يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيا من قول المؤمنين الذين قالوا : سمعنا وأطعنا بأن اتبعوا القبول والرضا ، فتوجهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى ، واختيار حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها ، ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم بأن يقولوا هذا الدعاء ، مثل ما لقنوا التحميد في سورة الفاتحة ، فيكون [ ص: 140 ] التقدير : قولوا : ربنا لا تؤاخذنا إلى آخر السورة ، إن الله بعد أن قرر لهم أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، لقنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع ، والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا ينسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .
والمؤاخذة مشتقة من الأخذ بمعنى العقوبة ، كقوله : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة والمفاعلة فيه للمبالغة أي : لا تأخذنا بالنسيان والخطأ .
والمراد ما يترتب على النسيان والخطأ من فعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى .
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أن الله رفع عنهم ذلك بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وفي رواية " وضع " ، رواه رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وتكلم العلماء في صحته ، وقد حسنه ابن ماجه النووي ، وأنكره أحمد ، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى خطاب الوضع ، فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ، ولذلك جاء في هذه الدعوة لا تؤاخذنا أي : لا تؤاخذنا بالعقاب على فعل : نسيان أو خطأ ، فلا يرد إشكال الدعاء بما علم حصوله ، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأن المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في الكشاف .
وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا إلخ ، فصل بين الجملتين المتعاطفتين بإعادة النداء ، مع أنه مستغنى عنه لأن مخاطبة المنادى مغنية عن إعادة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلل ، والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس ، وهو مناسب لاستعارة الإصر .
وأصل معنى الإصر ما يؤصر به أي يربط ، وتعقد به الأشياء ، ويقال له : الإصار - بكسر الهمزة - ثم استعمل مجازا في العهد والميثاق المؤكد فيما يصعب الوفاء به ، ومنه قوله في آل عمران : ( قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) وأطلق أيضا على ما يثقل عمله ، والامتثال فيه ، وبذلك فسره الزجاج هنا وفي قوله ، في [ ص: 141 ] سورة الأعراف : والزمخشري ويضع عنهم إصرهم وهو المقصود هنا ، ومن ثم حسنت استعارة الحمل للتكليف ; لأن الحمل يناسب الثقل فيكون قوله ولا تحمل ترشيحا مستعارا لملائم المشبه به وعن ابن عباس ولا تحمل علينا إصرا عهدا لا نفي به ، ونعذب بتركه ونقضه .
وقوله : كما حملته على الذين من قبلنا صفة لـ " إصرا " أي : عهدا من الدين كالعهد الذي كلف به من قبلنا في المشقة ، مثل ما كلف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة ، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك ، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات ، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم ، قال تعالى في صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويضع عنهم إصرهم .
وقوله : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي : ما لا نستطيع حمله من العقوبات ، والتضعيف فيه للتعدية ، وقيل : هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة ، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم ، والطاقة في الأصل الإطاقة خففت بحذف الهمزة كما قالوا : جابة وإجابة ، وطاعة وإطاعة .
والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله ربنا لا تؤاخذنا .
وقوله : واعف عنا واغفر لنا لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله " ربنا " ، إما لأنه تكرر ثلاث مرات ، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلا في مقام التهويل ، وإما لأن تلك الدعوات المقترنة بقوله " ربنا " فروع لهذه الدعوات الثلاث ، فإن استجيبت تلك حصلت إجابة هذه بالأولى ، فإن العفو أصل لعدم المؤاخذة ، والمغفرة أصل لرفع المشقة ، والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلما كان تعميما بعد تخصيص كان كأنه دعاء واحد .
وقوله : أنت مولانا فصله لأنه كالعلة للدعوات الماضية ، أي : دعوناك ورجونا منك ذلك لأنك مولانا ، ومن شأن المولى الرفق بالمملوك ، وليكون هذا أيضا كالمقدمة للدعوة الآتية .
[ ص: 142 ] وقوله : فانصرنا على القوم الكافرين جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى ، لأن شأن المولى أن ينصر مولاه ، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي :
رأيت موالي الألى يخذلونني على حدثان الدهر إذ يتقلب
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر ، لأنهم جعلوه مرتبا على وصف محقق ، وهو ، قال تعالى : ولاية الله تعالى المؤمنين الله ولي الذين آمنوا وفي حديث أحد لما قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - أجيبوه : الله مولانا ولا مولى لكم ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنها دعوة جامعة لخيري الدنيا والآخرة ، لأنهم إذا نصروا على العدو ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم ، وسلموا من الفتنة ، ودخل الناس فيه أفواجا . يومفي الصحيح ، عن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي مسعود الأنصاري البدري في ليلة كفتاه الآيتين من آخر سورة البقرة وهما من قوله تعالى : من قرأ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه إلى آخر السورة ، قيل : معناه كفتاه عن قيام الليل ، فيكون معنى من قرأ من صلى بهما ، وقيل : معناه كفتاه بركة وتعوذا من الشياطين والمضار ، ولعل كلا الاحتمالين مراد .