[ ص: 480 ] سورة البينة قال شيخ الإسلام رحمه الله فصل في قوله تعالى .
nindex.php?page=treesubj&link=29069 { nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } .
فإن هذه السورة سورة جليلة القدر وقد ورد فيها فضائل . وقد ثبت في الصحيح أن الله أمر نبيه أن يقرأها على
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب . ففي الصحيحين عن
أنس بن مالك عن {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597884رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي : إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن . قال : آلله سماني لك ؟ قال : الله سماك لي قال : فجعل أبي يبكي } . وفي رواية أخرى : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597885إن الله أمرني أن أقرأ عليك . { nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا } . قال : سماني لك ؟ قال : نعم . فبكى } . وفي رواية
للبخاري : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597886وذكرت عند رب العالمين ؟ قال : نعم . فذرفت عيناه . } قال
قتادة : أنبئت
[ ص: 481 ] أنه قرأ عليه {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } . وتخصيص هذه السورة بقراءتها على
أبي يقتضي اختصاصها وامتيازها بما اقتضى ذلك .
وقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597887أن أقرأ عليك } أي قراءة تبليغ وإسماع وتلقين ليس هي قراءة تلقين في تصحيح كما يقرأ المتعلم على المعلم . فإن هذا قد ظنه بعضهم وجعلوا هذا من باب التواضع . وجعل
أبو حامد هذا مما يستدل به على تواضع المتعلم وليس هذا بشيء . فإن هذه القراءة كان يقرؤها على
جبريل يعرض عليه القرآن كل عام فإنه هو الذي نزل عليه القرآن .
وأما الناس فمنه تعلموه فكيف يصحح قراءته على أحد منهم أو يقرأ كما يقرأ المتعلم ؟ ولكن قراءته على
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب كما كان يقرأ القرآن على الإنس والجن . فقد قرأ على الجن القرآن . وكان إذا خرج إلى الناس يدعوهم إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن . ويقرؤه على الناس في الصلاة وغير الصلاة .
قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5988&ayano=84فما لهم لا يؤمنون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=5989&ayano=84وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2327&ayano=19إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=460&ayano=3لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته } . وذكر مثل هذا في غير موضع . فهو يتلو على المؤمنين آيات الله .
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب أمر بتخصيصه بالتلاوة عليه لفضيلة
أبي واختصاصه بعلم القرآن كما ثبت في الصحاح عن
عمر أنه قال :
أبي أقرؤنا
وعلي أقضانا .
وفي الصحيح أنه {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597888قال لابن مسعود : اقرأ علي القرآن . قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري } . فقراءة
ابن مسعود عليه في هذا الموضع لإسماعه إياه لا لأجل التصحيح والتلقين .
وفي معنى قوله تعالى لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين .
هل المراد لم يكونوا منفكين عن الكفر .
أو هل لم يكونوا مكذبين
بمحمد حتى بعث فلم يكونوا منفكين عن
محمد والتصديق بنبوته حتى بعث .
أو المراد أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول .
[ ص: 483 ] وممن ذكر هذا
أبو الفرج بن الجوزي . قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني
اليهود والنصارى والمشركين وهم عبدة الأوثان {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } أي منفصلين وزائلين . يقال : فككت الشيء فانفك أي انفصل . والمعنى : لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى أتتهم البينة . لفظه لفظ المستقبل ومعناه الماضي . والبينة الرسول وهو
محمد صلى الله عليه وسلم بين لهم ضلالهم وجهلهم . وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم به .
ولفظ
البغوي نحو هذا . قال : لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم وقال :
أهل اللغة : " منفكين " منفصلين زائلين يقال : فككت الشيء فانفك أي انفصل . {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حتى تأتيهم البينة } لفظه مستقبل ومعناه الماضي أي حتى أتتهم البينة الحجة الواضحة يعني
محمدا أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان . فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة .
ولم يذكر غير هذا .
قال
أبو الفرج : وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية : لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبيا حتى بعث فافترقوا .
وقال بعضهم : لم يكونوا منفكين عن حجج الله حتى أقيمت عليهم البينة .
[ ص: 484 ] قال : والوجه هو الأول .
وذكر الثلاثة
أبو محمد بن عطية لكن الثالث وجهه وقواه ولم يحكه عن غيره . فقال : قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } أي منفصلين متفرقين . تقول : انفك الشيء عن الشيء إذا انفصل عنه .
قال : و " ما انفك " التي هي من أخوات " كان " لا مدخل لها في هذه الآية فبين في هذه أن يكون هذه الصفة منفكة .
قال : واختلف الناس عن ماذا ؟ فقال
مجاهد وغيره : لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة وأوقع المستقبل موقع الماضي في {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=6تأتيهم } لأن بأس الشريعة وعظمها لم يجئ بعد .
وقال
الفراء وغيره : لم يكونوا منفكين عن معرفة نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم والتوكد لأمره حتى جاءتهم البينة فتفرقوا عند ذلك قال : وذهب بعض
النحويين إلى أن هذا المنفي المتقدم مع " منفكين " بجعلهم تلك هي مع " كان " ويروى التقدير في خبرها " عارفين أمر
محمد " أو نحو هذا .
قال : وفي معنى الآية قول ثالث بارع المعنى . وذلك أن يكون المراد : لم يكونوا هؤلاء منفكين من أمر الله وقدرته ونظره لهم حتى
[ ص: 485 ] يبعث إليهم رسولا منذرا تقوم عليهم به الحجة وتتم على من آمن النعمة فكأنه قال : ما كانوا [ ل ] يتركوا سدى . قال : ولهذا المعنى نظائر في كتاب الله .
وقد ذكر
الثعلبي ثلاثة أقوال . لكن الثالث حكاه عمن جعل مقصوده إهلاكهم بإقامة الحجة وجعل " منفكين " بمعنى هالكين .
فقال : لم يكونوا منفكين منتهين عن كفرهم وشركهم . وقال
أهل اللغة : زائلين . تقول
العرب : ما انفك فلان يفعل كذا أي ما زال . وأصل الفك : الفتح ومنه فك الكتاب وفك الخلخال . {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حتى تأتيهم البينة } الحجة الواضحة وهو
محمد أتاهم بالقرآن فبين ضلالتهم وجهالتهم . ودعاهم إلى الإيمان .
قال وقال
ابن كيسان : معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة
محمد في كتابهم حتى بعث فلما بعث تفرقوا فيه .
وقال : قال العلماء في أول السورة إلى قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6231&ayano=98فيها كتب قيمة } حكمها فيمن آمن من
أهل الكتاب والمشركين . {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق } حكمه فيمن لم يؤمن من
أهل الكتاب بعد قيام الحجة عليهم .
[ ص: 486 ] قال وقال بعض
أئمة اللغة : قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } أي هالكين . من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل ولا يلتئم فتهلك . ومعنى الآية : لم يكونوا هالكين مكذبين إلا بعد إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب .
وقد ذكر
البغوي هذا والأول . قال والأول أصح .
( قلت : القول الثاني الذي حكاه عن
ابن كيسان هو قول
الفراء . وقد قدمه
المهدوي على الأول فقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } من " انفك الشيء من الشيء " إذا فارقه . والمعنى لم يكونوا متفرقين إلا إذا جاءهم الرسول لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره وصفته . وكفرهم بعد البينات . قال : ولا يحتاج {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } على هذا التأويل إلى خبر . ويدل على ذلك قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } .
قال وقال
مجاهد : المعنى لم يكونوا منتهين عما هم عليه . وعن
مجاهد أيضا : لم يكونوا ليؤمنوا حتى تأتيهم البينة .
قال وقال
الفراء : لم يكونوا تاركين ذكر ما عندهم من ذكر النبي حتى ظهر . فلما ظهر تفرقوا واختلفوا .
