بسم الله الرحمن الرحيم
آ. (1) قوله: لا أقسم : العامة على "لا" النافية. واختلفوا حينئذ فيها على أوجه، أحدها: أنها نافية لكلام متقدم، كأن الكفار ذكروا شيئا. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ الله تعالى قسما. الثاني: أنها مزيدة. قال : وقالوا إنها مزيدة، مثلها في: الزمخشري لئلا يعلم أهل الكتاب وفي قوله:
4402- في بئر لاحور سرى وما شعر
واعترضوا عليه: بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله. وأجابوا: بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض. والاعتراض صحيح; لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، لكن الجواب غير سديد. ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته؟ قلت: يعني قوله:
[ ص: 562 ]
4403- لا وأبيك ابنة العامري ي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كما سيأتي، وهذا الوجه والاعتراض عليه والجواب نقله وغيره. الوجه الثالث: قال مكي : إدخال "لا" النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم. قال الزمخشري امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ي لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمي:
4404- ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم، ثم قال - بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم -: "والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. وقيل: إن "لا" نفي لكلام ورد قبل ذلك". انتهى. [ ص: 563 ] فقوله: "والوجه أن يقال" إلى قوله: "يعني أنه يستأهل فوق ذلك" تقرير لقوله: "إدخال "لا" النافية على فعل القسم مستفيض" إلى آخره. وحاصل كلامه يرجع إلى أنها نافية، وأن النفي متسلط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه منع لفظا ولا معنى ثم قال: فإن قلت: قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أن "لا" التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفيا، كقولك: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركون سدى؟ قلت: لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر. ألا ترى كيف لقي لا أقسم بهذا البلد بقوله: لقد خلقنا الإنسان وكذلك قوله: فلا أقسم بمواقع النجوم بقوله: إنه لقرآن كريم وهذا من محاسن كلامه فتأمله. وقد تقدم الكلام على هذا النحو في سورة النساء، وفي آخر الواقعة، ولكن هنا مزيد هذه الفوائد.
وقرأ قنبل بخلاف عنه "لأقسم بيوم" بلام بعدها همزة دون ألف. وفيها أربعة أوجه، أحدها: أنها جواب لقسم مقدر، تقديره: والله لأقسم، والفعل للحال; فلذلك لم تأت نون التوكيد، وهذا مذهب [ ص: 564 ] الكوفيين. وأما البصريون فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جوابا للقسم، فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبرا لمبتدأ مضمر، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها، وهذا عند بعضهم من ذلك، التقدير: والله لأنا أقسم. الثاني: أنه فعل مستقبل، وإنما لم يؤت بنون التوكيد; لأن أفعال الله حق وصدق فهي غنية عن التأكيد بخلاف أفعال غيره. على أن والبزي حكى حذف النون إلا أنه قليل، والكوفيون يجيزون ذلك من غير قلة إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قول الشاعر: سيبويه
4405- وقتيل مرة أثأرن فإنه فرغ وإن أخاكم لم يثأر
أي: لأثأرن. ومن حذف النون وهو نظير الآية قوله:
4406- لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع
الثالث: أنها لام الابتداء، وليست بلام القسم. قال : نحو: أبو البقاء وإن ربك ليحكم والمعروف أن لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلا في خبر "إن" نحو: وإن ربك ليحكم وهذه الآية نظير الآية التي في يونس ولا أدراكم به فإنهما قرآها بقصر الألف، [ ص: 565 ] والكلام فيها قد تقدم. ولم يختلف في قوله: "ولا أقسم" أنه بألف بعد "لا"; لأنه لم يرسم إلا كذا، بخلاف الأول فإنه رسم بدون ألف بعد "لا"، وكذلك في قوله: لا أقسم بهذا البلد لم يختلف فيه أنه بألف بعد "لا".
وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن، دل عليه قوله: "أيحسب الإنسان". وقيل: الجواب أيحسب. وقيل: هو "بلى قادرين" ويروى عن وقيل: المعنى على نفي القسم، والمعنى: إني لا أقسم على شيء، ولكن أسألك: أيحسب الإنسان. وهذه الأقوال شاذة منكرة لا تصح عن قائليها لخروجها عن لسان العرب، وإنما ذكرتها للتنبيه على ضعفها كعادتي. الحسن البصري.