ما معناه - الروح : الهداية ، لأنها تحيا بها القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح . وقيل : الروح : الزجاج جبريل ، ويدل عليه : ( نزل به الروح الأمين ) وتكون الباء للحال ، أي : ملتبسة بالروح . وقيل : بمعنى مع ، وقيل : الروح : حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة ، كما الملائكة حفظة علينا لا تراهم . وقال مجاهد أيضا : الروح اسم ملك ، ومنه : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) وعن : أن الروح خلق من خلق الله كصور ابن آدم ، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وقال نحوه ابن عباس . قال ابن جريج ابن عطية : وهذا قول ضعيف لم يأت به سند .
وقال : بالروح من أمره ، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل ، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ; انتهى . و ( من ) للتبعيض ، أو لبيان الجنس . ومن يشاء : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، و ( أن ) : مصدرية ، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع ، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم : كتبت إليه بأن قم ، وهو بدل من الروح . أو على إسقاط الخافض : بأن أنذروا ، فيجري الخلاف فيه : أهو في موضع نصب ؟ أو في موضع خفض ؟ وقال الزمخشري : ( وأن أنذروا ) بدلا من الروح ، أي : ننزلهم بأن أنذروا ، وتقديره : أنذروا ; أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا . أنه لا إله إلا أنا ; انتهى . فجعلها المخففة من الثقيلة ، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن ، وقدر إضمار القول : حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع . وجوز الزمخشري ابن عطية ، وأبو البقاء ، وصاحب الغنيان : أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول ، أي : أعلموا الناس ، من نذرت بكذا إذا أعلمته . قال : والمعنى يقول لهم : أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون ; انتهى . لما جعل أن هي التي حذف منها ضمير [ ص: 474 ] الشأن قدر هذا التقدير وهو يقول لهم : أعلموا . وقرئ : لينذروا أنه ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بألوهيته ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان . ومعنى : فاتقون ; أي : اتقوا عقابي باتخاذكم إلها غيري . وجاءت الحكاية على المعنى في قوله : إلا أنا ، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا الله ، وكلاهما سائغ . وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة ، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السماوات والأرض ، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها . وبالحق ، أي : بالواجب اللائق ، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع ، وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك . الزمخشري
وقرأ : ( فتعالى ) بزيادة فاء ، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه الله تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة . ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض ، وهو استدلال بالخارج ، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان ، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله . والخصيم : من صفات المبالغة ، من خصم ، بمعنى اختصم ، أو بمعنى : مخاصم ، كالخليط والجليس ، والمبين : الظاهر الخصومة أو المظهرها . والظاهر أن سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله : الأعمش سبحانه وتعالى عما يشركون ، وقوله : ( أن أنذروا ) الآية . ولتكرير ( وتعالى عما يشركون ) ، ولقوله في يس : ( أولم ير الإنسان ) الآية ، وقال : ( بل هم قوم خصمون ) وعنى به مخاصمتهم لأنبياء الله وأوليائه بالحجج الداحضة ، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم ، أو مردفا بالذم .
وقيل : المراد بالإنسان هنا أبي بن خلف الجمحي . وقال قوم : سياق الوصفين سياق المدح ، لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم ، وجعله مبين الحق من الباطل ، ونقله من تلك الحالة الجمادية ; وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة ; وهي : حالة النطق والإبانة . و ( إذ ) هنا للمفاجأة ، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها ، فتلك الأحوال محذوفة ، وتقع المفاجأة بعدها .