[ ص: 487 ] قلت : هذا المعنى هو الذي قدمه . لكن
الفراء وابن كيسان جعل الانفكاك مفارقتهم وتركهم لذكره وخبره والبشارة به . أي لم يكونوا مفارقين تاركين لما علموه من خبره حتى ظهر . فانفكوا حينئذ . وذاك يقول : لم يكونوا منفكين أي متفرقين إلا إذا جاء الرسول لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره . وهو معنى ما حكاه
أبو الفرج : لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبيا حتى بعث فافترقوا .
فالانفكاك انفكاك بعضهم عن بعض أو انفكاكهم عما كان عندهم من علمه وخبره . وهذا القول ضعيف لم يرد بهذه الآية قطعا . فإن الله لم يذكر
أهل الكتاب بل ذكر الكفار من
المشركين وأهل الكتاب . ومعلوم أن
المشركين لم يكونوا يعرفونه ويذكرونه ويجدونه في كتبهم كما كان ذلك عند
أهل الكتاب . ولا كانوا قبل مبعثه على دين واحد متفقين عليه . فلما جاء تفرقوا .
فيمتنع أن يقال : لم يكن
المشركون تاركين لمعرفة
محمد وذكره والإيمان به . ولم يكونوا مختلفين في ذلك ولا متفرقين فيه حتى بعث . فهذا معنى باطل في
المشركين .
ولا يستقيم هذا أيضا في
أهل الكتاب . فإن الله إنما ذكر الكفار منهم فقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } . ومعلوم أن الذين كانوا يعرفون نبوته ويقرون به ويذكرونه قبل أن يبعث لم يكونوا كلهم كفارا . بل كان الإيمان أغلب عليهم .
يبين هذا أنه إذا ذكر تفرق الذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة فإنه يعمهم فيقول : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } .
وأنه لا يقول : كان الكفار من
أهل الكتاب متفقين على الحق حتى جاءتهم البينة . وأيضا فاستعمال لفظ " الانفكاك " في هذا غير معروف لا يعرف في اللغة له شاهد . فتسمية الافتراق والاختلاف " انفكاكا " غير معروف .
وأيضا فهو لم يذكر ل {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } خبرا كما يقال : ما انفكوا يذكرون
محمدا وما زالوا يؤمنون به ونحو ذلك . وهذه التي هي من أخوات " كان " لا يقال فيها " ما كنت منفكا " بل يقال " ما انفككت أفعل كذا " فهو يلي حرف " ما " .
وأيضا فليس في اللفظ ما يدل على أن الانفكاك عن أمر
محمد خاصة . وأيضا فهذا المعنى مذكور في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } . فلو أريد بهذه لكان تكريرا محضا .
والقول الأول : أشهر عند المفسرين . ومنهم من يذكر غيره
كالبغوي وغيره فإنه معروف عن
مجاهد والربيع بن أنس كما في التفسير المعروف عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } قال : منافقين لم يكونوا ليؤمنوا حتى تبين لهم الحق وقال
الربيع بن أنس : لم يزالوا مقيمين على الشك والريبة حتى جاءتهم البينة والرسل .
وهذا القول يتضمن مدحهم والثناء عليهم بعد مجيء البينة ولهذا احتاج من قاله إلى أن يقول : هذا فيمن آمن من الفريقين في أنه بيان لنعمة الله عليهم . وجعلوا قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } فيمن لم يؤمن منهم
بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا أيضا ضعيف . فإن
أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا قبل إرسال
محمد إليهم كما أخبر الله بذلك في غير موضع فقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4534&ayano=45ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4535&ayano=45وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } . وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4536&ayano=45ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } . وقال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } ثم قال {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
. فأخبر أن الله هدى المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه . فكان الاختلاف قبل وجود أمة
محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2041&ayano=16إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } . وقال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1467&ayano=10ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } ثم قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1468&ayano=10فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } .
وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1980&ayano=16تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1981&ayano=16وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فقد أخبر تعالى أنه أرسل إلى أمم من قبل
محمد وأن الشيطان زين لهم أعمالهم وهو حين يبعث
محمد وليهم وأنه أنزل إليهم الكتاب ليبين لهم الذي اختلفوا فيه .
وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3262&ayano=27إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3263&ayano=27وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين } وقال لأمة
محمد : {
nindex.php?page=tafseer&surano=401&ayano=3ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } . فهذا بين أنهم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات قبل
محمد وقد نهى الله أمته أن يكونوا مثلهم .
وقد قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=688&ayano=5ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } وقال عن
اليهود : {
nindex.php?page=tafseer&surano=738&ayano=5وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1129&ayano=7وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك } .
وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسند من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=109638تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة } . وإن كان بعض الناس
كابن حزم يضعف هذه الأحاديث فأكثر أهل العلم قبلوها وصدقوها .
[ ص: 492 ] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=27055ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } .
وفي الصحيحين عنه أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597889نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم . فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له . الناس لنا فيه تبع غدا لليهود وبعد غد للنصارى } .
وهذا معلوم بالتواتر أن
أهل الكتاب اختلفوا وتفرقوا قبل إرسال
محمد صلى الله عليه وسلم . بل
اليهود افترقوا قبل مجيء
المسيح ثم لما جاء
المسيح اختلفوا فيه . ثم اختلف
النصارى اختلافا آخر .
فكيف يقال إن قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } هو فيمن لم يؤمن
بمحمد منهم ؟ .
وأيضا فالذين كفروا
بمحمد كفار وهم المذكورون في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } . وهم تفرقوا واختلفوا فيما جاءت به الأنبياء قبل
محمد وكفر من كفر منهم قبل إرسال
محمد .
وكان منهم من لم يكفر بل كان مؤمنا بالأنبياء كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1120&ayano=7ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1129&ayano=7وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=409&ayano=3ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=410&ayano=3يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=740&ayano=5ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } .
وفي صحيح
مسلم وغيره عن
عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597890إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب . وإن ربي قال لي : قم في قريش فأنذرهم . فقلت : أي رب إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة . فقال : إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا . فابعث جندا نبعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك } والحديث أطول من هذا .
[ ص: 494 ] والمقصود هنا الكلام على الآية فنقول : القول الثالث وهو أصح الأقوال لفظا ومعنى .
أما من جهة اللفظ ودلالته وبيانه فإن هذا اللفظ هو مستعمل فيما يلزم به الإنسان يعني اختياره ويقهر عليه إذا تخلص منه . يقال : انفك منه كالأسير والرقيق المقهور بالرق والأسر . يقال : فككت الأسير فانفك وفككت الرقبة . قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=6125&ayano=90وما أدراك ما العقبة } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6126&ayano=90فك رقبة } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه
البخاري : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597891عودوا المريض وأطعموا الجائع : وفكوا العاني } . وفي الصحيح أيضا أن
عليا لما سئل عما في الصحيفة فقال : فيها العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر .
ففكه : فصله عمن يقهره ويستولي عليه بغير اختياره والتفريق بينهما .
ويقال : فلان ما يفك فلانا حتى يوقعه في كذا وكذا والمتولي لا يفك هذا حتى يفعل كذا يقال لمن لزم غيره واستولى عليه إما بقدرة وقهر وإما بتحسين وتزيين وأسباب حتى يصير بها مطيعا له .
[ ص: 495 ] ويقال للمستولى عليه : هو ما ينفك من هذا كما لا ينفك الأسير والرقيق من المستولى عليه .
فقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } أي لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه لا حجر عليهم كما أن المنفك لا حجر عليه . وهو لم يقل " مفكوكين " بل قال {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98منفكين } . وهذا أحسن فإنه نفي لفعلهم . ولو قال " مفكوكين " كان التقدير : لم يكونوا مسيبين مخلين فهو نفي لفعل غيرهم . والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل بل يفعلون ما شاءوا مما تهواه الأنفس .
والمعنى أن الله ما يخليهم ولا يتركهم . فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا . وهذا كقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=5662&ayano=75أيحسب الإنسان أن يترك سدى } لا يؤمر ولا ينهى . أي أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون ألبتة ; بل لا بد أن يؤمر وينهى .
وقريب من ذلك قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4372&ayano=43وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4373&ayano=43أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين } . وهذا استفهام إنكار أي لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ونعرض عن إرسال الرسل . ومن كره إرسالهم ؟
[ ص: 496 ] فإن الأول تكذيب بوجودهم والثاني يتضمن بغضهم وكراهة ما جاءوا به . قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4601&ayano=47ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } وقال عن مؤمن
آل فرعون {
nindex.php?page=tafseer&surano=4207&ayano=40ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } وأما من كذب بهم بعد الإرسال فكفره ظاهر . ولكن من ظن أن الله لا يرسل إليه رسولا وأنه يترك سدى مهملا لا يؤمر ولا ينهى فهذا أيضا مما ذمه الله إذا كان لا بد من إرسال الرسل وإنزال الكتب كما أنه أيضا لا بد من الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب وقيام القيامة .
ولهذا ينكر سبحانه على من ظن أن ذلك لا يكون فقال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4035&ayano=38وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4036&ayano=38أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2811&ayano=23أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1902&ayano=15وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1903&ayano=15إن ربك هو الخلاق العليم } وقال {
nindex.php?page=tafseer&surano=4540&ayano=45وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون }
[ ص: 497 ] وقال عن أولي الألباب : {
nindex.php?page=tafseer&surano=487&ayano=3الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } ونحوه في القرآن مما يبين أن الأمر والنهي والثواب والعقاب والمعاد مما لا بد منه . وينكر على من ظن أو حسب أن ذلك لا يكون . وهو يقتضي وجوب وقوع ذلك وأنه يمتنع أن لا يقع .
وهذا متفق عليه بين أهل الملل المصدقين للرسل من المسلمين وغيرهم من جهة تصديق الخبر فإن الله أخبر بذلك وخبره صدق .
فلا بد من وقوع مخبره وهو واجب بحكم وعده وخبره . فإنه إذا علم أن ذلك سيكون وأخبر أنه سيكون فلا بد أن يكون . فيمتنع أن يكون شيء على خلاف ما علمه وأخبر به وكتبه وقدره .
وأيضا فإنه قد شاء ذلك وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا بد أن يقع كل ما شاءه .
لكن هل يقال : إن المشيئة موجبة فيه نزاع . وكذلك يقال : إن ذلك وجب لإيجابه له على نفسه أو لاقتضاء حكمته ذلك فيه أيضا نزاع .
وما أقسم ليفعلنه فلا بد أن يقع . والقسم متضمن معنى الخبر
[ ص: 498 ] ومعنى الحض والطلب . لكن في ثبوت الثاني في حق الله نزاع بين الناس كقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4093&ayano=38لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=1128&ayano=7وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } والذين قالوا إن حكمته أو حكمه أو مشيئته توجب ذلك يقولون : إن ذلك قد يعرف بالعقل . فيقولون : أنه قد يعرف بالعقل أنه لا بد من إرسال الرسل . وأن ذلك واجب في حكمه وحكمته . وهذا قول كثير من الطوائف أو أكثرهم .
ومنهم من يقول : لا يعلم شيء من ذلك إلا بالخبر وهذا قول
الجهمية والأشعرية . وذاك قول
المعتزلة والكرامية والحنفية أو أكثرهم .
وأما
أصحاب مالك والشافعي وأحمد فمنهم من يقول بهذا ولكن جمهور الفقهاء مع
السلف يثبتون الحكمة والتعليل . وإنما ينفي ذلك منهم من وافق
الجهمية المجبرة .
كالأشعري ومن وافقه .
وكذلك جمهورهم يثبتون للأفعال صفات بها كانت حسنة أو سيئة قبيحة . لا يجعلون حسنها وقبحها ترجيحا لأحد الأمرين بلا مرجح بل لمحض المشيئة كما تقوله
الجهمية ومن وافقهم .
[ ص: 499 ] هذا قول الأئمة والجمهور كما أن الأئمة والجمهور على
nindex.php?page=treesubj&link=28776_28778_28787_28784_28783إثبات القدر والإيمان به وأن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا يقولون بقول من أنكر القدر من
المعتزلة ونحوهم ولا بقول من أنكر حكمة الرب من
الجهمية المجبرة ونحوهم .
فلا يقولون بقول
القدرية النفاة للقدر ولا بقول
القدرية المجبرة الذين يستلزم قولهم إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد والجزاء بالثواب والعقاب لا سيما من أفصح منهم بذلك أو قال : إن من شهد القدر سقط عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد .
فآمنوا بما جاءت به الرسل في الجملة وأوجبوا ما أوجبه الله وحرموا ما حرمه الله وآمنوا بالجنة والنار واجتهدوا في متابعة الرسل . لكن أخطئوا حيث نفوا القدر وظنوا أن إثباته يناقض الأمر والنهي [ والوعد ] والوعيد وأنه لا يتم إيمانهم بأن الله عادل صادق حتى يكذبوا بالقدر وبإخراج أهل الكبائر من النار ظنا منهم أن الله أخبر بأن كل من كان له ذنب يستحق به العذاب لا يخرجه من النار ولا يرحمه أبدا . فلم يجوزوا أن يعذب بذنبه ثم يرحم بل عندهم من كان له ذنب يستحق به العذاب لم يرحم أبدا .
وهم وإن كانوا لم يتعمدوا تكذيب الرسل فقولهم هذا يتضمن
[ ص: 500 ] مخالفة الأخبار المتواترة عند أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج أهل الذنوب من النار وشفاعة الشفعاء فيهم . ويتضمن أنهم آيسوا الخلق من رحمة الله مع تكذيبهم بعموم خلق الله ومشيئته وقدرته حيث زعموا أن من الحوادث ما لا يقدر عليه ولا يشاؤه ولا يخلقه .
وتشبهوا
بالمجوس من هذا الوجه حتى قيل :
القدرية مجوس هذه الأمة .
وقابلهم أولئك فتوقفوا في خبر الله مطلقا حتى أنكروا صنفي العموم فلم يعلموا بخبره ما أخبر به من الوعد والوعيد .
فلا يجزمون بالنجاة للصنف الذين يعلم الله أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وكانوا من أعظم الناس طاعة لله إذا كان لأحدهم سيئة واحدة صغيرة . ولا بالعذاب للصنف الذين يعلم الله أنهم أفجر أهل القبلة وشرها ; بل يجوزون مع علم الله بهذا وبهذا أن يعذب أهل الحسنات الكبيرة على سيئة صغيرة عذابا ما يعذبه أحدا من أهل القبلة وأن يدخل فجار أهل القبلة الجنة مع السابقين الأولين .
وبسط الكلام على هؤلاء وهؤلاء له مقام آخر .
[ ص: 501 ] والمقصود هنا أن هذه السورة دلت على ما تدل عليه مواضع أخر من القرآن من أن
nindex.php?page=treesubj&link=28749الله يرسل الرسل إلى الناس تأمرهم وتنهاهم يرسلهم مبشرين ومنذرين كما قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=2214&ayano=6وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } ينذرون الذين أساءوا عقوبات أعمالهم ويبشرون الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالنعيم المقيم و {
nindex.php?page=tafseer&surano=2160&ayano=18أن لهم أجرا حسنا } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2161&ayano=18ماكثين فيه أبدا } فقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } بيان منه أن الكفار لم يكن الله ليدعهم ويتركهم على ما هم عليه من الكفر . بل لا يفكهم حتى يرسل إليهم الرسول بشيرا ونذيرا {
nindex.php?page=tafseer&surano=4868&ayano=53ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } ومما يبين ذلك أن " حتى " حرف غاية وما بعد الغاية يخالف ما قبلها كما في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=196&ayano=2حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=231&ayano=2حتى يطهرن } وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=239&ayano=2حتى تنكح زوجا غيره } ونظائر ذلك .
فلو أريد أنهم لم يكونوا منتهين ويؤمنون حتى يتبين لهم الحق لزم أن يكونوا كلهم بعد مجيء البينة قد انتهوا وآمنوا . فإن اللفظ عام فيهم .
[ ص: 502 ] وكذلك لو كان المراد أنهم كانوا متفقين على تصديق الرسول حتى بعث لزم أن يكونوا كلهم كانوا يعرفونه قبل إرساله إليهم وأنهم كلهم بعد إرساله تفرقوا واختلفوا . وكلاهما باطل . فكثير منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ولم يكونوا يعرفون ما في الكتب من بعثه ومن أمور أخر . ولما بعث فقد آمن به خلق كثير منهم ولم يتفرقوا كلهم عن الإيمان به .
وحينئذ فالآية لم تتضمن مدحهم مطلقا كما ظن من ظن أن معناها أنهم لم ينتهوا ولم يؤمنوا حتى يتبين لهم الحق . ولا تتضمن ذمهم مطلقا كما ظن من ظن أنهم لما جاءهم الرسول تفرقوا واختلفوا بعد ما كانوا متفقين على التصديق ; بل تضمنت مدح من آمن منهم بالرسول . وذم من لم يؤمن والإخبار أنه لا بد من إرسال الرسول إليهم فيؤمن به بعضهم ويكفر بعض .
قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=262&ayano=2تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد }
[ ص: 503 ] .
ثم إن
nindex.php?page=treesubj&link=28746_29678الذين آمنوا بالرسل لا بد أن يمتحنهم ليميز به بين الصادق والكاذب كما قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3371&ayano=29أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3372&ayano=29ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ثم قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3373&ayano=29أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } .
فالناس إذا أرسل إليهم أحد رجلين . إما رجل آمن بهم في الظاهر فلا بد أن يمتحن حتى يتبين الصادق من الكاذب . وإما رجل عمل السيئات ولم يؤمن فلا يفوت الله بل هو آخذه سبحانه وتعالى .
ولهذا انقسم الناس في الرسل إلى ثلاثة أقسام مؤمن باطن وظاهر وكافر مظهر للكفر ومنافق مظهر للإيمان مبطن للكفر . ومن حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة حصل هذا الانقسام وأنزل الله تعالى في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين .
وأما حين كان
بمكة وكان المؤمنون مستضعفين فلم يكن أحد يحتاج إلى النفاق بل كان من المؤمنين من يكتم إيمانه من كثير من الناس .
[ ص: 504 ] ومنهم من يتكلم بالكفر مكرها مع طمأنينة قلبه بالإيمان . وهذا مؤمن باطنا وظاهرا . فإنه وإن أظهر الكفر لبعض الناس لما أكره عليه أو كتم عنه إيمانه فهو يتكلم بالإيمان في خلوته ومع من يأمنه ويعمل بما يمكنه وما عجز عنه فقد سقط عنه .
ولهذا قال العلماء منهم
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : لم يكن يمكنهم نفاق إنما كان النفاق
بالمدينة .
ولكن كان
بمكة من في قلبه مرض كما قال في السورة المكية {
nindex.php?page=tafseer&surano=5600&ayano=74ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } .
وهو سبحانه قد ذكر أن المظهرين للإيمان ما كان ليدعهم حتى يميز الخبيث من الطيب ويمتحنهم كما قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=475&ayano=3ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } وقال {
nindex.php?page=tafseer&surano=1260&ayano=9أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون } وقال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=223&ayano=2أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } وأمثال ذلك .
[ ص: 505 ] فكذلك الذين كفروا لم يكن ليتركهم حتى يبعث إليهم الرسول بالآيات البينات . فهذا معنى قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } . وهم إذا جاءتهم البينة منهم من يؤمن ومنهم من يكفر .
وإذا قيل : إن الآية تتضمن بعد ذلك المعنى الآخر وهو أنهم لم يكونوا ليهتدوا ويعرفوا الحق ويؤمنوا حتى تأتيهم البينة إذ لا طريق لهم إلى معرفة الحق إلا برسول يأتي من الله أيضا ; أولم يكونوا منتهين متعظين وإن عرفوا الحق حتى يأتيهم من الله من يذكرهم ; فهذا المعنى لا يناقض ذاك .
بخلاف قول من قال : لم يكن
المشركون وأهل الكتاب تاركين لمعرفة
محمد ولذكره ولم يكونوا متفرقين فيه بل متفقين على الإيمان به حتى جاءتهم البينة فتركوا الإيمان به وتفرقوا . فإن هذا غير مراد قطعا .
ومما يبين ذلك قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حتى تأتيهم البينة } ولم يقل " حتى أتتهم " وأولئك لما لم يفهموا معنى الآية ظنوا أن الموضع موضع الماضي وأن المراد : ما انفكوا عما كانوا عليه إما من كفر وإما من إيمان حتى أتتهم البينة . فلما قيل {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حتى تأتيهم البينة } أشكل عليهم . وقال
[ ص: 506 ] بعضهم : لما تأتهم كلها .
وأما على المعنى الصحيح فالموضع موضع المضارع كقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=475&ayano=3ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } . فإن المراد : ما كانوا مفكوكين متروكين حتى تأتيهم البينة .
وهو سبحانه قال {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا } . و " لم " وإن كانت تقلب المضارع ماضيا فذاك إذا تجرد فقيل " لم يأت " و " لم يذهب " فمعناه " ما أتى " و " ما ذهب " .
وأما إذا قيل " لم يكن يفعل هذا " و {
nindex.php?page=tafseer&surano=634&ayano=4لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } فالمقصود معنى الفعل الدائم مطلقا . وإذا قيل " لم يكن فلان آتيا حتى يذهب إليه فلان " بخلاف ما إذا قلت " لم يكن فلان قد أتى حتى ذهب إليه فلان " . ولو قيل " ما كان فلان فاعلا لهذا حتى يكون كذا " كان نحو ذاك بخلاف ما إذا قيل " ما كان فلان قد فعل حتى أتى فلان " .
فنفى المضارع الذي خبره اسم فاعل وهو الدائم . والمراد : لم يكونوا في الحال والاستقبال متروكين حتى تأتيهم البينة . ولو قيل هنا " حتى أتتهم البينة " لم يكن موضعه .
[ ص: 507 ] وكذلك لو أراد الانتهاء عن الكفر والإيمان لقيل " حتى تأتيهم البينة " أي لم يكونوا يعرفون الحق حتى يأتيهم نبي يعرفهم أو لم يكونوا متعظين عاملين حتى يأتي من يعظهم ويذكرهم . فليس هذا موضع الماضي بخلاف ما لو قيل : " ما زالوا كافرين حتى أتاهم " .
فالآية تتضمن الإخبار عن وجوب إثبات البينة وامتناع الانفكاك بدونها . لم يقصد بها مجرد الخبر عن عدم الانفكاك ثم ثبوته في الماضي . وهو كما لو قيل " لم يكونوا [ ل ] ينفكوا حتى تأتيهم البينة " لكن هنا ذكر اسم الفاعلين فقيل " منفكين " .
وهو سبحانه لما ذكر أنه لا بد من إرسال الرسل إلى الذين كفروا من
المشركين وأهل الكتاب لتقوم عليهم الحجة بذلك ذكر بعد هذا أن
أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقامت عليهم الحجة . فبينات الله وحجته قامت على هؤلاء وهؤلاء .
وهو لم يعذب واحدا من الحزبين إلا بعد أن جاءتهم البينة وقامت عليهم الحجة كما في قصة
موسى ومن أرسل إليه . فإن الله لم يدع
فرعون وقومه حتى أرسل إليهم
موسى ولم يعذبهم إلا بعد إقامة الحجة . ثم لما آمن
بنو إسرائيل بالكتب والرسل لم يتفرقوا ويختلفوا إلا من
[ ص: 508 ] بعد ما جاءتهم البينة . فلم يكونوا معذورين في ذلك .
ولهذا نهيت أمة
محمد عن التشبه بهم فقيل {
nindex.php?page=tafseer&surano=401&ayano=3ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } . والناس الذين بعث إليهم
محمد هم كذلك . فمن كان كافرا لم يكن منفكا حتى تأتيه البينة ومن آمن
بمحمد من الأمم ثم تفرقوا واختلفوا فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
وما أمر الجميع {
nindex.php?page=tafseer&surano=6233&ayano=98إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .
والآية تضمنت
nindex.php?page=treesubj&link=19612_28777مدح الرب وذكر حكمته وعدله وحجته في أنه لا يدعهم حتى يرسل إليهم رسولا كما قال
لأهل الكتاب {
nindex.php?page=tafseer&surano=693&ayano=5قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } الآية . لم تتضمن مدحهم على بقائهم على الكفر حتى يأتي الرسول . فإن هذا غايته أن لا يعاقبوا عليه حتى يأتي الرسول لا أن يحمدوا عليه حتى يأتي الرسول . فإن هذا لا يقوله عاقل ولم يقله أحد لا سيما
وأهل الكتاب قد قامت عليهم الحجة بأنبياء قبله .
[ ص: 509 ] ونظير هذا في اللفظ قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=1924&ayano=16وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } . ليس المراد : ما كنتم بالغيه في الماضي بل هذه حالهم دائما .
فقوله " لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم " يقتضي أن هذه حالهم دائما . وتضمنت السورة ذكر أصناف الخلق وما أمر الله به جميع العباد وأن ذلك أمر لا بد منه لا بد من إرسال الرسل وإنزال الكتب وبيان السعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار .
فقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6230&ayano=98رسول من الله يتلو صحفا مطهرة } جملة فيه بيان إرسال [ الرسول ] إلى الجميع . وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } فيه إقامة الحجة على أهل الشرائع وذم تفرقهم واختلافهم وأن ذلك بعد أن جاءتهم البينة .
وهاتان الجملتان نظيرهما قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } ثم قال {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } .
ومثل ذلك قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } ثم قال {
nindex.php?page=tafseer&surano=4328&ayano=42وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=1594&ayano=11ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب } في سورة " هود " وسورة " عسق " .
ثم ذكر ما أمر به الجميع بقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6233&ayano=98وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .
ثم ذكر عاقبة الذين كفروا من
أهل الكتاب والمشركين وعاقبة الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
[ ص: 480 ] سُورَةُ الْبَيِّنَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى .
nindex.php?page=treesubj&link=29069 { nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } .
فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سُورَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا فَضَائِلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بْنِ كَعْبٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597884رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْقُرْآنَ . قَالَ : آللَّهُ سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : اللَّهُ سَمَّاك لِي قَالَ : فَجَعَلَ أبي يَبْكِي } . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597885إنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك . { nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالَ : سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَبَكَى } . وَفِي رِوَايَةٍ
لِلْبُخَارِيِّ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597886وَذُكِرْت عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ . } قَالَ
قتادة : أُنْبِئْت
[ ص: 481 ] أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } . وَتَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى
أبي يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا وَامْتِيَازَهَا بِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597887أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك } أَيْ قِرَاءَةَ تَبْلِيغٍ وَإِسْمَاعٍ وَتَلْقِينٍ لَيْسَ هِيَ قِرَاءَةَ تَلْقِينٍ فِي تَصْحِيحٍ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ عَلَى الْمُعَلِّمِ . فَإِنَّ هَذَا قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ . وَجَعَلَ
أَبُو حَامِدٍ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَاضُعِ الْمُتَعَلِّمِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى
جِبْرِيلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ .
وَأَمَّا النَّاسُ فَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ فَكَيْفَ يُصَحِّحُ قِرَاءَتَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ ؟ وَلَكِنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بْنِ كَعْبٍ كَمَا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَقَدْ قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ الْقُرْآنَ . وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى النَّاسِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ . وَيَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ .
قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5988&ayano=84فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=5989&ayano=84وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2327&ayano=19إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=460&ayano=3لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } . وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَهُوَ يَتْلُو عَلَى الْمُؤْمِنِينَ آيَاتِ اللَّهِ .
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بْنُ كَعْبٍ أَمَرَ بِتَخْصِيصِهِ بِالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِ لِفَضِيلَةِ
أبي وَاخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ :
أبي أَقْرَؤُنَا
وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597888قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ . قَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ قَالَ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي } . فَقِرَاءَةُ
ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِإِسْمَاعِهِ إيَّاهُ لَا لِأَجْلِ التَّصْحِيحِ وَالتَّلْقِينِ .
وَفِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .
هَلْ الْمُرَادُ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ .
أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ
بِمُحَمَّدِ حَتَّى بُعِثَ فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ
مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ .
أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ .
[ ص: 483 ] وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا
أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ . قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يَعْنِي
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَهْم عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ وَزَائِلِينَ . يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . وَالْمَعْنَى : لَمْ يَكُونُوا زَائِلِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . لَفْظُهُ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي . وَالْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ وَهُوَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ وَجَهْلَهُمْ . وَهَذَا بَيَانٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذْ أَنْقَذَهُمْ بِهِ .
وَلَفْظُ
البغوي نَحْوُ هَذَا . قَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَقَالَ :
أَهْلُ اللُّغَةِ : " مُنْفَكِّينَ " مُنْفَصِلِينَ زَائِلِينَ يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ يَعْنِي
مُحَمَّدًا أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . فَأَنْقَذَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا .
قَالَ
أَبُو الْفَرَجِ : وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بَعَثَ فَافْتَرَقُوا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حُجَجِ اللَّهِ حَتَّى أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ .
[ ص: 484 ] قَالَ : وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَذَكَرَ الثَّلَاثَةُ
أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَطِيَّةَ لَكِنَّ الثَّالِثَ وَجَّهَهُ وَقَوَّاهُ وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ غَيْرِهِ . فَقَالَ : قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ مُتَفَرِّقِينَ . تَقُولُ : انْفَكَّ الشَّيْءُ عَنْ الشَّيْءِ إذَا انْفَصَلَ عَنْهُ .
قَالَ : و " مَا انْفَكَّ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ مُنْفَكَّةً .
قَالَ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَاذَا ؟ فَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَأَوْقَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْقِعَ الْمَاضِي فِي {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=6تَأْتِيهِمْ } لِأَنَّ بَأْسَ الشَّرِيعَةِ وَعِظَمَهَا لَمْ يَجِئْ بَعْدُ .
وَقَالَ
الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّدُ لِأَمْرِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ : وَذَهَبَ بَعْضُ
النَّحْوِيِّينَ إلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْفِيَّ الْمُتَقَدِّمَ مَعَ " مُنْفَكِّينَ " بِجَعْلِهِمْ تِلْكَ هِيَ مَعَ " كَانَ " وَيُرْوَى التَّقْدِيرُ فِي خَبَرِهَا " عَارِفِينَ أَمْرَ
مُحَمَّدٍ " أَوْ نَحْوَ هَذَا .
قَالَ : وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى
[ ص: 485 ] يَبْعَثُ إلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَتَتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا [ ل ] يُتْرَكُوا سُدًى . قَالَ : وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ
الثَّعْلَبِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . لَكِنَّ الثَّالِثَ حَكَاهُ عَمَّنْ جَعَلَ مَقْصُودَهُ إهْلَاكَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَجَعَلَ " مُنْفَكِّينَ " بِمَعْنَى هَالِكِينَ .
فَقَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ . وَقَالَ
أَهْلُ اللُّغَةِ : زَائِلِينَ . تَقُولُ
الْعَرَبُ : مَا انْفَكَّ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ مَا زَالَ . وَأَصْلُ الْفَكِّ : الْفَتْحُ وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ وَفَكُّ الْخَلْخَالِ . {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ
مُحَمَّدٌ أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ . وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ .
قَالَ وَقَالَ
ابْنُ كيسان : مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ تَارِكِينَ صِفَةَ
مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ حَتَّى بُعِثَ فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِيهِ .
وَقَالَ : قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6231&ayano=98فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ . {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ } حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ .
[ ص: 486 ] قَالَ وَقَالَ بَعْضُ
أَئِمَّةِ اللُّغَةِ : قَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } أَيْ هَالِكِينَ . مِنْ قَوْلِهِمْ : انْفَكَّ صَلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَلَا يَلْتَئِمَ فَتَهْلِكَ . وَمَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَكُونُوا هَالِكِينَ مُكَذِّبِينَ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ .
وَقَدْ ذَكَرَ
البغوي هَذَا وَالْأَوَّلَ . قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( قُلْت : الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي حَكَاهُ عَنْ
ابْنِ كيسان هُوَ قَوْلُ
الْفَرَّاءِ . وَقَدْ قَدَّمَهُ
المهدوي عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } مِنْ " انْفَكَّ الشَّيْءُ مِنْ الشَّيْءِ " إذَا فَارَقَهُ . وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ وَصِفَتِهِ . وَكُفْرِهِمْ بَعْدَ الْبَيِّنَاتِ . قَالَ : وَلَا يَحْتَاجُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إلَى خَبَرٍ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } .
قَالَ وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ . وَعَنْ
مُجَاهِدٍ أَيْضًا : لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ .
قَالَ وَقَالَ
الْفَرَّاءُ : لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ ذِكْرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ حَتَّى ظَهَرَ . فَلَمَّا ظَهَرَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا .
[ ص: 487 ] قُلْت : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ . لَكِنَّ
الْفَرَّاءَ وَابْنَ كيسان جَعَلَ الِانْفِكَاكَ مُفَارَقَتَهُمْ وَتَرْكَهُمْ لِذِكْرِهِ وَخَبَرِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ . أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُفَارِقِينَ تَارِكِينَ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ خَبَرِهِ حَتَّى ظَهَرَ . فَانْفَكُّوا حِينَئِذٍ . وَذَاكَ يَقُولُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ . وَهُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ
أَبُو الْفَرَجِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بُعِثَ فَافْتَرَقُوا .
فَالِانْفِكَاكُ انْفِكَاكُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَوْ انْفِكَاكُهُمْ عَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لَمْ يَرِدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ
أَهْلَ الْكِتَابِ بَلْ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ
أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَا كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ . فَلَمَّا جَاءَ تَفَرَّقُوا .
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يَكُنْ
الْمُشْرِكُونَ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ
مُحَمَّدٍ وَذِكْرِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ . وَلَمْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ حَتَّى بُعِثَ . فَهَذَا مَعْنًى بَاطِلٌ فِي
الْمُشْرِكِينَ .
وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا أَيْضًا فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَهُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لَمْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كُفَّارًا . بَلْ كَانَ الْإِيمَانُ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ .
يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ تَفَرُّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ فَيَقُولُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } .
وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ : كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَأَيْضًا فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الِانْفِكَاكِ " فِي هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَهُ شَاهِدٌ . فَتَسْمِيَةُ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ " انْفِكَاكًا " غَيْرُ مَعْرُوفٍ .
وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ل {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } خَبَرًا كَمَا يُقَالُ : مَا انْفَكُّوا يَذْكُرُونَ
مُحَمَّدًا وَمَا زَالُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا يُقَالُ فِيهَا " مَا كُنْت مُنْفَكًّا " بَلْ يُقَالُ " مَا انْفَكَكْت أَفْعَلُ كَذَا " فَهُوَ يَلِي حَرْفَ " مَا " .
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْ أَمْرِ
مُحَمَّدٍ خَاصَّةً . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَلَوْ أُرِيدَ بِهَذِهِ لَكَانَ تَكْرِيرًا مَحْضًا .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَشْهَرُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ غَيْرَهُ
كالبغوي وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عَنْ
مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } قَالَ : مُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَقَالَ
الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَالرُّسُلُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَلِهَذَا احْتَاجَ مَنْ قَالَهُ إلَى أَنْ يَقُولَ : هَذَا فِيمَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَجَعَلُوا قَوْلَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ
بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وهذا أَيْضًا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قَبْلَ إرْسَالِ
مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4534&ayano=45وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4535&ayano=45وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4536&ayano=45ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
. فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ . فَكَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ وُجُودِ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2041&ayano=16إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1467&ayano=10وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1468&ayano=10فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1980&ayano=16تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1981&ayano=16وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ
مُحَمَّدٍ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ حِينَ يُبْعَثُ
مُحَمَّدٌ وَلِيُّهُمْ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ إلَيْهِمْ الْكِتَابَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3262&ayano=27إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3263&ayano=27وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ لِأُمَّةِ
مُحَمَّدٍ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=401&ayano=3وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ قَبْلَ
مُحَمَّدٍ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=688&ayano=5وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ عَنْ
الْيَهُودِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=738&ayano=5وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1129&ayano=7وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } .
وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَالْمَسْنَدِ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=109638تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ
كَابْنِ حَزْمٍ يُضَعِّفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبِلُوهَا وَصَدَّقُوهَا .
[ ص: 492 ] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=27055ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597889نَحْنُ الآخرون السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ . فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ . النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى } .
وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا قَبْلَ إرْسَالِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ
الْيَهُودُ افْتَرَقُوا قَبْلَ مَجِيءِ
الْمَسِيحِ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ
الْمَسِيحُ اخْتَلَفُوا فِيهِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ
النَّصَارَى اخْتِلَافًا آخَرَ .
فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِمُحَمَّدِ مِنْهُمْ ؟ .
وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا
بِمُحَمَّدِ كُفَّارٌ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ
مُحَمَّدٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ قَبْلَ إرْسَالِ
مُحَمَّدٍ .
وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1120&ayano=7وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1129&ayano=7وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=409&ayano=3لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=410&ayano=3يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=740&ayano=5وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } .
وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ
عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597890إنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي : قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ . فَقُلْت : أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً . فَقَالَ : إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَا . فَابْعَثْ جُنْدًا نَبْعَثُ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك } وَالْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا .
[ ص: 494 ] وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ : الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى .
أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ وَبَيَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَعْنِي اخْتِيَارَهُ وَيَقْهَرُ عَلَيْهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْهُ . يُقَالُ : انْفَكَّ مِنْهُ كَالْأَسِيرِ وَالرَّقِيقِ الْمَقْهُورِ بِالرِّقِّ وَالْأَسْرِ . يُقَالُ : فَكَكْت الْأَسِيرَ فَانْفَكَّ وَفَكَكْت الرَّقَبَةَ . قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=6125&ayano=90وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6126&ayano=90فَكُّ رَقَبَةٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597891عُودُوا الْمَرِيضَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ : وَفُكُّوا الْعَانِي } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ
عَلِيًّا لَمَّا سُئِلَ عَمَّا فِي الصَّحِيفَةِ فَقَالَ : فِيهَا الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ .
فَفَكُّهُ : فَصْلُهُ عَمَّنْ يَقْهَرُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا .
وَيُقَالُ : فُلَانٌ مَا يَفُكُّ فُلَانًا حَتَّى يُوقِعَهُ فِي كَذَا وَكَذَا وَالْمُتَوَلِّي لَا يَفُكُّ هَذَا حَتَّى يَفْعَلَ كَذَا يُقَالُ لِمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا بِقُدْرَةِ وَقَهْرٍ وَإِمَّا بِتَحْسِينِ وَتَزْيِينٍ وَأَسْبَابٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مُطِيعًا لَهُ .
[ ص: 495 ] وَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ : هُوَ مَا يَنْفَكُّ مِنْ هَذَا كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْأَسِيرُ وَالرَّقِيقُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ .
فَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ " مَفْكُوكِينَ " بَلْ قَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98مُنْفَكِّينَ } . وَهَذَا أَحْسَنُ فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِفِعْلِهِمْ . وَلَوْ قَالَ " مَفْكُوكِينَ " كَانَ التَّقْدِيرُ : لَمْ يَكُونُوا مُسَيِّبِينَ مُخِلِّينَ فَهُوَ نَفْيٌ لِفِعْلِ غَيْرِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إلَيْهِمْ رُسُلٌ بَلْ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا مِمَّا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ . فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=5662&ayano=75أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى .
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4371&ayano=43إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4372&ayano=43وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4373&ayano=43أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ أَيْ لِأَجْلِ إسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إنْزَالَ الذِّكْرِ وَنُعْرِضُ عَنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَمَنْ كَرِهَ إرْسَالَهُمْ ؟
[ ص: 496 ] فَإِنَّ الْأَوَّلَ تَكْذِيبٌ بِوُجُودِهِمْ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ بُغْضَهُمْ وَكَرَاهَةَ مَا جَاءُوا بِهِ . قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4601&ayano=47ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ عَنْ مُؤْمِنِ
آلِ فِرْعَوْنَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4207&ayano=40وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } وَأَمَّا مَنْ كَذَّبَ بِهِمْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ . وَلَكِنْ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ .
وَلِهَذَا يُنْكِرُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَقَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4035&ayano=38وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=4036&ayano=38أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2811&ayano=23أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1902&ayano=15وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1903&ayano=15إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4540&ayano=45وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
[ ص: 497 ] وَقَالَ عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=487&ayano=3الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْمَعَادَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَوْ حَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ . وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَقَعُ .
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ تَصْدِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ .
فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُخْبِرِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ . فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ كُلُّ مَا شَاءَهُ .
لَكِنْ هَلْ يُقَالُ : إنَّ الْمَشِيئَةَ مُوجِبَةٌ فِيهِ نِزَاعٌ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لِإِيجَابِهِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِاقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ ذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ .
وَمَا أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ . وَالْقَسَمُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْخَبَرِ
[ ص: 498 ] وَمَعْنَى الْحَضِّ وَالطَّلَبِ . لَكِنَّ فِي ثُبُوتِ الثَّانِي فِي حَقِّ اللَّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4093&ayano=38لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1128&ayano=7وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ حِكْمَتَهُ أَوْ حُكْمَهُ أَوْ مَشِيئَتَهُ تُوجِبُ ذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ . فَيَقُولُونَ : أَنَّهُ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْخَبَرِ وَهَذَا قَوْلُ
الجهمية وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَذَاكَ قَوْلُ
الْمُعْتَزِلَةِ والكرامية وَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ .
وَأَمَّا
أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مَعَ
السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْحِكْمَةَ وَالتَّعْلِيلَ . وَإِنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ
الجهمية الْمُجْبِرَةَ .
كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ .
وَكَذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْأَفْعَالِ صِفَاتٍ بِهَا كَانَتْ حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً قَبِيحَةً . لَا يَجْعَلُونَ حُسْنَهَا وَقُبْحَهَا تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا تَقُولهُ
الجهمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ .
[ ص: 499 ] هَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالْجُمْهُورَ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28776_28778_28787_28784_28783إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ حِكْمَةَ الرَّبِّ مِنْ
الجهمية الْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ .
فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ
الْقَدَرِيَّةِ النفاة لِلْقَدَرِ وَلَا بِقَوْلِ
الْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَسْتَلْزِمُ قَوْلُهُمْ إنْكَارَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا سِيَّمَا مَنْ أَفْصَحُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ : إنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ .
فَآمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْجُمْلَةِ وَأَوْجَبُوا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَآمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاجْتَهَدُوا فِي مُتَابَعَةِ الرُّسُلِ . لَكِنْ أَخْطَئُوا حَيْثُ نَفَوْا الْقَدَرَ وَظَنُّوا أَنَّ إثْبَاتَهُ يُنَاقِضُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ [ وَالْوَعْدَ ] وَالْوَعِيدَ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إيمَانُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ صَادِقٌ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِالْقَدَرِ وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ النَّارِ وَلَا يَرْحَمُهُ أَبَدًا . فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يُعَذَّبَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ يُرْحَمَ بَلْ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَمْ يُرْحَمْ أَبَدًا .
وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَتَعَمَّدُوا تَكْذِيبَ الرُّسُلِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا يَتَضَمَّنُ
[ ص: 500 ] مُخَالَفَةَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُرُوجِ أَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ النَّارِ وَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ فِيهِمْ . وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ آيَسُوا الْخَلْقَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِعُمُومِ خَلْقِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَشَاؤُهُ وَلَا يَخْلُقُهُ .
وَتَشَبَّهُوا
بِالْمَجُوسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى قِيلَ :
الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ .
وَقَابَلَهُمْ أُولَئِكَ فَتَوَقَّفُوا فِي خَبَرِ اللَّهِ مُطْلَقًا حَتَّى أَنْكَرُوا صِنْفَيْ الْعُمُومِ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِخَبَرِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ .
فَلَا يَجْزِمُونَ بِالنَّجَاةِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طَاعَةً لِلَّهِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ صَغِيرَةٌ . وَلَا بِالْعَذَابِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ أَفْجَرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَشَرِّهَا ; بَلْ يُجَوِّزُونَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهَذَا وَبِهَذَا أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ الْحَسَنَاتِ الْكَبِيرَةِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ عَذَابًا مَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ يُدْخِلَ فُجَّارَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ .
وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ .
[ ص: 501 ] وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28749اللَّهَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ يُرْسِلُهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=2214&ayano=6وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } يُنْذِرُونَ الَّذِينَ أَسَاءُوا عُقُوبَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَيُبَشِّرُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ و {
nindex.php?page=tafseer&surano=2160&ayano=18أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2161&ayano=18مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } فَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَدَعَهُمْ وَيَتْرُكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ . بَلْ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا {
nindex.php?page=tafseer&surano=4868&ayano=53لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ " حَتَّى " حَرْفُ غَايَةٍ وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=196&ayano=2حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=231&ayano=2حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=239&ayano=2حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ .
فَلَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ وَيُؤْمِنُونَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ قَدْ انْتَهَوْا وَآمَنُوا . فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِيهِمْ .
[ ص: 502 ] وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ حَتَّى بُعِثَ لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ إرْسَالِهِ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بَعْدَ إرْسَالِهِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا . وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَا فِي الْكُتُبِ مِنْ بَعْثِهِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخَرٍ . وَلَمَّا بُعِثَ فَقَدْ آمَنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا كُلُّهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ .
وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَدْحَهُمْ مُطْلَقًا كَمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ . وَلَا تَتَضَمَّنُ ذَمَّهُمْ مُطْلَقًا كَمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ مَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى التَّصْدِيقِ ; بَلْ تَضَمَّنَتْ مَدْحَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالرَّسُولِ . وَذَمَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ فَيُؤْمِنُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ .
قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=262&ayano=2تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
[ ص: 503 ] .
ثم إنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28746_29678الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ لِيُمَيِّزَ بِهِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3371&ayano=29أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3372&ayano=29وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } ثُمَّ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3373&ayano=29أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
فالناس إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ . إمَّا رَجُلٌ آمَنَ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْتَحَنَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ . وَإِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يَفُوتُ اللَّهُ بَلْ هُوَ آخِذُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَلِهَذَا انْقَسَمَ النَّاسُ فِي الرُّسُلِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُؤْمِنٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ . وَمِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
الْمَدِينَةِ حَصَلَ هَذَا الِانْقِسَامُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ .
وَأَمَّا حِينَ كَانَ
بِمَكَّةَ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُسْتَضْعَفِينَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَحْتَاجُ إلَى النِّفَاقِ بَلْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكْتُمُ إيمَانَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .
[ ص: 504 ] وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ . وَهَذَا مُؤْمِنٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَإِنَّهُ وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ لِبَعْضِ النَّاسِ لَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ كَتَمَ عَنْهُ إيمَانُهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَمَعَ مَنْ يَأْمَنُهُ وَيَعْمَلُ بِمَا يُمْكِنُهُ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ .
وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ نِفَاقٌ إنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ
بِالْمَدِينَةِ .
وَلَكِنْ كَانَ
بِمَكَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=5600&ayano=74وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ مَا كَانَ لِيَدَعَهُمْ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثُ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَمْتَحِنُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=475&ayano=3مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وَقَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1260&ayano=9أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=223&ayano=2أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
[ ص: 505 ] فَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ يَكُنْ لِيَتْرُكَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَهُمْ إذَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْفُرُ .
وَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَهْتَدُوا وَيَعْرِفُوا الْحَقَّ وَيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ إلَّا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ اللَّهِ أَيْضًا ; أَوَلَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ مُتَّعِظِينَ وَإِنْ عَرَفُوا الْحَقَّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ ; فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاقِضُ ذَاكَ .
بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ
الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ
مُحَمَّدٍ وَلِذِكْرِهِ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ بَلْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ وَتَفَرَّقُوا . فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَلَمْ يَقُلْ " حَتَّى أَتَتْهُمْ " وَأُولَئِكَ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ ظَنُّوا أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعَ الْمَاضِي وَأَنَّ الْمُرَادَ : مَا انْفَكُّوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إمَّا مِنْ كُفْرٍ وَإِمَّا مِنْ إيمَانٍ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . فَلَمَّا قِيلَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ
[ ص: 506 ] بَعْضُهُمْ : لَمَّا تَأْتِهِمْ كُلَّهَا .
وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْمُضَارِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=475&ayano=3مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } . فَإِنَّ الْمُرَادَ : مَا كَانُوا مَفْكُوكِينَ مَتْرُوكِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . و " لَمْ " وَإِنْ كَانَتْ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا فَذَاكَ إذَا تَجَرَّدَ فَقِيلَ " لَمْ يَأْتِ " و " لَمْ يَذْهَبْ " فَمَعْنَاهُ " مَا أَتَى " و " مَا ذَهَبَ " .
وَأَمَّا إذَا قِيلَ " لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ هَذَا " و {
nindex.php?page=tafseer&surano=634&ayano=4لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } فَالْمَقْصُودُ مَعْنَى الْفِعْلِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا . وَإِذَا قِيلَ " لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ آتِيًا حَتَّى يَذْهَبَ إلَيْهِ فُلَانٌ " بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت " لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَدْ أَتَى حَتَّى ذَهَبَ إلَيْهِ فُلَانٌ " . وَلَوْ قِيلَ " مَا كَانَ فُلَانٌ فَاعِلًا لِهَذَا حَتَّى يَكُونَ كَذَا " كَانَ نَحْوُ ذَاكَ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " مَا كَانَ فُلَانٌ قَدْ فَعَلَ حَتَّى أَتَى فُلَانٌ " .
فَنَفَى الْمُضَارِعَ الَّذِي خَبَرُهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَهُوَ الدَّائِمُ . وَالْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَتْرُوكِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَلَوْ قِيلَ هُنَا " حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ " لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُهُ .
[ ص: 507 ] وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الِانْتِهَاءَ عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَقِيلَ " حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ " أَيْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ نَبِيٌّ يُعَرِّفُهُمْ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّعِظِينَ عَامِلِينَ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ . فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْمَاضِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ : " مَا زَالُوا كَافِرِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ " .
فَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ وُجُوبِ إثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ وَامْتِنَاعِ الِانْفِكَاكِ بِدُونِهَا . لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَنْ عَدَمِ الِانْفِكَاكِ ثُمَّ ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي . وَهُوَ كَمَا لَوْ قِيلَ " لَمْ يَكُونُوا [ ل ] يَنْفَكُّوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ " لَكِنْ هُنَا ذَكَرَ اسْمَ الْفَاعِلِينَ فَقِيلَ " مُنْفَكِّينَ " .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِتَقُومَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ . فَبَيِّنَاتُ اللَّهِ وَحُجَّتُهُ قَامَتْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ .
وَهُوَ لَمْ يُعَذِّبْ وَاحِدًا مِنْ الْحِزْبَيْنِ إلَّا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ كَمَا فِي قِصَّةِ
مُوسَى وَمَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ . فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَدَعْ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ حَتَّى أَرْسَلَ إلَيْهِمْ
مُوسَى وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ . ثُمَّ لَمَّا آمَنَ
بَنُو إسْرَائِيلَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ لَمْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا إلَّا مِنْ
[ ص: 508 ] بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . فَلَمْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ .
وَلِهَذَا نُهِيَتْ أُمَّةُ
مُحَمَّدٍ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَقِيلَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=401&ayano=3وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } . وَالنَّاسُ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ
مُحَمَّدٌ هُمْ كَذَلِكَ . فَمَنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَكًّا حَتَّى تَأْتِيَهُ الْبَيِّنَةُ وَمَنْ آمَنَ
بِمُحَمَّدِ مِنْ الْأُمَمِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ .
وَمَا أُمِرَ الْجَمِيعُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6233&ayano=98إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } .
وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=19612_28777مَدْحَ الرَّبِّ وَذِكْرَ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحُجَّتِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَدْعُهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا قَالَ
لِأَهْلِ الْكِتَابِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=693&ayano=5قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } الْآيَةَ . لَمْ تَتَضَمَّنْ مَدْحَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ . فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ لَا أَنْ يُحْمَدُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ . فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا
وَأَهْلُ الْكِتَابِ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ .
[ ص: 509 ] وَنَظِيرُ هَذَا فِي اللَّفْظِ قَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1924&ayano=16وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ } . لَيْسَ الْمُرَادُ : مَا كُنْتُمْ بَالِغِيهِ فِي الْمَاضِي بَلْ هَذِهِ حَالُهُمْ دَائِمًا .
فَقَوْلُهُ " لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ " يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ حَالُهُمْ دَائِمًا . وَتَضَمَّنَتْ السُّورَةُ ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْعِبَادِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَبَيَانِ السُّعَدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ .
فَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6229&ayano=98لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6230&ayano=98رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } جُمْلَةً فِيهِ بَيَانُ إرْسَالِ [ الرَّسُولِ ] إلَى الْجَمِيعِ . وَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } فِيهِ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَذَمُّ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ .
وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ نَظِيرُهُمَا قَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } ثُمَّ قَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4328&ayano=42وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } وَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1594&ayano=11وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } فِي سُورَةِ " هُودٍ " وَسُورَةِ " عسق " .
ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُمِرَ بِهِ الْجَمِيعُ بِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6233&ayano=98وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } .
ثُمَّ ذَكَرَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَعَاقِبَةَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .