[ ص: 1004 ] (6 )
nindex.php?page=treesubj&link=28889_28882سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مكية . . من القرآن المكي . . القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاما كاملة ، يحدثه فيها عن قضية واحدة . قضية واحدة لا تتغير ، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر . ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة ، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى !
لقد كان يعالج القضية الأولى ، والقضية الكبرى ، والقضية الأساسية ، في هذا الدين الجديد ، قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية . . الألوهية والعبودية ، وما بينهما من علاقة .
لقد كان يخاطب بهذه القضية "الإنسان " . الإنسان بما أنه إنسان . . وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان . كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان . في ذلك الزمان وفي كل زمان !
إنها قضية "الإنسان " التي لا تتغير ، لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره . قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء ، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء . . وهي قضية لا تتغير ، لأنها قضية الوجود والإنسان !
لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله . . كان يقول له : من هو ؟ ومن أين جاء ; وكيف جاء ; ولماذا جاء ؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف ؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول ؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك ؟ . . وكان يقول له : ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه ؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار ؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره ؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه ؟ . . وكان يقول له كذلك : كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ، ومع الكون أيضا ، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد .
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود "الإنسان " . وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده ، على توالي الأزمان . .
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى . القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات . .
[ ص: 1005 ] ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ; وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين .
وأصحاب الدعوة إلى دين الله ، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . .
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة ، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ، ويعبدهم له دون سواه .
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب
العرب ! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى : "إله " ومعنى : "لا إله إلا الله " . . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا . . وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها ، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، ورده كله إلى الله . . السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة . . السلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان . . كانوا يعلمون أن : "لا إله إلا الله " ثورة على السلطان الأرضي ، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية ، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ; وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله . . ولم يكن يغيب عن
العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا ، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة : "لا إله إلا الله " - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم . . ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف ، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام . .
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ؟
لقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، وأخصب بلاد
العرب وأغناها ليست في أيدي
العرب ; إنما هي في يد غيرهم من الأجناس !
بلاد
الشام كلها في الشمال خاضعة للروم ، يحكمها أمراء من
العرب من قبل الرومان . وبلاد
اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من
العرب من قبل
الفرس . . وليس في أيدي
العرب إلا
الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة ، التي تتناثر فيها
الواحات الخصبة هنا وهناك !
وكان في استطاعة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين ; الذي حكمه أشراف
قريش قبل ذلك في وضع
الحجر الأسود ، وارتضوا حكمه ، منذ خمسة عشر عاما ; والذي هو في الذؤابة من
بني هاشم أعلى
قريش نسبا . . كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل
العرب ، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات ، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ; الرومان في الشمال
والفرس في الجنوب ; وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء
الجزيرة . .
[ ص: 1006 ] ولو دعا يومها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له
العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في
الجزيرة !
وربما قيل : إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له
العرب هذه الاستجابة ; وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . . أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله : وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !
لماذا ؟ إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . . إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . . ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! . . إن الأرض لله ، ويجب أن تخلص لله . ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية : "لا إله إلا الله " . . وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! إن الناس عبيد لله وحده ، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية : "لا إله إلا الله " . . "لا إله إلا الله " كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته : لا حاكمية إلا لله ، ولا شريعة إلا من الله ، ولا سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله لله . . ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله .
وهذا هو الطريق . .
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة . . قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها . وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . . والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ; وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا !
وكان في استطاعة
محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية ; وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ; وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء !
ولو دعا يومها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة ، لانقسم المجتمع العربي صفين : الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة ، في وجه طغيان المال والشرف . بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه : "لا إله إلا الله " التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس .
وربما قيل : إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ; وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . . أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجهه هذا التوجيه . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . . كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ; يرد الأمر كله لله ; ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع ، ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ;
[ ص: 1007 ] ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء . فلا تمتلئ قلوب بالطمع ، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب ! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير : "لا إله إلا الله " . .
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمستوى الأخلاقي في
الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .
كان التظالم فاشيا في المجتمع ، تعبر عنه حكمة الشاعر
زهير بن أبي سلمى :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " .
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله
طرفة بن العبد :
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهـن سبقـي العاذلات بشربـة كميـت متى ما تعل بالماء تزبــد
.... إلخ
وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع . . كالذي روته
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها : إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك . . . (أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في كتاب النكاح ) .
وكان في استطاعة
محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية ، تتناول تقويم الأخلاق ، وتطهير المجتمع ، وتزكية النفوس ، وتعديل القيم والموازين . .
وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .
وربما قال قائل : إنه لو صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها ، وتزكو أرواحها ، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق !
[ ص: 1008 ] ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين ، وتقرر القيم ; وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ; كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط ، وبلا سلطان ، وبلا جزاء !
فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد ، ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب : "لا إله إلا الله " . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .
تطهرت الأرض من الرومان
والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان
العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله : رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله ، ويزن بميزان الله ، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ؟ ويسميها راية الإسلام ، لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها : "لا إله إلا الله " !
وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .
وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ; كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعدا واحدا هو الجنة . . هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان ، في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : "لا إله إلا الله " !
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ; ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ; ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم ، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض . ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . .
لما أن علم الله منهم ذلك كله ، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى . أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر ، وفي الأرواح والأموال ، وفي الأوضاع والأحوال . . وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها ، وعلى عدل الله يقيمونه ، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا
[ ص: 1009 ] لجنسهم ; إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته ، لأنهم يعلمون أنه من الله ، هو الذي آتاهم إياه .
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع ، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء ، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ; المبارك الميسر في حقيقته .
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية ، أو دعوة اجتماعية ، أو دعوة أخلاقية . . أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد : "لا إله إلا الله " . .
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير : "لا إله إلا الله " في القلوب والعقول ، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق . .
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها ، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها . . فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية . .
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا . . فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة . . كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير . . وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان ، الضاربة في الهواء . . لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ، وفي مساحات واسعة ; تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء . . فكذلك هذا الدين . . إن نظامه يتناول الحياة كلها ; ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ; وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها ، ولكن كذلك في الدار الآخرة ; ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ; ولا في المعاملات الظاهرة المادية ، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا . . فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية . . ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا . .
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ; يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ; ويجعل بناء العقيدة وتمكينها ، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها . . ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة ، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء ، والضارب من جذورها في الأعماق . .
ومتى استقرت عقيدة : "لا إله إلا الله " في أعماقها الغائرة البعيدة ، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه : "لا إله إلا الله " وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة . . واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته ، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته . فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان . . وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ; ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له . وهكذا أبطلت الخمر ، وأبطل الربا ، وأبطل الميسر ، وأبطلت العادات الجاهلية كلها ، أبطلت بآيات من القرآن ، أو كلمات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها ، وجندها وسلطانها ، ودعايتها وإعلامها . . فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ;
[ ص: 1010 ] بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم . . إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد . . جاء ليحكم الحياة في واقعها ; ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره . . يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه . . ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده .
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض ! إنه منهج يتعامل مع الواقع ! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله ، وأن الحاكمية ليست إلا لله ; ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ; ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة . .
[ ص: 1004 ] (6 )
nindex.php?page=treesubj&link=28889_28882سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ . . مِنَ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ . . الْقُرْآنُ الَّذِي ظَلَّ يَتَنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا كَامِلَةً ، يُحَدِّثُهُ فِيهَا عَنْ قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ . قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ ، وَلَكِنَّ طَرِيقَةَ عَرْضِهَا لَا تَكَادُ تَتَكَرَّرُ . ذَلِكَ أَنَّ الْأُسْلُوبَ الْقُرْآنِيَّ يَدَعُهَا فِي كُلِّ عَرْضٍ جَدِيدَةً ، حَتَّى لَكَأَنَّمَا يَطْرُقُهَا لِلْمَرَّةِ الْأُولَى !
لَقَدْ كَانَ يُعَالِجُ الْقَضِيَّةَ الْأُولَى ، وَالْقَضِيَّةَ الْكُبْرَى ، وَالْقَضِيَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ ، فِي هَذَا الدِّينِ الْجَدِيدِ ، قَضِيَّةَ الْعَقِيدَةِ مُمَثَّلَةً فِي قَاعِدَتِهَا الرَّئِيسِيَّةِ . . الْأُلُوهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَلَاقَةٍ .
لَقَدْ كَانَ يُخَاطِبُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ "الْإِنْسَانَ " . الْإِنْسَانَ بِمَا أَنَّهُ إِنْسَانٌ . . وَفِي هَذَا الْمَجَالِ يَسْتَوِي الْإِنْسَانُ الْعَرَبِيُّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْإِنْسَانُ الْعَرَبِيُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ . كَمَا يَسْتَوِي الْإِنْسَانُ الْعَرَبِيُّ وَكُلُّ إِنْسَانٍ . فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ !
إِنَّهَا قَضِيَّةُ "الْإِنْسَانِ " الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ ، لِأَنَّهَا قَضِيَّةُ وُجُودِهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَقَضِيَّةُ مَصِيرِهِ . قَضِيَّةُ عَلَاقَتِهِ بِهَذَا الْكَوْنِ وَبِهَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ ، وَقَضِيَّةُ عَلَاقَتِهِ بِخَالِقِ هَذَا الْكَوْنِ وَخَالِقِ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ . . وَهِيَ قَضِيَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ ، لِأَنَّهَا قَضِيَّةُ الْوُجُودِ وَالْإِنْسَانِ !
لَقَدْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ يُفَسِّرُ لِلْإِنْسَانِ سِرَّ وُجُودِهِ وَوُجُودِ هَذَا الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِ . . كَانَ يَقُولُ لَهُ : مَنْ هُوَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ ; وَكَيْفَ جَاءَ ; وَلِمَاذَا جَاءَ ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنَ الْعَدَمِ وَالْمَجْهُولِ ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَذْهَبُ بِهِ وَمَا مَصِيرُهُ هُنَاكَ ؟ . . وَكَانَ يَقُولُ لَهُ : مَا هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي يُحِسُّهُ وَيَرَاهُ ، وَالَّذِي يُحِسُّ أَنَّ وَرَاءَهُ غَيْبًا يَسْتَشْرِفُهُ وَلَا يَرَاهُ ؟ مَنْ أَنْشَأَ هَذَا الْوُجُودَ الْمَلِيءَ بِالْأَسْرَارِ ؟ مَنْ ذَا يُدَبِّرُهُ وَمَنْ ذَا يُحَوِّرُهُ ؟ وَمَنْ ذَا يُجَدِّدُ فِيهِ وَيُغَيِّرُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَرَاهُ ؟ . . وَكَانَ يَقُولُ لَهُ كَذَلِكَ : كَيْفَ يَتَعَامَلُ مَعَ خَالِقِ هَذَا الْكَوْنِ ، وَمَعَ الْكَوْنِ أَيْضًا ، وَكَيْفَ يَتَعَامَلُ الْعِبَادُ مَعَ خَالِقِ الْعِبَادِ .
وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةَ الْكُبْرَى الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا وُجُودُ "الْإِنْسَانِ " . وَسَتَظَلُّ هِيَ الْقَضِيَّةَ الْكُبْرَى الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا وُجُودُهُ ، عَلَى تَوَالِي الْأَزْمَانِ . .
وَهَكَذَا انْقَضَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا كَامِلَةً فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى . الْقَضِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا شَيْءٌ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَا يَقُومُ عَلَيْهَا مِنَ الْمُقْتَضَيَاتِ وَالتَّفْرِيعَاتِ . .
[ ص: 1005 ] وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُومُ عَلَيْهَا مِنَ التَّفْرِيعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنِظَامِ الْحَيَاةِ ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْبَيَانِ ، وَأَنَّهَا اسْتَقَرَّتِ اسْتِقْرَارًا مَكِينًا ثَابِتًا فِي قُلُوبِ الْعُصْبَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ ، الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ لَهَا أَنْ يَقُومَ هَذَا الدِّينُ عَلَيْهَا ; وَأَنْ تَتَوَلَّى هِيَ إِنْشَاءَ النِّظَامِ الْوَاقِعِيِّ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِيهِ هَذَا الدِّينُ .
وَأَصْحَابُ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللَّهِ ، وَإِقَامَةِ النِّظَامِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِيهِ هَذَا الدِّينُ فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ ; خَلِيقُونَ أَنْ يَقِفُوا طَوِيلًا أَمَامَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الْكَبِيرَةِ . . ظَاهِرَةِ تَصَدِّي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ خِلَالَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا . . لِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ ; ثُمَّ وُقُوفِهِ عِنْدَهَا لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلَاتِ النِّظَامِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا ، وَالتَّشْرِيعَاتِ الَّتِي تُحْكَمُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَعْتَنِقُهَا . .
لَقَدْ شَاءَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةُ الْعَقِيدَةِ هِيَ الْقَضِيَّةَ الَّتِي تَتَصَدَّى الدَّعْوَةُ لَهَا مُنْذُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِلرِّسَالَةِ . وَأَنْ يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى خُطُوَاتِهِ فِي الدَّعْوَةِ ، بِدَعْوَةِ النَّاسِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; وَأَنْ يَمْضِيَ فِي دَعْوَتِهِ يُعَرِّفُ النَّاسَ بِرَبِّهِمُ الْحَقِّ ، وَيُعَبِّدُهُمْ لَهُ دُونَ سِوَاهُ .
وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ - فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَفِي نَظْرَةِ الْعَقْلِ الْبِشْرِيِّ الْمَحْجُوبِ - هِيَ أَيْسَرَ السُّبُلِ إِلَى قُلُوبِ
الْعَرَبِ ! فَلَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ مَعْنَى : "إِلَهٌ " وَمَعْنَى : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . . كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ تَعْنِي الْحَاكِمِيَّةَ الْعُلْيَا . . وَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنْ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ وَإِفْرَادَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِهَا ، مَعْنَاهُ نَزْعُ السُّلْطَانِ الَّذِي يُزَاوِلُهُ الْكُهَّانُ وَمَشْيَخَةُ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ ، وَرَدُّهُ كُلُّهُ إِلَى اللَّهِ . . السُّلْطَانُ عَلَى الضَّمَائِرِ ، وَالسُّلْطَانُ عَلَى الشَّعَائِرِ ، وَالسُّلْطَانُ عَلَى وَاقِعِيَّاتِ الْحَيَاةِ . . السُّلْطَانُ فِي الْمَالِ ، وَالسُّلْطَانُ فِي الْقَضَاءِ ، وَالسُّلْطَانُ فِي الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ . . كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ثَوْرَةٌ عَلَى السُّلْطَانِ الْأَرْضِيِّ ، الَّذِي يَغْتَصِبُ أُولَى خَصَائِصِ الْأُلُوهِيَّةِ ، وَثَوْرَةٌ عَلَى الْأَوْضَاعِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ هَذَا الِاغْتِصَابِ ; وَخُرُوجٌ عَلَى السُّلُطَاتِ الَّتِي تَحْكُمُ بِشَرِيعَةٍ مِنْ عِنْدِهَا لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللَّهُ . . وَلَمْ يَكُنْ يَغِيبُ عَنِ
الْعَرَبِ - وَهُمْ يَعْرِفُونَ لُغَتَهُمْ جَيِّدًا ، وَيَعْرِفُونَ الْمَدْلُولَ الْحَقِيقِيَّ لِدَعْوَةِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " - مَاذَا تَعْنِيهِ هَذِهِ الدَّعْوَةُ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْضَاعِهِمْ وَرِيَاسَاتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ . . وَمِنْ ثَمَّ اسْتَقْبَلُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ - أَوْ هَذِهِ الثَّوْرَةَ - ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالَ الْعَنِيفَ ، وَحَارَبُوهَا تِلْكَ الْحَرْبَ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ . .
فَلِمَ كَانَتْ هَذِهِ نُقْطَةَ الْبَدْءِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ ؟ وَلِمَ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ تَبْدَأَ بِكُلِّ هَذَا الْعَنَاءِ ؟
لَقَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الدِّينِ ، وَأَخْصَبُ بِلَادِ
الْعَرَبِ وَأَغْنَاهَا لَيْسَتْ فِي أَيْدِي
الْعَرَبِ ; إِنَّمَا هِيَ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجْنَاسِ !
بِلَادُ
الشَّامِ كُلُّهَا فِي الشَّمَالِ خَاضِعَةٌ لِلرُّومِ ، يَحْكُمُهَا أُمَرَاءُ مِنَ
الْعَرَبِ مِنْ قِبَلِ الرُّومَانِ . وَبِلَادُ
الْيَمَنِ كُلُّهَا فِي الْجَنُوبِ خَاضِعَةٌ لِلْفُرْسِ يَحْكُمُهَا أُمَرَاءُ مِنَ
الْعَرَبِ مِنْ قِبَلِ
الْفُرْسِ . . وَلَيْسَ فِي أَيْدِي
الْعَرَبِ إِلَّا
الْحِجَازُ وَنَجْدٌ وَمَا إِلَيْهِمَا مِنَ الصَّحَارِي الْقَاحِلَةِ ، الَّتِي تَتَنَاثَرُ فِيهَا
الْوَاحَاتُ الْخِصْبَةُ هُنَا وَهُنَاكَ !
وَكَانَ فِي اسْتِطَاعَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ ; الَّذِي حَكَّمَهُ أَشْرَافُ
قُرَيْشٍ قَبْلَ ذَلِكَ فِي وَضْعِ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَارْتَضَوْا حُكْمَهُ ، مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا ; وَالَّذِي هُوَ فِي الذُّؤَابَةِ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ أَعْلَى
قُرَيْشٍ نَسَبًا . . كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُثِيرَهَا قَوْمِيَّةً عَرَبِيَّةً تَسْتَهْدِفُ تَجْمِيعَ قَبَائِلِ
الْعَرَبِ ، الَّتِي أَكَلَتْهَا الثَّارَّاتُ ، وَمَزَّقَتْهَا النِّزَاعَاتُ ، وَتَوْجِيهَهَا وُجْهَةً قَوْمِيَّةً لِاسْتِخْلَاصِ أَرْضِهَا الْمُغْتَصَبَةِ مِنَ الْإِمْبِرَاطُورِيَّاتِ الْمُسْتَعْمِرَةِ ; الرُّومَانِ فِي الشَّمَالِ
وَالْفُرْسِ فِي الْجَنُوبِ ; وَإِعْلَاءَ رَايَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعُرُوبَةِ ; وَإِنْشَاءَ وَحْدَةٍ قَوِيَّةٍ فِي كُلِّ أَرْجَاءِ
الْجَزِيرَةِ . .
[ ص: 1006 ] وَلَوْ دَعَا يَوْمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَاسْتَجَابَتْ لَهُ
الْعَرَبُ قَاطِبَةً - عَلَى الْأَرْجَحِ - بَدَلًا مِنْ أَنْ يُعَانِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا فِي اتِّجَاهٍ مُعَارِضٍ لِأَهْوَاءِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ فِي
الْجَزِيرَةِ !
وَرُبَّمَا قِيلَ : إِنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَلِيقًا بَعْدَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ
الْعَرَبُ هَذِهِ الِاسْتِجَابَةَ ; وَبَعْدَ أَنْ يُوَلُّوهُ فِيهِمُ الْقِيَادَةَ وَالسِّيَادَةَ ; وَبَعْدَ اسْتِجْمَاعِ السُّلْطَانِ فِي يَدَيْهِ وَالْمَجْدِ فَوْقَ مَفْرِقِهِ . . أَنْ يَسْتَخْدِمَ هَذَا كُلَّهُ فِي إِقْرَارِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي بَعَثَهُ بِهَا رَبُّهُ ، وَفِي تَعْبِيدِ النَّاسِ لِسُلْطَانِ رَبِّهِمْ بَعْدَ أَنْ عَبَّدَهُمْ لِسُلْطَانِهِ !
وَلَكِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، لَمْ يُوَجِّهْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا التَّوْجِيهَ ! إِنَّمَا وَجَّهَهُ إِلَى أَنْ يَصْدَعَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ : وَأَنْ يَحْتَمِلَ هُوَ وَالْقِلَّةُ الَّتِي تَسْتَجِيبُ لَهُ كُلَّ هَذَا الْعَنَاءِ !
لِمَاذَا ؟ إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَا يُرِيدُ أَنْ يُعَنِّتَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ . . إِنَّمَا هُوَ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقَ . . لَيْسَ الطَّرِيقُ أَنْ تُخَلِّصَ الْأَرْضَ مِنْ يَدِ طَاغُوتٍ رُومَانِيٍّ أَوْ طَاغُوتٍ فَارِسِيٍّ . . إِلَى يَدِ طَاغُوتٍ عَرَبِيٍّ . . فَالطَّاغُوتُ كُلُّهُ طَاغُوتٌ ! . . إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ، وَيَجِبُ أَنْ تُخَلَّصَ لِلَّهِ . وَلَا تُخَلَّصُ لِلَّهِ إِلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ عَلَيْهَا رَايَةُ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . . وَلَيْسَ الطَّرِيقُ أَنْ يَتَحَرَّرَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ طَاغُوتٍ رُومَانِيٍّ أَوْ طَاغُوتٍ فَارِسِيٍّ . . إِلَى طَاغُوتٍ عَرَبِيٍّ . . فَالطَّاغُوتُ كُلُّهُ طَاغُوتٌ ! إِنَّ النَّاسَ عَبِيدٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَلَا يَكُونُونَ عَبِيدًا لِلَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ رَايَةُ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . . "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " كَمَا كَانَ يُدْرِكُهَا الْعَرَبِيُّ الْعَارِفُ بِمَدْلُولَاتِ لُغَتِهِ : لَا حَاكِمِيَّةَ إِلَّا لِلَّهِ ، وَلَا شَرِيعَةَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ ، وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ كُلَّهُ لِلَّهِ . . وَلِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ الَّتِي يُرِيدُهَا الْإِسْلَامُ لِلنَّاسِ هِيَ جِنْسِيَّةُ الْعَقِيدَةِ ، الَّتِي يَتَسَاوَى فِيهَا الْعَرَبِيُّ وَالرُّومَانِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَسَائِرُ الْأَجْنَاسِ وَالْأَلْوَانِ تَحْتَ رَايَةِ اللَّهِ .
وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ . .
وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الدِّينِ ، وَالْمُجْتَمَعِ الْعَرَبِيِّ كَأَسْوَأِ مَا يَكُونُ الْمُجْتَمَعُ تَوْزِيعًا لِلثَّرْوَةِ وَالْعَدَالَةِ . . قِلَّةٌ قَلِيلَةٌ تَمْلِكُ الْمَالَ وَالتِّجَارَةَ ; وَتَتَعَامَلُ بِالرِّبَا فَتُضَاعِفُ تِجَارَتَهَا وَمَالَهَا . وَكَثْرَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَمْلِكُ إِلَّا الشَّظَفَ وَالْجُوعَ . . وَالَّذِينَ يَمْلِكُونَ الثَّرْوَةَ يَمْلِكُونَ مَعَهَا الشَّرَفَ وَالْمَكَانَةَ ; وَجَمَاهِيرُ كَثِيفَةٌ ضَائِعَةٌ مِنَ الْمَالِ وَالْمَجْدِ جَمِيعًا !
وَكَانَ فِي اسْتِطَاعَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْفَعَهَا رَايَةً اجْتِمَاعِيَّةً ; وَأَنْ يُثِيرَهَا حَرْبًا عَلَى طَبَقَةِ الْأَشْرَافِ ; وَأَنْ يُطْلِقَهَا دَعْوَةً تَسْتَهْدِفُ تَعْدِيلَ الْأَوْضَاعِ وَرَدَّ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ !
وَلَوْ دَعَا يَوْمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الدَّعْوَةَ ، لَانْقَسَمَ الْمُجْتَمَعُ الْعَرَبِيُّ صَفَّيْنِ : الْكَثْرَةُ الْغَالِبَةُ فِيهِ مَعَ الدَّعْوَةِ الْجَدِيدَةِ ، فِي وَجْهِ طُغْيَانِ الْمَالِ وَالشَّرَفِ . بَدَلًا مِنْ أَنْ يَقِفَ الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ صَفًّا فِي وَجْهِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " الَّتِي لَمْ يَرْتَفِعْ إِلَى أُفُقِهَا فِي ذَلِكَ الْحِينِ إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ النَّاسِ .
وَرُبَّمَا قِيلَ : إِنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَلِيقًا بَعْدَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لَهُ الْكَثْرَةُ ; وَتُوَلِّيَهُ قِيَادَهَا ; فَيَغْلِبَ بِهَا الْقِلَّةَ وَيَسْلُسَ لَهُ مَقَادَهَا . . أَنْ يَسْتَخْدِمَ مَكَانَهُ يَوْمَئِذٍ وَسُلْطَانَهُ فِي إِقْرَارِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي بَعَثَهُ بِهَا رَبُّهُ ، وَفِي تَعْبِيدِ النَّاسِ لِسُلْطَانِ رَبِّهِمْ بَعْدَ أَنْ عَبَّدَهُمْ لِسُلْطَانِهِ !
وَلَكِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، لَمْ يُوَجِّهْهُ هَذَا التَّوْجِيهَ . .
لَقَدْ كَانَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الطَّرِيقَ . . كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَدَالَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَنْبَثِقَ فِي الْمُجْتَمَعِ مِنْ تَصَوُّرٍ اعْتِقَادِيٍّ شَامِلٍ ; يَرُدُّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ; وَيَقْبَلُ عَنْ رِضَى وَعَنْ طَوَاعِيَةٍ مَا يَقْضِي بِهِ اللَّهُ مِنْ عَدَالَةٍ فِي التَّوْزِيعِ ، وَمِنْ تَكَافُلٍ بَيْنَ الْجَمِيعِ ; وَيَسْتَقِرُّ مَعَهُ فِي قَلْبِ الْآخِذِ وَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنَّهُ يُنَفِّذُ نِظَامًا يَرْضَاهُ اللَّهُ ;
[ ص: 1007 ] وَيَرْجُو عَلَى الطَّاعَةِ فِيهِ الْخَيْرَ وَالْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ سَوَاءً . فَلَا تَمْتَلِئُ قُلُوبٌ بِالطَّمَعِ ، وَلَا تَمْتَلِئُ قُلُوبٌ بِالْحِقْدِ ، وَلَا تَسِيرُ الْأُمُورُ كُلُّهَا بِالسَّيْفِ وَالْعَصَا وَبِالتَّخْوِيفِ وَالْإِرْهَابِ ! وَلَا تَفْسُدُ الْقُلُوبُ كُلُّهَا وَتَخْتَنِقُ الْأَرْوَاحُ ; كَمَا يَقَعُ فِي الْأَوْضَاعِ الَّتِي نَرَاهَا قَدْ قَامَتْ عَلَى غَيْرِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . .
وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْتَوَى الْأَخْلَاقِيُّ فِي
الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ فِي جَوَانِبَ مِنْهُ شَتَّى إِلَى جَانِبِ مَا كَانَ فِي الْمُجْتَمَعِ مِنْ فَضَائِلِ الْخَامَةِ الْبَدَوِيَّةِ .
كَانَ التَّظَالُمُ فَاشِيًّا فِي الْمُجْتَمَعِ ، تُعَبِّرُ عَنْهُ حِكْمَةُ الشَّاعِرِ
زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى :
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ يُهْدَمِ ، وَمَنْ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ يُظْلَمِ
وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْقَوْلُ الْمُتَعَارِفِ : "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا " .
وَكَانَتِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ مِنْ تَقَالِيدِ الْمُجْتَمَعِ الْفَاشِيَّةِ وَمِنْ مَفَاخِرِهِ كَذَلِكَ ! يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الشِّعْرُ الْجَاهِلِيُّ بِجُمْلَتِهِ . . كَالَّذِي يَقُولُهُ
طَرْفَةُ بْنُ الْعَبْدِ :
فَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ زِينَةِ الْفَتَى وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفَلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
فَمِنْهُـنَّ سَبْقِـيَ الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَـةٍ كُمَيْـتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِــدِ
.... إِلَخْ
وَكَانَتِ الدَّعَارَةُ - فِي صُوَرٍ شَتَّى - مِنْ مَعَالِمِ هَذَا الْمُجْتَمَعِ . . كَالَّذِي رَوَتْهُ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءَ : فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ : يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ بِنْتَهُ ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا . . وَالنِّكَاحُ الْآخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ - إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمَثِهَا - أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ . وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ . وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ ! فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ . . وَنِكَاحٌ آخَرُ : يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ ، كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا . فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ ، بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا ، تَقُولُ لَهُمْ : قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ ، وَقَدْ وَلَدْتُ ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ . وَالنِّكَاحُ الرَّابِعُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا - وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنْ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ الرَّايَاتِ تَكُونُ عَلَمًا ، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ - فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا ، جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوُا الْقَافَةَ ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَهُ ، وَدُعِيَ ابْنُهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ . . . (أَخْرَجَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ) .
وَكَانَ فِي اسْتِطَاعَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْلِنَهَا دَعْوَةً إِصْلَاحِيَّةً ، تَتَنَاوَلُ تَقْوِيمَ الْأَخْلَاقِ ، وَتَطْهِيرَ الْمُجْتَمَعِ ، وَتَزْكِيَةَ النُّفُوسِ ، وَتَعْدِيلَ الْقِيَمِ وَالْمَوَازِينِ . .
وَكَانَ وَاجِدًا وَقْتَهَا - كَمَا يَجِدُ كُلُّ مُصْلِحٍ أَخْلَاقِيٍّ فِي أَيَّةِ بِيئَةٍ - نُفُوسًا طَيِّبَةً ، يُؤْذِيهَا هَذَا الدَّنَسُ وَتَأْخُذُهَا الْأَرْيَحِيَّةُ وَالنَّخْوَةُ لِتَلْبِيَةِ دَعْوَةِ الْإِصْلَاحِ وَالتَّطْهِيرِ . .
وَرُبَّمَا قَالَ قَائِلٌ : إِنَّهُ لَوْ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فَاسْتَجَابَتْ لَهُ - فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - جَمْهَرَةٌ صَالِحَةٌ تَتَطَهَّرُ أَخْلَاقُهَا ، وَتَزْكُو أَرْوَاحُهَا ، فَتُصْبِحُ أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ الْعَقِيدَةِ وَحَمْلِهَا . . بَدَلًا مِنْ أَنْ تُثِيرَ دَعْوَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمُعَارَضَةَ الْقَوِيَّةَ مُنْذُ أَوَّلِ الطَّرِيقِ !
[ ص: 1008 ] وَلَكِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، لَمْ يُوَجِّهْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَثَلِ هَذَا الطَّرِيقِ . .
لَقَدْ كَانَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقَ ! كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى أَسَاسٍ مِنْ عَقِيدَةٍ ، تَضَعُ الْمَوَازِينَ ، وَتُقَرِّرُ الْقِيَمَ ; وَتُقَرِّرُ السُّلْطَةُ الَّتِي تَرْتَكِنُ إِلَيْهَا هَذِهِ الْمَوَازِينُ وَالْقِيَمُ ; كَمَا تُقَرِّرُ الْجَزَاءَ الَّذِي تَمْلِكُهُ هَذِهِ السُّلْطَةُ وَتُوقِعُهُ عَلَى الْمُلْتَزِمِينَ وَالْمُخَالِفِينَ . وَأَنَّهُ قَبْلَ تَقْرِيرِ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ تَظَلُّ الْقِيَمُ كُلُّهَا مُتَأَرْجِحَةً ; وَتَظَلُّ الْأَخْلَاقُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا مُتَأَرْجِحَةً كَذَلِكَ ; بِلَا ضَابِطٍ ، وَبِلَا سُلْطَانٍ ، وَبِلَا جَزَاءٍ !
فَلَمَّا تَقَرَّرَتِ الْعَقِيدَةُ - بَعْدَ الْجُهْدِ الشَّاقِّ - وَتَقَرَّرَتِ السُّلْطَةُ الَّتِي تَرْتَكِنُ إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَقِيدَةُ . . لَمَّا عَرَفَ النَّاسُ رَبَّهُمْ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ . . لَمَّا تَحَرَّرَ النَّاسُ مِنْ سُلْطَانِ الْعَبِيدِ ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّهَوَاتِ سَوَاءٌ . . لَمَّا تَقَرَّرَتْ فِي الْقُلُوبِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . . صَنَعَ اللَّهُ بِهَا وَبِأَهْلِهَا كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَقْتَرِحُهُ الْمُقْتَرِحُونَ . .
تَطَهَّرَتِ الْأَرْضُ مِنَ الرُّومَانِ
وَالْفُرْسِ . . لَا لِيَتَقَرَّرَ فِيهَا سُلْطَانُ
الْعَرَبِ . . وَلَكِنْ لِيَتَقَرَّرَ فِيهَا سُلْطَانُ اللَّهِ . . لَقَدْ تَطَهَّرَتْ مِنَ الطَّاغُوتِ كُلِّهِ : رُومَانِيًّا وَفَارِسِيًّا وَعَرَبِيًّا عَلَى السَّوَاءِ .
وَتَطَهَّرَ الْمُجْتَمَعُ مِنَ الظُّلْمِ الِاجْتِمَاعِيِّ بِجُمْلَتِهِ . وَقَامَ النِّظَامُ الْإِسْلَامِيُّ يَعْدِلُ بِعَدْلِ اللَّهِ ، وَيَزِنُ بِمِيزَانِ اللَّهِ ، وَيَرْفَعُ رَايَةَ الْعَدَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ ؟ وَيُسَمِّيهَا رَايَةَ الْإِسْلَامِ ، لَا يَقْرِنُ إِلَيْهَا اسْمًا آخَرَ ; وَيَكْتُبُ عَلَيْهَا : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " !
وَتَطَهَّرَتِ النُّفُوسُ وَالْأَخْلَاقُ ، وَزَكَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَرْوَاحُ ; دُونَ أَنْ يَحْتَاجَ الْأَمْرُ إِلَى الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ - إِلَّا فِي النُّدْرَةِ النَّادِرَةِ - لِأَنَّ الرَّقَابَةَ قَامَتْ هُنَالِكَ فِي الضَّمَائِرِ ; وَلِأَنَّ الطَّمَعَ فِي رِضَى اللَّهِ وَثَوَابِهِ ، وَالْحَيَاءَ وَالْخَوْفَ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ قَدْ قَامَتْ كُلُّهَا مَقَامَ الرَّقَابَةِ وَمَقَامَ الْعُقُوبَاتِ . .
وَارْتَفَعَتِ الْبَشَرِيَّةُ فِي نِظَامِهَا ، وَفِي أَخْلَاقِهَا ، وَفِي حَيَاتِهَا كُلِّهَا ، إِلَى الْقِمَّةِ السَّامِقَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَفِعُ إِلَيْهَا مِنْ قَبْلُ قَطُّ ; وَالَّتِي لَمْ تَرْتَفِعْ إِلَيْهَا مِنْ بَعْدُ إِلَّا فِي ظِلِّ الْإِسْلَامِ . .
وَلَقَدْ تَمَّ هَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ الَّذِينَ أَقَامُوا هَذَا الدِّينَ فِي صُورَةِ دَوْلَةٍ وَنِظَامٍ وَشَرَائِعَ وَأَحْكَامٍ ; كَانُوا قَدْ أَقَامُوا هَذَا الدِّينَ مِنْ قَبْلُ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَفِي حَيَاتِهِمْ ، فِي صُورَةِ عَقِيدَةٍ وَخُلُقٍ وَعِبَادَةٍ وَسُلُوكٍ . وَكَانُوا قَدْ وَعَدُوا عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ وَعْدًا وَاحِدًا ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَلَبُ وَالسُّلْطَانُ . . وَلَا حَتَّى لِهَذَا الدِّينِ عَلَى أَيْدِيهِمْ . . وَعْدًا وَاحِدًا لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا . . وَعْدًا وَاحِدًا هُوَ الْجَنَّةُ . . هَذَا كُلُّ مَا وُعِدُوهُ عَلَى الْجِهَادِ الْمُضْنِي ، وَالِابْتِلَاءِ الشَّاقِّ ، وَالْمُضِيِّ فِي الدَّعْوَةِ ، وَمُوَاجَهَةِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَكْرَهُهُ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ ، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ ، وَهُوَ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " !
فَلَمَّا أَنِ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ فَصَبَرُوا ; وَلَمَّا أَنْ فَرَغَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ حَظِّ نُفُوسِهِمْ ; وَلَمَّا أَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ جَزَاءً فِي هَذِهِ الْأَرْضِ - كَائِنًا مَا كَانَ هَذَا الْجَزَاءَ وَلَوْ كَانَ هُوَ انْتِصَارَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ ، وَقِيَامَ هَذَا الدِّينِ فِي الْأَرْضِ بِجُهْدِهِمْ - وَلَمَّا لَمْ يَعُدْ فِي نُفُوسِهِمُ اعْتِزَازٌ بِجِنْسٍ وَلَا قَوْمٍ ، وَلَا اعْتِزَازٌ بِوَطَنٍ وَلَا أَرْضٍ . وَلَا اعْتِزَازٌ بِعَشِيرَةٍ وَلَا بَيْتٍ . .
لَمَّا أَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ ، عَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا - إِذَنْ - أُمَنَاءَ عَلَى هَذِهِ الْأَمَانَةِ الْكُبْرَى . أُمَنَاءَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الَّتِي يَتَفَرَّدُ فِيهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْحَاكِمِيَّةِ فِي الْقُلُوبِ وَالضَّمَائِرِ وَفِي السُّلُوكِ وَالشَّعَائِرِ ، وَفِي الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ ، وَفِي الْأَوْضَاعِ وَالْأَحْوَالِ . . وَأُمَنَاءُ عَلَى السُّلْطَانِ الَّذِي يُوضَعُ فِي أَيْدِيهِمْ لِيَقُومُوا بِهِ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ يُنَفِّذُونَهَا ، وَعَلَى عَدْلِ اللَّهِ يُقِيمُونَهُ ، دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ السُّلْطَانِ شَيْءٌ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِعَشِيرَتِهِمْ وَلَا لِقَوْمِهِمْ وَلَا
[ ص: 1009 ] لِجِنْسِهِمْ ; إِنَّمَا يَكُونُ السُّلْطَانُ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ ، هُوَ الَّذِي آتَاهُمْ إِيَّاهُ .
وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَنْهَجِ الْمُبَارَكِ لِيَتَحَقَّقَ عَلَى هَذَا الْمُسْتَوَى الرَّفِيعِ ، إِلَّا أَنْ تَبْدَأَ الدَّعْوَةُ ذَلِكَ الْبَدْءَ ، وَإِلَّا أَنْ تَرْفَعَ الدَّعْوَةُ هَذِهِ الرَّايَةَ وَحْدَهَا . . رَايَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . . وَلَا تَرْفَعُ مَعَهَا سِوَاهَا . . وَإِلَّا أَنْ تَسْلُكَ الدَّعْوَةُ هَذَا الطَّرِيقَ الْوَعِرَ الشَّاقَّ فِي ظَاهِرِهِ ; الْمُبَارَكِ الْمُيَسَّرِ فِي حَقِيقَتِهِ .
وَمَا كَانَ هَذَا الْمَنْهَجُ الْمُبَارَكُ لِيَخْلُصَ لِلَّهِ ، لَوْ أَنَّ الدَّعْوَةَ بَدَأَتْ خُطُوَاتِهَا الْأُولَى دَعْوَةً قَوْمِيَّةً ، أَوْ دَعْوَةً اجْتِمَاعِيَّةً ، أَوْ دَعْوَةً أَخْلَاقِيَّةً . . أَوْ رَفَعَتْ أَيَّ شِعَارٍ إِلَى جَانِبِ شِعَارِهَا الْوَاحِدِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . .
ذَلِكَ شَأْنُ تَصَدِّي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ كُلِّهِ لِتَقْرِيرِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ ، وَاخْتِيَارِ هَذَا الطَّرِيقِ - عَلَى مَشَقَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ - وَعَدَمِ اخْتِيَارِ السُّبُلِ الْجَانِبِيَّةِ الْأُخْرَى وَالْإِصْرَارِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ . .
فَأَمَّا شَأْنُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي تَنَاوُلِ قَضِيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَحْدَهَا ، دُونَ التَّطَرُّقِ إِلَى تَفْصِيلَاتِ النِّظَامِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا ، وَالشَّرَائِعِ الَّتِي تُنَظِّمُ الْمُعَامَلَاتِ فِيهَا . . فَذَلِكَ كَذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ أَمَامَهُ أَصْحَابُ الدَّعْوَةِ لِهَذَا الدِّينِ وَقْفَةً وَاعِيَةً . .
إِنَّ طَبِيعَةَ هَذَا الدِّينِ هِيَ الَّتِي قَضَتْ بِهَذَا . . فَهُوَ دِينٌ يَقُومُ كُلُّهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْأُلُوهِيَّةِ الْوَاحِدَةِ . . كُلُّ تَنْظِيمَاتِهِ وَكُلُّ تَشْرِيعَاتِهِ تَنْبَثِقُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ . . وَكَمَا أَنَّ الشَّجَرَةَ الضَّخْمَةَ الْبَاسِقَةَ الْوَارِفَةَ الْمَدِيدَةَ الظِّلَالِ الْمُتَشَابِكَةَ الْأَغْصَانِ ، الضَّارِبَةَ فِي الْهَوَاءِ . . لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَضْرِبَ بِجُذُورِهَا فِي التُّرْبَةِ عَلَى أَعْمَاقٍ بَعِيدَةٍ ، وَفِي مِسَاحَاتٍ وَاسِعَةٍ ; تُنَاسِبُ ضَخَامَتَهَا وَامْتِدَادَهَا فِي الْهَوَاءِ . . فَكَذَلِكَ هَذَا الدِّينُ . . إِنَّ نِظَامَهُ يَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ كُلَّهَا ; وَيَتَوَلَّى شُؤُونَ الْبَشَرِيَّةِ كَبِيرَهَا وَصَغِيرَهَا ; وَيُنَظِّمُ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ لَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا ، وَلَكِنْ كَذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةَ ; وَلَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَحْدَهُ وَلَكِنْ كَذَلِكَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الْمَكْنُونِ عَنْهَا ; وَلَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَادِّيَّةِ ، وَلَكِنْ فِي أَعْمَاقِ الضَّمِيرِ وَدُنْيَا السَّرَائِرِ وَالنَّوَايَا . . فَهُوَ مُؤَسَّسَةٌ ضَخْمَةٌ هَائِلَةٌ شَاسِعَةٌ مُتَرَامِيَةٌ . . وَلَا بُدَّ لَهُ إِذَنْ مِنْ جُذُورٍ وَأَعْمَاقٍ بِهَذِهِ السِّعَةِ وَالضَّخَامَةِ وَالْعُمْقِ وَالِانْتِشَارِ أَيْضًا . .
هَذَا جَانِبٌ مِنْ سِرِّ هَذَا الدِّينِ وَطَبِيعَتِهِ ; يُحَدِّدُ مَنْهَجَهُ فِي بِنَاءِ نَفْسِهِ وَفِي امْتِدَادِهِ ; وَيَجْعَلُ بِنَاءَ الْعَقِيدَةِ وَتَمْكِينَهَا ، وَشُمُولَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَاسْتِغْرَاقَهَا لِشِعَابِ النَّفْسِ كُلِّهَا . . ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ النَّشْأَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَضَمَانًا مِنْ ضَمَانَاتِ الِاحْتِمَالِ وَالتَّنَاسُقِ بَيْنَ الظَّاهِرِ مِنَ الشَّجَرَةِ فِي الْهَوَاءِ ، وَالضَّارِبِ مِنْ جُذُورِهَا فِي الْأَعْمَاقِ . .
وَمَتَى اسْتَقَرَّتْ عَقِيدَةُ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فِي أَعْمَاقِهَا الْغَائِرَةِ الْبَعِيدَةِ ، اسْتَقَرَّ مَعَهَا فِي نَفْسِ الْوَقْتِ النِّظَامُ الَّذِي تَتَمَثَّلُ فِيهِ : "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَتَعَيَّنَ أَنَّهُ النِّظَامُ الْوَحِيدُ الَّذِي تَرْتَضِيهِ النُّفُوسُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِيهَا الْعَقِيدَةُ . . وَاسْتَسْلَمَتْ هَذِهِ النُّفُوسُ ابْتِدَاءً لِهَذَا النِّظَامِ حَتَّى قَبْلَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهَا تَفْصِيلَاتُهُ ، وَقَبْلَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهَا تَشْرِيعَاتُهُ . فَالِاسْتِسْلَامُ ابْتِدَاءً هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ . . وَبِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِسْلَامِ تَلَقَّتِ النُّفُوسُ تَنْظِيمَاتِ الْإِسْلَامِ وَتَشْرِيعَاتِهِ بِالرِّضَى وَالْقَبُولِ ، لَا تَعْتَرِضُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَوْرَ صُدُورِهِ إِلَيْهَا ; وَلَا تَتَلَكَّأُ فِي تَنْفِيذِهِ بِمُجَرَّدِ تَلَقِّيهَا لَهُ . وَهَكَذَا أُبْطِلَتِ الْخَمْرُ ، وَأُبْطِلَ الرِّبَا ، وَأُبْطِلَ الْمَيْسِرُ ، وَأُبْطِلَتِ الْعَادَاتُ الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا ، أُبْطِلَتْ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، أَوْ كَلِمَاتٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَمَا الْحُكُومَاتُ الْأَرْضِيَّةُ تُجْهِدُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بِقَوَانِينِهَا وَتَشْرِيعَاتِهَا وَنُظُمِهَا وَأَوْضَاعِهَا ، وَجُنْدِهَا وَسُلْطَانِهَا ، وَدَعَايَتِهَا وَإِعْلَامِهَا . . فَلَا تَبْلُغُ إِلَّا أَنْ تَضْبُطَ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ ;
[ ص: 1010 ] بَيْنَمَا الْمُجْتَمَعُ يَعِجُّ بِالْمَنْهِيَّاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ !
وَجَانِبٌ آخَرُ مِنْ طَبِيعَةِ هَذَا الدِّينِ يَتَجَلَّى فِي هَذَا الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ . . إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَنْهَجٌ عَمَلِيٌّ حَرَكِيٌّ جَادٌّ . . جَاءَ لِيَحْكُمَ الْحَيَاةَ فِي وَاقِعِهَا ; وَيُوَاجِهَ هَذَا الْوَاقِعَ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِأَمْرِهِ . . يُقِرُّهُ أَوْ يُعَدِّلُهُ أَوْ يُغَيِّرُهُ مِنْ أَسَاسِهِ . . وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ لَا يُشَرِّعُ إِلَّا لِحَالَاتٍ وَاقِعَةٍ فِعْلًا ، فِي مُجْتَمَعٍ يَعْتَرِفُ ابْتِدَاءً بِحَاكِمِيَّةِ اللَّهِ وَحْدَهُ .
إِنَّهُ لَيْسَ نَظَرِيَّةً تَتَعَامَلُ مَعَ الْفُرُوضِ ! إِنَّهُ مَنْهَجٌ يَتَعَامَلُ مَعَ الْوَاقِعِ ! فَلَا بُدَّ أَوَّلًا أَنْ يَقُومَ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُقِرُّ عَقِيدَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ الْحَاكِمِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ ; وَيَرْفُضُ أَنْ يُقِرَّ بِالْحَاكِمِيَّةِ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; وَيَرْفُضُ شَرْعِيَّةَ أَيِّ وَضْعٍ لَا يَقُومُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ . .