استئناف ، أيضا ، يتنزل منزلة التفريع عن الأول ، إلا أنه استؤنف للإشارة إلى أنه غرض مستقل مهم في ذاته ، وإن كان متفرعا عن غيره ، وحاصل ما تضمنه هو الإخلاص لله في العبادة ، وهو متفرع عن التوحيد ، [ ص: 201 ] ولذلك قيل : الرياء الشرك الأصغر . علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله عقب ما علمه بما ذكر قبله لأن المذكور هنا يتضمن معنى الشكر لله على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ، فإنه هداه ثم ألهمه الشكر على الهداية بأن يجعل جميع طاعته وعبادته لله تعالى . وأعيد الأمر بالقول لما علمت آنفا .
وافتتحت جملة المقول بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر ولتحقيقه ، أو لأن المشركين كانوا يزعمون أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يرائي بصلاته ، فقد الكعبة : ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها وسلاها فإذا سجد وضعه بين كتفيه . فتكون إن على هذا لرد الشك . قال بعض المشركين لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند
واللام في لله يجوز أن تكون للملك ، أي هي بتيسير الله فيكون بيانا لقوله إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم . ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي لأجل الله جعل صلاته لله دون غيره تعريضا بالمشركين إذ كانوا يسجدون للأصنام . ولذلك أردف بجملة لا شريك له .
والنسك حقيقته العبادة ومنه يسمى العابد الناسك .
والمحيا والممات يستعملان مصدرين ميميين ، ويستعملان اسمي زمان ، من حيي ومات ، والمعنيان محتملان فإذا كان المراد من المحيا والممات المعنى المصدري ، كان المعنى على حذف مضاف تقديره : أعمال المحيا وأعمال الممات ، أي الأعمال التي من شأنها أن يتلبس بها المرء مع حياته ، ومع وقت مماته . وإذ كان المراد منهما المعنى الزمني كان المعنى ما يعتريه في الحياة وبعد الممات .
[ ص: 202 ] ثم إن أعمال الحياة كثيرة وفيرة ، وأما الأعمال عند الموت فهي ما كان عليه في مدة الحياة وثباته عليه ، لأن حالة الموت أو مدته هي الحالة أو المدة التي ينقلب فيها أحوال الجسم إلى صفة تؤذن بقرب انتهاء مدة الحياة وتلك حالة الاحتضار ، وتلك الحالة قد تؤثر انقلابا في الفكر أو استعجالا بما لم يكن يستعجل به الحي ، فربما صدرت عن صاحبها أعمال لم يكن يصدرها في مدة الصحة ، اتقاء أو حياء أو جلبا لنفع ، فيرى أنه قد يئس مما كان يراعيه ، فيفعل ما لم يكن يفعل ، وأيضا لتلك الحالة شئون خاصة تقع عندها في العادة مثل الوصية ، وهذه كلها من أحوال آخر الحياة . ولكنها تضاف إلى الموت لوقوعها بقربه ، وبهذا يكون ذكر الممات مقصودا منه استيعاب جميع مدة الحياة حتى زمن الإشراف على الموت .
ويجوز أن يكون المراد من الممات ما يحصل للرسول - عليه الصلاة والسلام - بعد وفاته من توجهاته الروحية نحو أمته بالدعاء لهم والتسليم على من سلم عليه منهم والظهور لخاصة أمته في المنام ، فإن للرسول بعد مماته أحكام الحياة الروحية الكاملة كما ورد في الحديث : وكذلك أعماله في الحشر من الشفاعة العامة والسجود لله في عرصات القيامة فتلك أعمال خاصة به - صلى الله عليه وسلم - وهي كلها لله تعالى لأنها لنفع عبيده أو لنفع أتباع دينه الذي ارتضاه لهم ، فيكون قوله : ومماتي هنا ناظرا إلى قوله في الحديث : إذا سلم علي أحد من أمتي رد الله علي روحي فرددت عليه السلام . حياتي خير لكم ومماتي خير لكم
ويجوز أن يكون معنى مماته لله الشهادة في سبيل الله ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمته اليهودية بخيبر في لحم شاة أطعموه إياه حصل بعض منه في أمعاءه . ففي الحديث [ ص: 203 ] ما زالت أكلة خيبر تعتادني كل عام حتى كان هذا أوان قطع أبهري .
وبقوله : ومحياي ومماتي لله رب العالمين تحقق معنى الإسلام الذي أصله الإلقاء بالنفس إلى المسلم له ، وهو المعنى الذي اقتضاه قوله : فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن كما تقدم في سورة آل عمران ، وهو معنى الحنيفية الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في قوله : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين كما في سورة البقرة : وقوله : رب العالمين صفة تشير إلى سبب استحقاقه أن يكون عمل مخلوقاته له لا لغيره ، لأن ليس له عليهم نعمة الإيجاد ، كما أشار إليه قوله في أول السورة : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون .
وجملة : " لا شريك له " حال من اسم الجلالة مصرحة بما أفاد جمع التوكيد مع لام الملك من إفادة القصر . والمقصود من الصفة والحال الرد على المشركين بأنهم ما أخلصوا عملهم للذي خلقهم . وبأنهم أشركوا معه غيره في الإلهية .
وقرأ نافع : " ومحياي " بسكون الياء الثانية إجراء للوصول مجرى الوقف وهو نادر في النثر ، والرواية عن نافع أثبتته في هذه الآية ، ومعلوم أن الندرة لا تناكد الفصاحة ولا يريبك ما ذكره ابن عطية عن أبي علي الفارسي : أنها شاذة عن القياس لأنها جمعت بين ساكنين ؛ لأن سكون الألف قبل حرف ساكن ليس مما يثقل في النطق نحو عصاي ورؤياي . ووجه إجراء الوصل مجرى الوقف هنا إرادة التخفيف لأن توالي يائين مفتوحتين [ ص: 204 ] فيه ثقل ، والألف الناشئة عن الفتحة الأولى لا تعد حاجزا فعدل عن فتح الياء الثانية إلى إسكانها . وقرأه البقية بفتح الياء وروي ذلك عن ورش ، وقال بعض أهل القراءة أن نافعا رجع عن الإسكان إلى الفتح .
وجملة " وبذلك أمرت " عطف على جملة إن صلاتي . . . إلخ . فهذا مما أمر بأن يقوله ، وحرف العطف ليس من المقول .
والإشارة في قوله : " وبذلك " إلى المذكور من قوله : " إن صلاتي ونسكي " . . . إلخ ، أي أن ذلك كان لله بهدي من الله وأمر منه ، فرجع إلى قوله : " إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم " يعني أنه كما هداه أمره بما هو شكر على تلك الهداية ، وإنما أعيد هنا لأنه لما أضاف الصلاة وما عطف عليها لنفسه وجعلها لله تعالى أعقبها بأنه هدى من الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين .
وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالمشار إليه .
وقوله : وأنا أول المسلمين مثل قوله وبذلك أمرت خبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو لازم معناه ، يعني قبول الإسلام والثبات عليه والاغتباط به ، لأن من أحب شيئا أسرع إليه فجاءه أول الناس ، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكن والترجح ، كما قال النابغة :
سبقت الرجال الباهشين إلى العلا كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد
لا يريد أنه كان في المعالي أقدم من غيره لأن في أهل المعالي من هو أكبر منه سنا ، ومن نال العلا قبل أن يولد الممدوح ، ولكنه أراد أنه تمكن من نوال العلا وأصبح الحائز له والثابت عليه .وفي الحديث : . وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطمع في التنازل لهم في دينهم ولو أقل تنازل . ومن استعمال " أول " [ ص: 205 ] في مثل هذا قوله تعالى : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ولا تكونوا أول كافر به ، كما تقدم في سورة البقرة . وليس المراد معناه الصريح لقلة جدوى الخبر بذلك ، لأن كل داع إلى شيء فهو أول أصحابه لا محالة ، فماذا يفيد ذلك الأعداء والأتباع ، فإن أريد بالمسلمين الذين اتبعوا حقيقة الإسلام بمعنى إسلام الوجه إلى الله تعالى لم يستقم ، لأن إبراهيم عليه السلام كان مسلما وكان بنوه مسلمين ، كما حكى الله عنهم إذ قال إبراهيم عليه السلام : فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
وقرأ نافع وأبو جعفر بإثبات ألف أنا إذا وقعت بعدها همزة ويجري مدها على قاعدة المد ، وحذفها تخفيفا جرى عليه العرب في الفصيح من كلامهم نحو : أنا يوسف واختلفوا فيه قبل الهمزة نحو أنا أفعل ، وأحسب أن الأفصح إثباتها مع الهمز للتمكن من المد .