ووصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم .
وذكر الألوسي أنها تسمى الأمان ، والكنز والمجادلة ، وسورة الاستغفار . ولم أره لغيره ، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي ، في المسألة الثالثة والرابعة ، من تفسير أول السورة .
وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتفاق ، بعد سورة البقرة ، فقيل أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا ، ثم البقرة ، ثم نزلت سورة آل عمران ، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر ، وهذا يقتضي أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر ، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في [ ص: 144 ] وقعة بدر ، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر ، وأن فيها ذكر يوم أحد ، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، عن المفسرين أن أول هذه السورة إلى قوله ونحن له مسلمون نزل بسبب وفد نجران ، وهو وفد السيد والعاقب ، أي سنة اثنتين من الهجرة ، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في وقعة أحد ، أي شوال سنة ثلاث ، وهذا أقرب ، فقد اتفق المفسرون على أن قوله تعالى وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال أنه قتال يوم أحد . وكذلك قوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبيء - صلى الله عليه وسلم - .
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إليه حديث وفد نجران ، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله وإذ غدوت من أهلك قاله القرطبي في أول السورة ، وفي تفسير قوله ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية . وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إننا بينا إمكان تقارن نزول سور عدة في مدة واحدة ، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا ، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى ، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها .
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن .
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون .
واشتملت هذه السورة ، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتقسيم آيات القرآن ، ومراتب الأفهام في تلقيها ، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين ، وأنه لا يقبل دين عند الله ، بعد ظهور الإسلام ، غير الإسلام ، والتنويه بالتوراة والإنجيل ، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به ، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى ، وانفراده ، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله : من جعلوا له [ ص: 145 ] شركاء ، أو اتخذوا له أبناء ، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال ، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك ، وتهديدهم بزوال سلطانهم ، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته ، وذكر معجزة ظهوره ، وأنه مخلوق لله ، وذكر الذين آمنوا به حقا ، وإبطال إلهية عيسى ، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنيفية وأنهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم . وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتحاد والوفاق ، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدو ، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم ، ثم ذكرهم بيومأحد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله .
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن .
ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية ، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح ، وفيهم رهبان مشاهير ، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليـ ـك حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب - فيه ستون رجلا - واسمه عبد المسيح ، وهو أمير الوفد ، ومعه السيد واسمه الأيهم ، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد ، ومشيره وذو [ ص: 146 ] الرأي فيه ، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدراسهم وولي دينهم ، وفيهم أخو أبي حارثة ، ولم يكن من أهل نجران ، ولكنه كان ذا رتبة : شرفه ملوك الروم ومولوه . فلقوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - وجادلهم في دينهم ، وفي شأن ألوهية المسيح ، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا ، فدعاهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة ، فأجابوا ثم استعظموا ذلك ، وتخلصوا منه ، ورجعوا إلى أوطانهم ، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن . وذكر ذلك ابن إسحاق الواحدي والفخر ، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهم وهما انجر إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود . والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات ، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود .