وقرأ عيسى بن عمر : أن استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلا ، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطا . ومعنى استحبوا : آثروا وفضلوا ، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر ، وقيل : بمعنى أحب ، وضمن معنى اختار وآثر ، ولذلك عدي بعلى . ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم ، فقال : هو مشرك مثلهم ; لأن من رضي بالشرك فهو مشرك . قال ابن عباس مجاهد : وهذا كله كان قبل فتح مكة ، وقال ابن عطية : وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر .
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة ، وذكر الأبناء ; لأنه ذكر المحبة ، وهم أعلق بالنفس ، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا ; لأن المقصود منها الرأي والمشورة . وقدم الآباء ; لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم ، وثنى بالأبناء ; لكونهم أعلق بالقلوب . ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان ، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء ، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال : وعشيرتكم .
وقرأ الجمهور بغير ألف . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرحمن : بألف على الجمع . وزعم الأخفش أن العرب تجمع عشيرة على عشائر ، ولا تكاد تقول : عشيرات بالجمع بالألف والتاء ، ثم ذكر ( وأموال اقترفتموها ) ; أي اكتسبتموها ; لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة ، بل حبها أشد ، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة ، وأكثر الناس كانوا فقراء . ثم ذكر : ( وتجارة تخشون كسادها ) ، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال ، وجعل تعالى التجارة سببا لزيادة الأموال ونمائها . وتفسير بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن ، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ . وقال الشاعر : ابن المبارك
كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا
ثم ذكر : ( ومساكن ترضونها ) ، وهي القصور والدور . ومعنى : ترضونها : تختارون الإقامة بها . وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار : حب الأقارب ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن . فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور . وفي الكلام حذف أي : أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام . والقراء على نصب ( أحب ) ; لأنه خبر كان . وكان يقرأ : أحب بالرفع ، ولحنه الحجاج بن يوسف ، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية ، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة ، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن ، ويلزم ما [ ص: 23 ] بعدها بالابتداء والخبر ، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان . وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره . قال يحيى بن يعمر ابن عباس ومجاهد : الإشارة إلى فتح مكة . وقال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، و ( الفاسقين ) عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق ، وفي التحرير الفسق هنا الكفر ، ويدل عليه ما قابله من الهداية . والكفر ضلال ، والضلال ضد الهداية ، وإن كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا ، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة ، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة .