القسم الأول
حوار حول التراث [ ص: 15 ] [ ص: 16 ]
وقفة مع التراث
يقول المفكر المغربي سعيد بنسعيد [1] : نحن نعيش تراثنا، نعانقه ونتعامل معه، في كل ساعات يومنا، في طرائق تفكيرنا وحديثنا، في التناقضات الكثيرة المتصلة بحياتنا، في كل ذلك ما ينبهنا إلى ذلك، وما يذكرنا به.
إن التراث بالنسبة للمثقفين العرب هو هذا الضيف، بل هو هذا الساكن، الذي لا ينوي مفارقة المسكن أبدا، وحيثما نولي وجوهنا فهو جارنا الملازم لنا كظلنا.
إن إلغاء التراث بالسكوت عنه، أو القول المجاني: "فلنلق بالتراث إلى البحر"، هذا الشعار لا يقدمنا أبدا؛ لا تنوير ولا تحديث ممكن بدون ترتيب لهذه العلاقة مع التراث، أي بالنقل إلى مستوى الوعي، هذه هي المسألة الجوهرية فعلا [2] .
سـؤال: إذا كان التـراث عـلى هـذه الدرجـة من الأهـمـية فلماذا الاختلاف حوله؟
منا من يعتقد أن التراث هو روح، وهو الحافظ للهوية، ومنا من يعتقد أن التراث من الماضي، الذي عفا عليه الزمن، ولن تنهض الأمة إلا إذا تحررت من التراث، وأهالت عليه التراب؟ [ ص: 17 ]
جـواب: لا بد مـن الاعـتـراف بـوجـود خـلافات في الأمـة، بعضـها قديـم، وبعضها حديث، ولعل من الحديث الخلاف حول التراث وقيمته، والموقف منه.
وأريد أن أبقى مع المفكر المغربي بنسعيد، فهو يقول [3] : إذا كانت ثقافات الشعوب تحمل في جوفها، كلا أو بعضا، من الإرث الثقافي المتكون لديها عبر التاريخ الثقافي، فإن الثقافة العربية المعاصرة تختلف عنها في كونها ليست بقايا من ثقافة الماضي، بل هي تمام هذه الثقافة وكليتها، وهي من القوة والعمق بحيث إن صروف الدهر وتقلبات الأحوال لم تنل منها.
سؤال: إذا كان للتراث هذه القيمة، ليس عندنا فقط، فلماذا لا يكون نوع إجماع حوله؟
جواب: يبدو أن عصر الإجماعات راح يبتعد، ليس عنا فقط، بل عن كثير جدا من شعوب العالم.
وبالمناسبة فثمة إجماعان:
الأول: ثقافي، وهذا الإجماع توفره العقيدة الواحدة، فالناس يختلفون في الفروع عادة، ويظلون أمة واحدة، فإذا اختلفوا في الأصول صاروا أمما عدة.
وقد وفر الإسلام، كعقيدة، وحدة ثقافية، تجاوزت ألف عام، رغم وجود المذاهب الفقهية المتعددة، وبإمكانه أن يوفر الإجماع الثقافي حتى صار الالتزام به حيا قويا. [ ص: 18 ]
الثاني: الإجماع السياسي: وهذا توفره أمور مثل وجود أهداف كبيرة واضحة للأمة، ووجود قيادة قوية مخلصة ذات صفات عالية، وهو ما يطلق عليه رجال علم الاجتماع: شخصية (كارزمية)، فالأمة تتوحد في الشدائد والحروب وتسير خلف قيادتها متى وثقت بها.
ويدور في ذهني سؤال آخر.
سؤال: الذي نعرفه ونسمعه من علماء الفقه والأصول هو إجماع واحد، بأن يتفـق علماء الأمة حول قضية من القضايا وحكم من الأحكام، فمن أين أتيت بالإجماع السياسي؟
جواب: نعم، الإجماع معروف، وهو ليس ابن اليوم، ولكن حديث العلماء عنه، هل يمنعنا من الحديث عن إجماع آخر؟
إن هذا المنع يحتاج إلى دليل.
وبالمناسبة، فالممنوع أساسا هو الابتداع في العبادات، أما في أمور الحضارة فمطلوب ذلك، وعلماؤنا حين يتحدثون عن فروض الكفاية يقولون: إذا وجد في العالم علم نافع أو صناعة أو فن مفيـد، فعلى أفراد المسلمين تعلم ذلك وإلا أثموا جميعا، فإذا تعلمه البعض سقط الإثم عن الأمة.. وإذا كنا نتحدث عن إجماع ثقافي وآخر سياسي فقد نتحدث غدا عن إجماع اقتصادي؛ وأقرب المسألة فأقول: لو جرى استفتاء الأمة كلها حول مقاطعة إسرائيل سياسيا واقتصاديا وثقافيا وسياحيا وشاركت الأمة بالتصويت، فكم ستكون نسبة المؤيدين لذلك، وما نسبة المعارضين؟ [ ص: 19 ]
والخلاصة: أعتقد أننا مأمورون بعدم الابتداع في العبادة، وبالمثل مأمورون بالإبداع في الحضارة، ولكن الذي حصل انقلاب، فرحنا نبتدع في العبادة، ونقلد في الحضارة، فلم تسلم لنا العبادة، ولا أنجزنا شيئا مفيدا في الحضارة.
سؤال: عرض جيد يصعب رفضه، ومنطق يصعب تجاهلـه، والسـؤال: هل نحن وحدنا نملك تراثا أم تشاركنا أمم الأرض، وما هو موقفها من التراث؟
جواب: سؤال في صميم الموضوع يصعب تجاهله والقفز عليه، ويمكن القول: إن من يتابع نهوض الأمم - قديما وحديثا- يجد قاسما مشتركا بينها، هو العودة أولا للتراث، واتخاذه نقطة ارتكاز وانطلاق.
يـقـول د. برهـان غـلـيـون، أستـاذ علم اجتماع في جامعة السوربون [4] : إن الثقافة الغربية الحديثة، بقدر مشاركتها الفعالة في الحضارة أكثر فعالية من كل الثقافات الأخرى ارتباطا بالتراث، وإحياء وتمثلا له، وليس هناك من يطرح مسألة التراث والمعاصرة.
ويتحدث د. محمد خاتمي [5] عن مشروع للنهوض يقوم على نقد وتقويم الحداثة والتراث معا مرتكزين فيه إلى ماضينا، الذي أنتج حضارة، مع الإفادة من معطيات الحضارة الحديثة لا سيما ونحن نمتلك في التاريخ سابقة حضارية، تركت بصماتها على مصير العالم والإنسان. [ ص: 20 ]
وأخيرا، إن لدينا تراثا هو رصيد ثمين، ليس من العقل أن نحرقه بجرة قلم.
في تراثنا قيم رائعة ووقائع تستند إلى هذه القيم، من ذلك أن (المعروف) شيء أكبر من أن يباع ويشترى، فهو أثمن من المال وأكبر من الجاه، يذكر ابن كثير واقعة تاريخية تعود للعهد الأموي [6] فيقول:
"كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف - أي مليون-، ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاما، فأعطاه المال، وقضى له الحاجات، وبقيت منها حاجة واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم "أصبهبذ سجستان" يطلب من معاوية أن يملكه تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف، فطاف على رءوس الأمراء من أهل الشام وأمـراء العراق، ممن قـدم مع الأحنف بن قيس، فكلهم يقولون له: عليك بعبد الله بن جعفر. فقصده الدهقان، فكلم فيه ابن جعفر معاوية، فقضى حاجته تكملة المـائة حـاجة، وأمـر الكاتب فكتب له عهـده، وخرج به ابن جعفر إلى الـدهقان، فسجـد له، وحمل إليه ألف ألف درهم، فقال له ابن جعفر: اسجد لله، واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نتبع المعـروف بالمن [7] . فبلـغ ذلك معـاوية فقال: لأن يكون يزيد - أي ابن معاوية- قالها أحب إلي من خراج العراق، أبت بنو هاشم إلا كرما".
عبد الله بن جعـفر في اصـطـلاح اليـوم.. يتـوسـط.. لرجـل لا يعرفه، فإذا أنجز له ما يريد سجد له، تحية وإكبارا، فيعلمه أن السجود لله وحـده، [ ص: 21 ] فهو الإله المعبود، ولا يصح السجود لأحد غيره. يعرض "الدهقان" مليون درهم نظير هذه العملية، وكان يسع عبد الله أخذها وتفريقها هنـا وهناك، ولن يلومه أحد، خصوصا أنه لم يشترط ذلك ابتداء، ولكنها القيم العالية فوق المال، فكيف تباع، ولو بمليون؟!
القـضـيـة الأخـرى، وصـول الواقـعـة إلى معـاوية رضي الله عنه ، ورد فـعلـه عليها، فهو يتمنى أن تكون حصـلت من قبل ولـده .. يزيد.. ولو حـصـلـت فهي في نظر معاوية رضي الله عنه أكبر من خراج العراق، وكان إذ ذاك أكبر خراج، فقد قارب عشرة ملايين درهم أو يزيد.
سؤال: هذه معان كبيرة، فهل يمكن أن نبعثها من جديد؟
جواب: هذه القضايا وأمثالها حين تعرض مجددا وتنشر يتعرف الناس عليها، وهنا يتم زرعـها مجـددا، والأمة بحاجة إلى مثل هـذه القيـم الكبيرة كي تقف في وجه الشهية الكبيرة لجمع المال، مع قطع النظر عن مصدره.
قضية أخرى مماثلة، فقد أراد "معاوية" رضي الله عنه أن يعزي عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، بوفاة الحسين بن علي، رضي الله عنهما، فكان مما قال [8] : "لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي"، فرد ابن عباس، رضي الله عنهما، قائلا: "لا يحزنني الله، ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين"، فاستحسن الجواب، بل هزه هزا، فقدم له ألف ألف درهم وعـروضا وأشياء، ثم قال له: خذها فقسمها في أهلك. [ ص: 22 ]
تعزية وجواب عليها بمليون ريال، إنه التقدير العالي للكلام الجيد، والمنطق العذب، فهل يوجد مثل هذا في الحضارة المادية، التي قال عنها الفيلسوف نتشة: اجمع اجمع، ذلك هو الشريعة والقانون. أي اجمع المال فقد صار المال هو الشريعة وهو القانون، بل كل شيء.
قضية أخرى: لكل علم أهله، ولكل فن أصحابه، وهناك متطفلون، قديما وحديثا، والسؤال: كيف نميز الأصيل من المتطفل؟ كيف نميز بين المخلص والمتلاعب؟
ومن الساحة، التي يخشى عليها ساحة العلم الشرعي، ينقل لنا "الذهبي" في موسوعته الرائعة "سير أعلام النبلاء" [9] : أن ابن يونس سمع الإمام "مالكا" يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت في المسجد -يقصد المسجد النبوي- سبعين ممن يقول: قال فلان قال رسول الله، عليه السلام، وأن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا، فما أخذت منهم شيئا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا "الزهري" وهو شاب، فنزدحم على بابه.
سؤال: لماذا هذا الموقف ما دام لا يطعن في أمانة الناس، فلماذا لا يأخذ عنهم ما يروونه عن رسول الله، عليه السلام؟
جواب: هذا فقه جيد، وتصنيف للناس دون طعن بهم، فكل صنف من العلوم، شرعية وغير شرعية، له أهله المحققون، وله زعانف وأدعياء، والعلم [ ص: 23 ] الشرعي لتعلقه بالحلال والحرام، وصحة وسلامة الاعتقاد، ينبغي أن لا يؤخذ إلا من أهله، تقديرا للإخلاص أولا، ومعرفة جيدة بحامل العلم، تنقل لنا كتب التراث أن رجلا جاء "المأمون" وقدم نفسه بأنه من رجال الحديث، فراح المأمون يسأله عن هذا العلم بابا بابا، ولما لم يجد عنده ما يسره قال: أعطوه ثلاثة دراهم، ثم قال: يقرأ أحدكم الحديث أياما معدودة، ثم يقول إنه من رجال الحديث.
منهج جيد: نحترم التخصص، دون أن نطعن بإخلاص الناس، نعمل على الفرز بين الأصيل والمتطفل، بين المحقق ومن يعرف من العلم نتفا، بين من يعطي العلم حقه ومن يتاجر بما تعلم.
وعندما تكثر البضاعة المغشوشة في السوق، فعلى المشـتري أن يدقق جيـدا وإلا ندم، العـلم ليس حكرا على أحد، ولا هو ساحة مغلقة، لكنه أيضا ليس سـاحـة مستباحـة كالسياسـة، يتحدث فيها العالم والجاهل والمخلص والمنافق. [ ص: 24 ]