وقوله : ( أولئك يؤمنون به ) نزلت في ابن سلام وأصحابه . وقوله : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) نزلت في نبهان التمار . وكتاب : خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : ( الم ذلك الكتاب ) ، وأحكمت صفة له .
ومعنى الإحكام : نظمه نظما رضيا لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم . وهو الموثق في الترصيف ، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل ، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيما ، فالمعنى : جعلت حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله : ( الكتاب الحكيم ) وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها ، فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
وعن قتادة : أحكمت من الباطل . قال ابن قتيبة : ( أحكمت ) : أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول ، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره على محمد - صلى الله عليه وسلم - فثم على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل .إذ الإحكام : صفة ذاتية ، والتفصيل : إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب : أجمعه ، محكم : مفصل ، والإحكام : الذي هو ضد النسخ ، والتفصيل : الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك . وحكى عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب . الطبري
وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ، ولكن لا يقتضيه اللفظ . وقيل : فصلت معناه : فسرت ، وقال : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد ، أي : بين ولخص . الزمخشري
وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد بن علي وابن كثير في رواية : ثم ( فصلت ) بفتحتين خفيفتين على لزوم الفعل للآيات . قال صاحب اللوامح : يعني : انفصلت وصدرت . وقال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس ، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره . قال : وقرئ : ( الزمخشري أحكمت آياته ثم فصلت ) ، أي : أحكمتها أنا ثم فصلتها .
( فإن قلت ) : ما معنى ( ثم ) ؟ ( قلت ) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل ، انتهى . يعني : أن ( ثم ) جاءت لترتيب الإخبار ، لا لترتيب الوقوع في الزمان ، واحتمل ( من لدن ) أن يكون في موضع الصفة .
ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد ، أجاز أن يكون خبرا بعد خبر . قال : أن يكون صلة أحكمت وفصلت ، أي : من عنده أحكامها وتفصيلها . وفيه طباق حسن ، لأن المعنى : أحكمها حكيم وفصلها ، أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور ، انتهى . الزمخشري
ولا يريد أن ( من لدن ) متعلق بالفعلين معا من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى .