على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة "الغيب " في العقيدة الإسلامية ، وفي التصور الإسلامي ، وفي العقلية الإسلامية .
إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة . فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا ، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا . .
إن هنالك سننا ثابتة لهذا الكون ; يملك "الإنسان " أن يعرف منها القدر اللازم له ، حسب طاقته وحسب حاجته ، للقيام بالخلافة في هذه الأرض . وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ; وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ، وتعمير الأرض ، وترقية الحياة ، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها . . [ ص: 1120 ] وإلى جانب هذه السنن الثابتة - في عمومها - مشيئة الله الطليقة ; لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها . وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها . فهي ليست آلية بحتة ، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها ; وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها . وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها "غيب " لا يعلمه أحد علم يقين ; وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و "الاحتمالات " . . وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضا . .
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة ; وكلها "غيب " بالقياس إليه ، وهي تجري في كيانه ! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله ; وهو لا يعلمها !
وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون . وحاضره وحاضر الكون . ومستقبله ومستقبل الكون . . وذلك مع وجود السنن الثابتة ، التي يعرف بعضها ، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة .
وإن "الإنسان " ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه ! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله ! . . وكذلك كل شيء حي . . ومهما تعلم ومهما عرف ، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئا !
إن العقلية الإسلامية عقلية "غيبية علمية " لأن "الغيبية " هي "العلمية " بشهادة "العلم " والواقع . . أما التنكر للغيب فهو "الجهلية " التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة !
وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله ; وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل ، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض ، والتعامل معها على قواعد ثابتة . . فلا يفوت المسلم "العلم " البشري في مجاله ، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة ; وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا ، إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء . .
الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة "الإنسان " الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ; وفي إحساسه بالكون ، وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض . فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ; ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ; ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ; وأن وراء الكون . . ظاهره وخافيه . . حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ، ولا تحيط بها العقول . . . . والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها "الفرد " فيتجاوز مرتبة "الحيوان"
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى . . إلى عالم البهيمة ، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا "تقدمية " ! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها . فجعل صفتهم المميزة هي صفة : الذين يؤمنون بالغيب . . . والحمد لله على نعمائه ; والنكسة للمنتكسين والمرتكسين . [ ص: 1121 ] والذين يتحدثون عن " الغيبية " و "العلمية " يتحدثون كذلك عن "الحتمية التاريخية " كأن كل المستقبل مستيقن ! و "العلم " في هذا الزمان يقول : إن هناك "احتمالات " وليست هنالك "حتميات " !
ولقد كان ماركس من المتنبئين "بالحتميات " ! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم ؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في إنجلترا ، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر . . فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا . . في روسيا والصين وما إليها . . ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية !
ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي . وها هو ذا خليفتهما " خروشوف " يحمل راية "التعايش السلمي " !
ولا نمضي طويلا مع هذه "الحتميات " التنبؤية ! فهي لا تستحق جدية المناقشة !
إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب ، وكل ما عداها احتمالات . وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره . وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو . وإن هنالك - مع هذا وذلك - سننا للكون ثابتة ، يملك الإنسان أن يتعرف إليها ، ويستعين بها في خلافة الأرض ، مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ ; وغيب الله المجهول . . وهذا قوام الأمر كله إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . .