( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) أي والعاشر مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم ، هو أن هذا الذي أدعوكم إليه من الدين القويم والشرع الحنيفي العذب المورد السائغ المشرب بما تلوته عليكم من هذه السورة ، المشتملة على هذه الوصايا التي لا يكابر ذو مسكة من عقل في حسنها وفضلها - أو - أن هذا القرآن الذي أدعوكم به إلى ما يحييكم : هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله تعالى ونيل سعادة الدنيا والآخرة - أشير إليه مستقيما ظاهر الاستقامة لا يضل سالكه ، ولا يهتدي تاركه فاتبعوه وحده ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهي كثيرة فتتفرق بكم عن سبيله ، بحيث يذهب كل منكم في سبيل ضلالة منها ينتهي بها إلى الهلكة ، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال ، وليس أمام تارك النور إلا الظلمات . وقد أضيف الصراط بهذا المعنى إلى الله تعالى ، إذ هو الذي شرعه . وإلى الدعاة إليه والسالكين له من النبيين وغيرهم في سورة الفاتحة . والظاهر أن إضافته هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المخاطب للناس بهذه الوصية وفعلها مسند إليه تعالى بضمير الغيبة . [ ص: 172 ] وقد جمع في هذه الوصية الجامعة بين الأمر بالحق والنهي عن مقابله وهو الباطل . قرأ حمزة ( والكسائي وإن هذا صراطي ) بكسر همزة " إن " والباقون بفتحها ، فأما كسرها فعلى أن الكلام مستأنف في بيان وصية هي أم الوصايا الجامعة لما قبلها ، ولغيرها - وأما الفتح فعلى تقدير لام التعليل فهو يقول : ولأجل أن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه ، عليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج ، وترجحون الهدى على الضلال .
أخرج أحمد ، ، والنسائي ، والبزار وأبو الشيخ ، والحاكم وأكثر مصنفي التفسير المأثور عن قال : عبد الله بن مسعود وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) وأخرج خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيما " ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : " وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ، ثم قرأ ( عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن أن رجلا سأله ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا ابن مسعود محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه الجنة ، وعن يمينه جواد ( بالتشديد جمع جادة وهي الطريق ) وعن يساره جواد ، وثم رجال يدعون من مر بهم ، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة . وروى أحمد ، ، والترمذي ، عن والنسائي النواس بن سمعان رضي الله عنه مرفوعا " " وأقول : إن هذا الواعظ هو ما يعبر عنه الناس بالوجدان والضمير . ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس هلم ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ( أي تدخله ) فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم
وقد أفرد الصراط المستقيم وهو سبيل الله ، وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل ما خالفه وهو كثير فيشمل الأديان الباطلة من مخترعة وسماوية محرفة ومنسوخة والبدع والشبهات ، وبها فسرهامجاهد هنا ، والمعاصي كما في حديث النواس بن سمعان وقد ، فإن التفرق في الدين الواحد هو جعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ، ويخطئون ما خالفه ، ويرمون أتباعه بالجهل والضلال ، أو الكفر أو الابتداع ، وذلك سبب لإضاعة الدين بترك طلب الحق المنزل فيه ، لأن كل شيعة فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيها ، لا في الحق لذاته ، والاستعانة على استبانته وفهم نصوصه ببحث أي عالم من العلماء بغير تعصب ولا تشيع ، والحق لا يمكن أن يكون وقفا محبوسا من عند الله تعالى على عالم معين وعلى أتباعه [ ص: 173 ] فكل باحث من العلماء يخطئ ويصيب . وهذا أمر قطعي ثابت بالعقل والنقل والإجماع ولكن جميع المتعصبين للمذاهب الملتزمين لها مخالفون له ، ومن كان كذلك لم يكن متبعا لصراط الله الذي هو الحق الواحد ، وهذا ظاهر فيهم ، فإنهم إذا دعوا إلى كتاب الله وإلى ما صح من سنة رسوله أعرضوا عنهما وآثروا عليهما قول أي مؤلف لكتاب منتم إلى مذاهبهم . نهى عن التفرق في صراط الحق وسبيله
ولما كان هو الحق الموحد لأهل الحق الجامع لكلمتهم ، وتوحيدهم وجمع كلمتهم هو الحافظ للحق المؤيد له والمعز لأهله - كان التفرق فيه بما ذكر سببا لضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم . فبهذا التفرق حل بأتباع الأنبياء السابقين ما حل من التخاذل والتقاتل والضعف وضياع الحق ، وقد اتبع المسلمون سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى حل بهم من الضعف والهوان ما يتألمون منه ويتململون ولم يردعهم عن ذلك ما ورد في التحذير منه في كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين ولا ما حل بهم من البلاء المبين ، ولم يبق بينهم وبين من قبلهم فرق إلا في أمرين : ( أحدهما ) حفظ القرآن من أدنى تغيير وأقل تحريف ، وضبط السنة النبوية بما لم يسبق له في أمة من الأمم نظير . ( وثانيهما ) وجود طائفة من أهل الحق في كل زمان تدعو إلى صراط الله وحده ، وتتبعه بالعمل والحجة ، كما بشر به صلى الله عليه وسلم . ولكن هؤلاء قد قلوا في القرون الأخيرة ، وكل صلاح وإصلاح في الإسلام متوقف على كثرتهم ، فنسأله تعالى أن يكثرهم في هذا الزمان ويجعلنا من أئمتهم فقد بلغ السيل الزبى . روى اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه في تفسيره عن ابن جرير في قوله : ( ابن عباس فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) وقوله : ( أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) ( 42 : 3 ) ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات .
وقد سبق لنا سبح طويل في بحر هذه المسألة يراجع في مواضعه كتفسير ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ( 3 : 103 ) وما بعدها في أوائل الجزء الرابع وتفسير ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ( 4 : 59 ) وتفسير ( رسلا مبشرين ومنذرين ) ( 4 : 165 ) وتفسير ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( 5 : 3 ) وتفسير ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا ) ( 6 : 65 ) وفيه بحث مستفيض في عذاب [ ص: 174 ] هذه الأمة وتداعي الأمم عليها وضعفها بالتفرق في الدين وغير ذلك مما يعلم من مظانه وفهارس أجزاء التفسير وسيعاد البحث فيه في تفسير : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( 159 ) من بعد بضع آيات .