8- (الم)
أما قوله: (الم) فإن هذه الحروف أسكنت؛ لأن الكلام ليس بمدرج، وإنما يكون مدرجا لو عطف بحروف العطف؛ وذلك أن العرب تقول في حروف المعجم كلها بالوقف، إذا لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "ألف باء تاء ثاء" ويقولون: ألف وباء وتاء وثاء".
وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف؛ يقولون: "واحد اثنان ثلاثه". ويدلك على انه ليس بمدرج قطع ألف "إثنين" وهي من الوصل؛ فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت، ولكن هذا من العدد، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله.
ومثل ذلك (المص) و (الر) و (المر) و (كهيعص) و (طسم) و (يس) و (طه) و (حم) و (ق) و (ص) . إلا أن قوما قد نصبوا (يس) و (طه) و (حم) ، وهو كثير في كلام العرب.
[ ص: 20 ] وذلك أنهم جعلوها أسماء ؛ كالأسماء الأعجمية "هابيل" و "قابيل"، فإما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها؛ كأنه قال: "اذكر "حم" و"طس" و"يس"، أو جعلوها كالأسماء، التي غير متمكنة فحركوا آخرها حركة واحدة كفتح "أين"، وكقول بعض الناس (الحمد لله) . وقرأ بعضهم (ص) و (ن) و (ق) بالفتح، وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة، وجعلوها اسما للسورة؛ فصارت أسماء مؤنثة. ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكنا نحو: "هند" و "جمل" و "دعد"؛ قال الشاعر:
(4) وإني لأهوى بيت هند وأهلها على هنوات قد ذكرن على هند
وهو يجوز في هذه اللغة، أو يكون سماها بالحرف، والحرف مذكر؛ وإذا سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف؛ جعل (ص) وما أشبهها اسما للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.وقال بعضهم: "صاد والقرآن" فجعلها من "صاديت"
[ ص: 21 ] ثم أمر كما تقول: "رام"؛ كأنه قال: "صاد الحق بعملك" أي: تعمده، ثم قال: (والقرآن) فأقسم، ثم قال: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) . فعلى هذا وقع القسم، وذلك أنهم زعموا أن "بل" هاهنا إنما هي "إن" فلذلك صار القسم عليها.
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: "إنما هي حروف يستفتح بها" فإن قيل: "هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى؟". فإن معنى هذه: "أنه ابتدأ بها؛ ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى؛ فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول [ أبو النجم ] :
(5) .............. بل وبلدة ما الإنس من أهالها
(6) ................. بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
[ ص: 22 ] وقال قوم: "إنها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتي بعض الناس علم ذلك. وذلك أن بعضهم كان يقول: "الر" و "حم" و "ن" هذا هو اسم "الرحمن" جل وعز، وما بقي منها فنحو هذا.
وقالوا إن قوله: (كهيعص) "كاف" "هاد" "عالم" "صادق"؛ فأظهر من كل اسم منها حرفا ليستدل به عليها؛ فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى؛ لأنه يريد معنى الحروف. ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك؛ لأن (الم) و (طسم) و (كهيعص) ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطعة.
وقال: (الم الله لا اله إلا هو) فالميم مفتوحة لأنها لقيها حرف ساكن فلم يكن من حركتها بد.
فإن قيل: "فهلا حركت بالجر؟".
فإن هذا لا يلزم فيها؛ إنما أرادوا الحركة، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز ولا أعلمها إلا لغة.
وقال بعضهم: "فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها.
وقالوا: "من الرجل" ففتحوا لاجتماع الساكنين. ويقولون: "هل الرجل" و "بل الرجل" وليس بين هذين وبين "من الرجل" فرق، إلا أنهم قد فتحوا "من الرجل" لئلا تجتمع كسرتان، وكسروا (إذ الظالمون) .
[ ص: 23 ] وقد اجتمعت كسرتان؛ لأن "من" أكثر استعمالا في كلامهم من "إذ" فأدخلوها الفتح ليخف عليهم.
وإن شئت قلت "الم" حروف منفصل بعضها من بعض؛ لأنه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضا منفصلة مما بعدها، فالأصل فيه أن تقول: (الم ألله) فتقطع ألف (ألله) إذا كان ما قبله منفصلا منه؛ كما قلت: "واحد، إثنان" فقطعت. وكما قرأ القراء: (ن والقلم) فبينوا النون؛ لأنها منفصلة، ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة. ألا ترى أنك تقول: " خذه من زيد" و "خذه من عمرو " فتبين النون في " عمرو " ولا تبين في "زيد".
فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح جاز أن تحرك الميم بفتحة "الألف". وتحذف "الألف" في لغة من قال: "من ابوك" فلا تقطع. وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج فقالوا: (نون) والقلم) فأثبتوا
[ ص: 24 ] النون ولم يبينوها. وقالوا: (يس والقرآن) فلم يبينوا أيضا. وليست هذه النون ها هنا بمنزلة قوله: (كهيعص) و (طس تلك) و (عسق) ، هذه النونات لا تبين في القراءة؛ في قراءة أحد؛ لأن النون قريبة من الصاد؛ لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان. وكذلك التاء والسين في (طس تلك) وفي (عسق) ، فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها. وتبينت النون في (يس) و (نون) لبعد النون من الواو لأن النون بطرف اللسان والواو بالشفتين.