وقرأ أبو حيوة : ( نجس ) بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الإتباع كما قالوا في كبد : كبد ، وكرش : كرش . وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل .
وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ; أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام . والظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد . وقال : إن معنى قوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام " : فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل عليه قول الزمخشري علي حين نادى بـ ( براءة ) : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى . وقال : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول الشافعي اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد . وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد . وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله . وقيل : المراد من القربان أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك . وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبدا لمسلم . والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميرا على الموسم ، وأتبع بعلي ونودي فيها بـ ( براءة ) . وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ( العيلة ) : الفقر . وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف ؛ أي : حالا عائلة . و ( إن ) هنا على بابها من الشرط ، وقال عمرو بن قائد : المعنى : وإذ خفتم كقولهم : إن كنت ابني فأطعني ; أي : إذ كنت . وكون ( إن ) بمعنى ( إذ ) قول مرغوب عنه . وتقدم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى . قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة . وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الإغناء بالمشيئة ; لأنه يقع في حق بعض دون بعض ، وفي وقت دون وقت . وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم . وقال القرطبي : إعلاما بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل الله . ويروى : للشافعي
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
( إن الله عليم ) بأحوالكم ( حكيم ) لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة . وقال : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين . ابن عباس
[ ص: 29 ] ( ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك ، وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ; لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به ، قاله الكرماني . وقال : لأنهم جعلوا له ولدا وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل . وقال الزجاج ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ; إذ يلقونها من غير طريقها . وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ; لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وغير ذلك . ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان . وقول اليهود في النار يكون فيها أياما انتهى . وفي الغنيان : نفى عنهم الإيمان ; لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى . والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني .
( ما حرم الله ) في كتابه ( ورسوله ) في السنة . وقيل : في التوراة والإنجيل ; لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير . وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين . والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن . ( ولا يدينون دين الحق ) ; أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل . وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله ، قاله قتادة . يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه دينا ويعتقده . وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه ، وقد دان له وخضع . قال زهير :
لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك
( من الذين أوتوا الكتاب ) بيان لقوله : ( الذين ) . والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا . وأجمع الناس على ذلك . وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم انتهى . وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب . وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم . وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقال : تؤخذ من كل عابد وثن أو نار أو جامد مكذب . وقال الأوزاعي أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية . وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائنا من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد . وقال ، الشافعي وأحمد ، : لا تقبل إلا من وأبو ثور اليهود والنصارى والمجوس فقط . والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية . وقال أبو حنيفة ومالك : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين . وقال والشافعي مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس ، واختلف في الشيخ الفاني .
ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس [ ص: 30 ] ولا لوقت إعطائها . فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقا وكسوة . وقال : رويت عن الثوري عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم . وقال وغيره : على كل رأس دينار . وقال الشافعي أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهما ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهما ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له . قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة . وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير . وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند آخر السنة . وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : الشافعي
نجزيك أو نثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه ; أي يقضوه .
( عن يد ) ; قال : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها . وقال ابن عباس عثمان : يعطونها نقدا لا نسيئة . وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم . وقيل : عن اعتراف . وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان ; أي الأمر له . وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ; لأن قبولها منهم عوضا عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم : له علي يد أي : نعمة . وقال القتبي : يقال أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكافئ . وقيل : عن يد : عن جماعة ; أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله . واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة ; أي : هم مجتمعون . وقيل : عن يد ; أي عن غنى وقدرة ، فلا تؤخذ من الفقير . ولخص في ذلك فقال : إما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ; لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم . وإما أن يريد يد المعطي فالمعنى عن يد مواتية غير ممتنعة ; لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد ; أي نقدا غير نسيئة أو لا مبعوثا على يد آخر ولكن عن يد المعطي البريد الآخذ . الزمخشري
( وهم صاغرون ) جملة حالية ; أي : ذليلون حقيرون . وذكروا كيفيات في أخذها منهم ، وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية . قال : يمشون بها ملببين . وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم . وقال ابن عباس عكرمة : يكون قائما والآخذ جالسا . وقال الكلبي : يقال له عند دفعها : أد الجزية ويصك في قفاه . وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته .