( وبعهد الله أوفوا ) أي والتاسع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن توفوا بعهد الله دون ما خالفه ، وهو يشمل ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة رسله ، وبما آتاهم من العقل والوجدان والفطرة السليمة ، وما يعاهده الناس عليه ، وما يعاهد عليه بعضهم بعضا في الحق موافقا للشرع . قال تعالى : ( ولقد عهدنا إلى آدم ) ( 20 : 115 ) وقال : ( ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ) ( 36 : 60 ) وقال أيضا وهو من الثاني : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) ( 16 : 91 ) وقال : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) ( 2 : 100 ) وقال في صفات المؤمنين : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) ( 2 : 177 ) فكل ما وصى الله به وشرعه [ ص: 170 ] للناس فهو من عهده إليهم . ومن آمن برسول من رسله فقد عاهد الله - بالإيمان به - أن يمتثل أمره ونهيه . وما يلتزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد ربه عليه . كما قال في بعض المنافقين : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به ) ( 9 : 75 ، 76 ) إلخ . وكذلك من عاهد الإمام وبايعه على الطاعة في المعروف ، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع ، والسلطان يعاهد الدول - فكل ذلك مما يجب الوفاء به إذا لم يكن معصية ، ولكن لا يعد من عهد الله شيء من ذلك إلا إذا عقد باسمه أو بالحلف به ، وكذا تنفيذ شرعه .
ومن نكت البلاغة هنا ، وهو يدل على الحصر . ولما لم يظهر الحصر لبعض المفسرين جعلوا التقديم لمجرد الاهتمام الذي هو الأصل في كل ما يقدم على غيره في هذه اللغة ، وهذا عجز منهم ألجأهم إليه تفسيرهم للعهد ، بهذه الوصايا أو بكل ما عهد الله إلى الناس ، على أن تدخل هذه الوصايا فيه دخولا أوليا . والأول باطل ، والثاني قاصر . أما بطلان الأول ; فلأن الوفاء بالعهد من الوصايا المقصودة المعدودة وله معنى خاص ، فلا يصح أن يجعل عين ما قبله . وأما قصور الثاني ، فظاهر مما ذكرنا من سائر أنواع العهد بالشواهد من القرآن . فالعهد إذا عام لكل ما شرع الله للناس ، وكل ما التزمه الناس مما يرضيه ويوافق شرعه ، ويقابله ما لا يرضي الله من عهد كنذر الحرام ، والحلف على فعله ، ومعاهدة الحربيين وغيرهم على ما فيه ضرر للأمة وهضم لمصالحها ، أو غير ذلك من المعاصي . فحصر الله الأمر بالوفاء في الأول الذي يرضيه ليخرج منه هذا الأخير الذي يسخطه . ونكتفي من السنة في تعظيم شأن هذه الوصية بحديث تقديم معمول الفعل " أوفوا " عليه المرفوع في الصحيحين وغيرهما : " عبد الله بن عمرو ، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها - إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر أربع من كن فيه كان منافقا خالصا " .
( ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( تذكرون ) مخففة من الذكر ، والباقون بالتشديد من التذكير ، وأصله تتذكرون ، وليس معناهما واحدا كما قيل ; فإن الصيغ من المادة الواحدة تعطي معاني خاصة ويتجوز في بعضها ما لا يصح في بعض ، فالذكر يطلق في الأصل على إخطار معنى الشيء أو خطوره في الذهن ويسمى ذكر القلب ، وعلى النطق باللفظ الدال عليه ويسمى ذكر اللسان ، ويستعمل مجازا بمعنى الصيت والشرف ، وفسر به قوله تعالى ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ( 43 : 44 ) ويطلق بمعنى العلم وبه يسمى القرآن وغيره من الكتب الإلهية ذكرا ، ومنه ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [ ص: 171 ] وأما التذكر فمعناه تكلف ذكر الشيء في القلب ، أو التدرج فيه بفعله المرة بعد المرة ، ويطلق على الاتعاظ ومنه قوله تعالى : ( وما يتذكر إلا من ينيب ) ( 40 : 13 ) وقوله : ( سيذكر من يخشى ) ( 87 : 10 ) والشواهد عليه في الذكر كثيرة ، ومثله الادكار ( فهل من مدكر ) وهو افتعال من الذكر ، والافتعال يقرب من التفعل . وحكمة القراءتين إفادة المعاني التي تدلان عليها من باب الإيجاز البليغ .
والمعنى : ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي - البعيدة مدى الفائدة ومسافة المنفعة لمن قام بها - وصاكم الله به في كتابه رجاء أن تذكروا في أنفسكم ما فيها من الصلاح لكم ، فيحملكم ذلك على العمل بها ، أو رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به بمثل قوله : ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) ( 103 : 3 ) ولكل من الذكر النفسي واللساني وجه هنا ، ولا مانع من الجمع بينهما على مذهب الشافعية المختار عندنا - وكذا الجمع بينهما وبين معاني التذكر في القراءة الأخرى ، والمعنى على هذه القراءة : وصاكم به رجاء أن يتكلف ذكر هذه الوصايا وما فيها من المصالح والمنافع من كان كثير النسيان والغفلة أو كثير الشواغل الدنيوية - أو رجاء أن يتذكرها المرة بعد المرة من أراد الانتفاع بها بتلاوة آياتها في الصلاة وغيرها وبغير ذلك - أو رجاء أن يتعظ بها من سمعها وقرأها أو ذكرها أو ذكر بها ، وبعض هذه الوجوه عام يطلب من كل مسلم ، وبعضها خاص . وابن جرير