قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى
استئناف ثالث ، مفتتح بالأمر بالقول ، يتنزل منزلة النتيجة لما قبله ، لأنه لما علم أن الله هداه إلى صراط مستقيم ، وأنقذه من الشرك ، وأمره بأن يمحض عبادته وطاعته لربه تعالى ، شكرا على الهداية ، أتبع ذلك بأن ينكر أن يعبد غير الله تعالى لأن واهب النعم هو مستحق الشكر ، والعبادة جماع مراتب الشكر ، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عبدوا غيره . وإعادة الأمر بالقول تقدم بيان وجهه .
[ ص: 206 ] والاستفهام إنكار عليهم لأنهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم ، وقد حاولوا من ذلك غير مرة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه ، فهم دائمون على الرغبة في موافقتهم على دينهم ، حكى ابن عطية عن النقاش أن الكفار قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك وأن هذه الآية نزلت في ذلك .
وقدم المفعول على فعله لأنه المقصود من الاستفهام الإنكاري ، لأن محل الإنكار هو أن يكون غير الله يبتغى له ربا ، ولأن ذلك هو المقصود من الجواب إذا صح أن المشركين دعوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجب أو لموجبين ، كما تقدم في قوله تعالى : قل أغير الله أتخذ وليا في هذه السورة .
وجملة : وهو رب كل شيء في موضع الحال ، وهو الحال معلل للإنكار ، أي أن الله خالق كل شيء وذلك باعترافهم ، لأنهم لا يدعون أن الأصنام خالقة لشيء ، ، كما قال تعالى : لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له فلما كان الله خالق كل شيء وربه فلا حق لغيره في أن يعبده الخلائق وعبادة غيره ظلم عظيم ، وكفر بنعمه ، لأن الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم ، فإن مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبودية .
وإنما قيل " وهو رب كل شيء " ، ولم يقل : وهو ربي ، لإثبات أنه ربه بطريق الاستدلال لكونه إثبات حكم عام يشمل حكم المقصود الخاص ، ولإفادة أن أربابهم غير حقيقة بالربوبية أيضا لله تعالى .
وقوله : " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " من القول المأمور به ، مفيد متاركة للمشركين ومقتا لهم بأن عنادهم لا يضره ، فإن ما اقترفوه من [ ص: 207 ] الشرك لا يناله منه شيء فإنما كسب كل نفس عليها ، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم . فالتعليم في الحكم الواقع في قوله : " كل نفس " فائدته مثل فائدة التعميم الواقع في قوله : وهو رب كل شيء .
ودلت كلمة " على " على أن مفعول الكسب المحذوف تقديره : شرا ، أو إثما ، أو نحو ذلك ، لأن شأن المخاطبين هو اكتساب الشر والإثم كقوله : ما عليك من حسابهم من شيء ولك أن تجعل في الكلام احتباكا لدلالة الثاني وبالعكس إذا جريت على أن " كسب " يغلب في تحصيل الخير ، وأن اكتسب يغلب في تحصيل الشر ، سواء اجتمع الفعلان أم لم يجتمعا . ولا أحسب بين الفعلين فرقا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . والمعنى : أن ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره .
وقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى تكملة لمعنى قوله : " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " فكما أن ما تكسبه نفس لا يتعدى منه شيء إلى غيرها ، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئا ، والمعنى : ولا أحمل أوزاركم .
فقوله : " وازرة " صفة لموصوف محذوف تقديره : نفس ، دل عليه قوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى .
والوزر : الحمل ، وهو ما يحمله المرء على ظهره ، قال تعالى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : [ ص: 208 ] وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون . وأما تسمية الإثم وزرا فلأنه يتخيل ثقيلا على نفس المؤمن . فمعنى ولا تزر وازرة لا تحمل حاملة ، أي لا تحمل نفس حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها ، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئا تحمله عنها . أي كل نفس تزر وزر نفسها ، فيفيد أن وزر كل أحد عليه وأنه لا يحمل غيره عنه شيئا من وزره الذي وزره ، وأنه لا تبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق ، فلا تغني نفس عن نفس شيئا ، ولا تتبع نفس بإثم غيرها ، فهي إن حملت لا تحمل حمل غيرها . وهذا إتمام لمعنى المشاركة .