وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رواه "ألا تسمعون ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان" أبو داود.
المراد ب: "البذاذة" لبس الثوب الخلق، وعدم التكلف في الثياب.
يعني: إن من يريد الآخرة، ويهوى نعيمها، لا يختار التزين في الدنيا، ويراه لا فائدة فيه، فيلبس ما يجد من الثياب، رثة كانت أو خلقة أو مرقعة، ومن يريد الدنيا يتكلف لها. والأول من الإيمان، والآخر من علامة الخذلان.
ويزيده إيضاحا، حديث سويد بن وهب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه يرفعه: وفي رواية: "من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه"، الحديث. رواه تواضعا، كساه الله حلة الكرامة" أبو داود.
وروى منه، عن الترمذي حديث اللباس، وجهالة الصحابي لا تضر. والحديث يصلح للاحتجاج به. معاذ بن جبل
وفيه: وأن صاحبه يلبس حلة الإكرام يوم القيام. فضيلة "البذاذة"، وترك اللباس الفاخر مع القدرة،
وهذا يشير إلى أن قال في "المرقاة": البذاذة: رثاثة الهيئة، وترك ما يدخل في باب الزينة. الإفراط في التزين ينافي الكرامة عند الله تعالى.
والمراد بالحديث: أن التواضع في اللباس، والتوقي عن الفائق في الزينة من أخلاق أهل الإيمان، وهو الباعث عليه.
ففيه: اختيار الفقر والكسر، فلبس الخلق من الثياب من خلق المؤمنين بالكتاب، انتهى.
وعن عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن شعيب أخرجه "كلوا، [ ص: 463 ] واشربوا، وتصدقوا، والبسوا، ما لم يخالط إسراف ولا مخيلة" أحمد، والنسائي، وابن ماجه.
يعني: يجوز الأكل والشرب، والصدقة، واللباس، إذا خلت عن السرف، والكبر.
وهذا إذا لم يتلف حق أحد في الدنيا والدين، وإلا لم يجز ذلك، ويكون عاصيا لله، مستحقا لما عليه من العقاب.
ويؤيده حديث عبد الله بن بريدة، قال: لفضالة بن عبيد: ما لي أراك شعثا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن كثير من الإرفاه. قال: ما لي لا أرى عليك حذاء؟ (أي: نعلا؟) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأمرنا أن نحتفي أحيانا. رواه قال رجل أبو داود.
فيه: الإرشاد إلى الزهد، وإيثاره على الرفاهية؛ لأن الإرفاه علامة حب الدنيا، وحبها يحرم الآدمي عن نعيم الآخرة.
فينبغي ألا يسترسل فيه، ويقدم البذاذة على التكلف في اللباس، ويحتفي أحيانا، اتباعا للسنة السنية، وإزالة لعادة الإرفاه.
وقد قال تعالى حكاية عنه صلى الله عليه وسلم وما أنا من المتكلفين [ص: 84]، وكان لا يرتضي زي أهل الترف، ويحب عدم التكلف في كل شيء.
فمن التزم التزين في كل حال، فقد خالف السنة.
ومن ترك الصفا والطهارة بالكلية، فقد خالف السنة أيضا، كما يفعله الفقراء الجهلة، والصوفية المبتدعة، من التزام لبس الخشن، وأكل الطعام الرديء، بل الحق بين الغالي والمقصر:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وعن سفينة مولى أم سلمة: أي: نزل [ ص: 464 ] عليه شخص ضيف، فصنع له طعاما، فقالت علي بن أبي طالب؛ لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوه، فجاء، فوضع يديه على عضادتي الباب، فرأى القرام قد ضرب في ناحية البيت، فرجع. قالت فاطمة: فتبعته فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما ردك؟ قال: "إنه ليس لي، أو لنبي، أن يدخل بيتا مزوقا؛ أي: مزينا منقشا. فاطمة: رواه أن رجلا أضاف أحمد، وابن ماجه.القرام: ثوب رقيق من صوف، فيه ألوان من الصور، والرقوم، والنقوش، يتخذ سترا يغشى به الأقمشة والهوادج، كما في كتاب "الإدراك".
تأمل في هذا الحديث، وأدرك أن سيد الرسل لم يدخل في بيت سيدة النساء؛ لكون هذا الثوب المنقش في ناحية منه، فثبت بهذا: أن تزويق البيوت، وتعليق الأقمشة الزجاجية، وإرخاء الستور المزينة، والسرادق الفاخرة، والبسط النفيسة، والكراسي الملمعة، والفوانيس اللامعة، والأشجار المزينة، ونحوها فيها، ليس من أخلاق أهل الدين، ولا يرتضيها سيد المرسلين، ينبغي للمتقي ألا يدخل بيتا فيه كذا وكذا، وقد كسيت جدرانها وعمادها باللباس وأنواع الثياب.
وقد سواء كان هذا البيت بيت السكنى، أو الديوان، أو المقبرة، أو المسجد، أو دار الفقير، أو مجلس أمير. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكسو الحجارة والطين،
ومما ينعى به على الإسلام اليوم، إفراط الناس في تزيين الأمكنة والأمتعة، حتى المساجد التي بنيت للذكر والعبادة، فقد بالغوا في تشييدها وزخرفتها، كما كانت اليهود والنصارى تفعل.
وعمت بهذه البدعات، والمنكرات البلوى في الملة الإسلامية، أخذا من أهل الكتاب، ومن الهنود الذين يزوقون معابدهم الكفرية، ويحلونها بأنواع من الحلل والزينة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يا أيها المسلمون! بالله عليكم، قولوا لنا: هل هذا هو الإسلام الذي جاء به [ ص: 465 ] رسولكم من عند الله، أم هذا مشاقة صريحة، ومضادة واضحة، مع الله ورسوله؟
وهل وقفتم على دليل يدل على جواز هذه المهلكات الموبقات، أم هذه دواوين الإسلام في السنة المطهرة تنادي بأعلى صوت، بأن هذه كلها من المنكرات والمحدثات.
وفيه: من سرف المال وبذل ذات اليد، والتبذير في معاصي الله، ما لا يقادر قدره.
هؤلاء غرباء الإسلام، وفقراء المسلمين، من العلماء، والصلحاء، يبيتون جائعين عاطشين، لا يقدرون على قوت في اليوم والليلة، ولا يجدون ما يسترون به سوءاتهم، وأنتم ترون أولئك، والحالة هذه، فلا تعطونهم ما يتمكنون به من شبع البطن، وري الكبد، وغطاء البدن العاري، وإنما تبذلون ما فضل من أموالكم في تحسين الديار والبيوت، وتكلف اللباس والقوت، وتزيين الحياة الدنيا، التي تفنى وتموت.
كيف تكون عاقبة أمركم، ونهاية صنعكم؟ ألستم مصداق قوله تعالى: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [الكهف: 104].
أليس إلى الله مصيركم، فمن نصيركم، وفي القبر مقيلكم، فما قيلكم؟
اقرؤوا كتاب "الرقاق" من كتب السنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خيرة الأمة، وعترته صفوة الملة، من العيش.
وتذكروا، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، إن كان بقي فيكم بقية من الحياء والإيمان، وإلا، فالله هو المستعان.
وعن قالت: عائشة أي: فضلا من أن تكون من أرباب الدنيا؛ لأن مجالستهم تجر إلى محبة الشهوات واللهوات، ولذا [ ص: 466 ] قيل: "لا تنظر إلى أرباب الدنيا؛ فإن بريق أموال الأغنياء يذهب بروق حلاوة الفقراء". وفيه تحريض لها على القناعة باليسير. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إن أردت اللحوق بي، فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء"؛
أي: تخيطي عليه رقعة، ثم تلبسيه. ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه"؛
وفيه حث لها على الاكتفاء بالثوب الحقير، والتشبه بالمسكين الفقير. رواه وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الترمذي، صالح بن حسان.
قال - رضي الله عنه -: محمد بن إسماعيل البخاري صالح منكر الحديث.
وفي الجملة: فيه دلالة على وإرشاد إلى ترقيع الثوب، وأنه لا يخلق إلى أن يرقع، فإذا رقع، فقد صار خلقا. إيثار الزهد في الدنيا، والبعد عن مصاحبة أهلها الأغنياء،
قال بعض أهل العلم: دل الحديث على أن جمع أسباب الدنيا والاستنكاف من لبس الثوب الخلق المرقع، والجلوس عند أهل الثروة والغنى، ليس بفضيلة لا سيما في حق العلماء والمشايخ الصلحاء.