ذكاء الطفل مسئولية الأم
لا بد من الاعتراف بأن الأم هـي المسئول الأول عن ذكاء طفلها، ففي يدها أن تجعل طفلها متفوقا بين أقرانه أو فاشلا في حياته.. ولتسأل الأم نفسها: كم كان عمر طفلها عندما تعلم كيف يربط رباط حذائه؟ هـل يعتقد معلموه أنه ذو إرادة قـوية أم أنه «محب للرياسة»؟.. إن الإجابة على هـذين السـؤالين اللذين يـبدوان لا علاقـة بينهما، قد تعطيك فـكرة عما إذا كان طفـلك يسـتفيد - لى أقصى حد- من ذكائه الأصلي، وهل من الممكن أن يزداد حاصل ذكائه 50 أو 60 نقطة أخرى.. إن الأبحاث الجديدة تظهر كيف تؤثر شخصية الطفل في مجموعها على ذكائه.. واختبارات مستوى الذكاء العادية تعد في أغلب الأحيان مقياسا لبراعة الشخص في استخدام الكلمات والأرقام، ويقول د. «جورج ستدارد» مسـتشار جـامعة نيويورك : «هناك قدرات أخرى كثيرة لا تستطيع اختبارات الذكاء قياسها مثل: الخيال والزعامة، والابتكار والقدرة على الخلق والإبداع وقوة الجدل الأساسية».
وإذا كان ذكاء الطفل عبارة عن كمية ثابتة يمكن قياسها، محبوسة في جمجمته، فسوف يظل مستوى ذكائه ثابتا، ولن تستطيع أن تفعل شيئا [ ص: 93 ] لكي تؤثر في طاقته العقلية، ولكن الدراسات التي قام بها معهد "فيلز" للأبحاث في كلية "أنتبوك" أظهرت أن هـذا غير صحيح، فالآباء يستطيعون أن يفعلوا الكثير لزيادة مقدرة الطفل ورغبته في التعليم، وفي هـذه الدراسة قام الباحثون بدراسة حالة 300 طفل يمثلون قطاعا من الطبقة المتوسطة منذ مولدهم. وإلى جانب اختبارات الذكاء والشخصية التي كانت تجرى عليهم بانتظام، قام الباحثون بزيارة منـزل طفل لمراقبة العلاقة بينه وبين أسرته.. وفي الاختبارات الأولى للذكاء كان متوسط أرقام الذكاء عندهم جميعا 100 درجة أو أكثر قليلا، ولكن العلماء لاحظوا بعد ذلك أن مستوى الذكاء لم يبق ثابتا، فعند بعض الأطفال ارتفع هـذا المستوى، وأطلق عليهم «الصاعدون» أما بعضهم الآخر الذين هـبطت أرقامهم، أطلق عليهم «الهابطون».
وقد ظلت أرقام الذكاء عند أحد الأطفال تزداد تدريجيا، حتى ارتفعت من 107 درجات، عندما كان عمره سنتين ونصف السنة، إلى 180 درجة عندما بلغ العاشرة من عمره، وهو رقم نادر، ومن المعروف أن الطفل الذي يبلغ مستوى ذكائه 130 درجة يعد موهوبا.. وهبطت أرقام الذكاء عند طفل آخر من 132 درجة في سن الثالثة إلى 102 درجة في سن الثامنة، ثم أخذت ترتفع مرة حتى بلغت 132 درجة في سن الحادية عشرة، وقد تبين أن أكبر انخفاض في مجموع أرقام الذكاء يحدث [ ص: 94 ] قبل سن الخامسة أو السادسة، وهي السن التي يكون فيها «الهابطون» معتمدين اعتمادا -يكاد يكون تاما- على آبائهم.
وقد تمكنت المدرسة من تحويل هـذا الهبوط، ورفع مجموع أرقام الذكاء مرة أخرى عند أكثر من نصف حالات الأطفال «الهابطين»؛ لأن المدرسة تعلم الطفل الاعتماد على النفس.
والسبب في هـذه التقلبات في أرقام الذكاء عند الأطفال يرجع إلى الاختلافات الثابتة في الشخصية بين هـاتين المجموعتين من الأطفال، وفي مجموعة الأطفال «الصاعدين» كان الدأب على الاعتماد على النفس هـو الخاصية المميزة لجميع أطفال هـذه المجموعة، أما «الهابطون» فكانوا على العكس يهربون من المسئولية ويعتمدون على الآخرين في حل مشكلاتهم.
والطفل «الهابط» يكون عادة أكثر سعادة في صحبة الأكبر منه عمرا، عن الأطفال المماثلين له في العمر، وهو يوجه دائما هـذه الأسئلة إلى أمه: «هل تحبينني؟».. و «ما الذي أستطيع أن أفعله الآن؟».. وهذا الطفل يمكن إيذاء شعوره بسهولة... أما الطفل «الصاعد» فيرى أن الحياة مغامرة وصراع ومنافسة، وباختصار ينظر إلى الحياة على أنها مشاكل يجب حلها، وهو عادة يحس بأذى من شيء ما، ويلهو وحـده أو مع أصدقائه، ويحلم غالبا بألعاب خيالية أو يقود الآخرين إلى نشاط جديد، وهو يفضل اللعب مع أطـفال في نفس سـنه، ولكنه يستطيع أن يجاري [ ص: 95 ] أو يتجاوب مع الكبار، ولا يخجل نسبيا من الأجانب، وهو يحب أبويه، لكنه لا يبدي أي قلق لمعرفة ما إذا كانا يحبانه أم لا؛ لأنه واثق تماما من ذلك، وهذا الطفل لا يحب أن يقلد أحدا، وله أشياء خاصة يفضلها بقوة، ويمكن أحيانا أن نسميه «قوى الإرادة»، أو «محب للرئاسة» ويستطيع أن يعمل في مشروع معين فترات طويلة دون أن يطلب من الآخرين إطراءه أو الالتفات إليه باستمرار لينهي هـذا المشروع.
ولكن، كيف يصـبح الأطفـال «الصاعدون» هـكذا؟.. إن د. «ليستر» ، يجيب قائلا: «الرغبة في الاستقلال موجودة في كل طفل عادي، وهذه الرغبة هـي الطريقة التي يتجاوب بها الطفل مع القلق البدائي الذي يحس به نتيجة لعجزه التام، وجهود الطفل للإقلال من هـذا القلق، يمكن مشاهدتها في محاولات طفل في الثانية من عمره عقد رباط حذائه.. إنه يبعد أباه أو أمه إذا حاول أحدهما ربط الحذاء بدلا منه، وكلما ازدادت الأشياء التي يستطيع أن يفعلها بنفسه أحس أنه آمنا أكثر.. وفي سن الرابعة أو الخامسة يجد الطفل أنه يستطيع أن يقلل من اعتماده على أبويه، وهذا الميل المستمر للتقليل من القلق عن طريق السيطرة على المشكلات كلما واجهته، هـو أساس كل التعليم».
ونستطيع أن نقول في إيجاز: إن الطفل يتعلم بنفسه كيف يتعلم، وقد تأكد الدور الرئيس الذي يلعبه الاعتماد على النفس في حياة الطفل [ ص: 96 ] باختلاف نتائج اختبارات الذكاء عند الجنسين، ففي التجربة التي أجراها معهد "فيلز" كان عدد الأطفال «الصاعدين» من الذكور ضعف عدد الإناث، وأن مستوى الذكاء عند الأطفال الذكور الصاعدين يستمر إلى ما بعد فترة البلوغ، أما بالنسبة للإناث فمعظمهن يتوقف مستوى ذكائهم عند هـذه السن أو يبدأ في الانخفاض.. ويقول الدكتور «جيروم كاجان» زميل الدكتور «سونتاج» : «من المحتمل أن يكون مرجع ذلك إلى طريقة تربية كل من الذكور والإناث، فالفتيات تشجعهن أمهاتهن على أن يصبحن جميلات ساحرات، وسلبيات، بينما يشجع الآباء الفتيان على المنافسة والنشاط والاستقلال.. وفي سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة تكتشف الفتيات أن أهم شيء بالنسبة لهن هـو أن يكن جذابات في عيون الفتيان، ومن ثم ترى الفتاة أن الذكاء الكثير قد لا يجدي» .
كيف نستطيع أن نشجع الطفل على أن يصبح صاعدا؟.. لقد أثبتت التجارب في المعهد أن الآباء الذين يحاولون دائما حماية أطفالهم، والآباء المتساهلين، أو الصارمين، يقتلون ذكاء أطفالهم.. إن الطفل يجب أن يكون واثقا من حب أبويه له حتى لا يقلقه ذلك، ومن هـذا المنطلق الأمين يستطيع أن يجرب قواه دون أن يخشى فقدان كل شيء إذا ارتكب خطأ ما، والطفل «الصـاعد» يوجهه أبواه، وهما لا يسـيطران عليه أو يتركانه يفعـل ما يشاء، وهما يحددان له القواعد والمسئوليات في حدود إمكانياته النامية، [ ص: 97 ] ويتمسكان بهذه القواعد حتى لو اقتضى الأمر عقاب الطفل إذا خرج عن طاعتهما، وفي نفس الوقت يمنح الطفل حرية كبيرة في إرضاء فضوله.
هذه الاكتشافات تظهر كيف يستطيع الأباء أن يفعلوا الكثير لمساعدة أطفالهم على حسن استخدام ذكائهم الفطري، ولكن التشجيع الأبوي ليس مرغوبا فيه في كل الحالات، فعندما يتعثر الطفل بسبب عناء المجهود الذهني، قد يسأل الأب نفسه: ما هـو مقدار الضغط الذي يستطيع أن يستخدمه دون أن يثبط من عزيمته؟
ويقول د. «هارس» ، المدير السابق لمعهد رعاية الطفل في جامعة "مينسوتا": «يستطيع الطفل العادي أن يتحمل قدرا كبيرا من المتاعب الناشئة عن إلزامه بالمحافظة على مستوى عال، ويجب على الآباء أن يضعوا القواعد الأساسية لصغارهم، وهي القواعد التي تحفظ المقاييس التي يعتقد الآباء أنها مهمة، وأن يحثونهم على ذلك، برغم صعوبة المهمة وعدم اعتياد الأطفال عليها أحيانا.. فالأطفال يتعلمون المسئولية عن طريق مراقبة آبائهم عندما يتخذون القرارات أسوة باتخاذ القرارات الخاصة بهم».
ومـن المؤكد أن الأب لن يسـتطيع إجبار طفله على أن يتعلم أو أن يتعلم هـو بدلا منه، ويقول د. «جيرالد بيرسون» ، العالم النفسي بفيلادلفيا: «إن واجب الطفل المدرسي يتعلق به وحده، وإذا لم يذاكر درسه فمن الأفضل له أن يتحمل النتائج بدلا من تحمل أبويه التبعة عنه» .. [ ص: 98 ] وعندما تتولد عند بعض الأطفال كراهية للمجهود الذهني، فإن هـذا لا يعني عادة أنهم أغبياء، فإن بعض الطلبة المتخلفين في الدراسة على درجة عالية من الموهبة، ولكنهم يعجزون عن استخـدام مواهبهم بسبب ما يطلق عليه العلماء اسم «صعوبات التعلم» ، وصعوبة التعلم قد يكون مرجعها ضعف السمع أو النظر، كما أن التناسق العضلي أو العصبي ينمو بدرجات مختلفة عند مختلف الأطفال، وقد يكون الأمر مجرد نقص في الاستعداد لمواجهة «الأعمال المدرسية» فبعض الأطفال يتأخرون عن أقرانهم في تعلم القراءة و الكتابة ولكنهم يلحقون بهم فيما بعد.
وحين تكون «صعوبة التعلم» طبيعية، يظهر الطفل رغبة قوية في التعليم.. وفي أحيان أخرى قد تكون العقبة عاطفية، وفي هـذه الحالة قد يفقد الطفل اهتمامه بالتعليم وينسحب أو يثور.. ومن الأسباب الشائعة للعقبات العاطفية، الضغط على الطفل لتحقيق أهداف فوق طاقته وقد يرجع الخطأ أحيانا إلى أبوين يعتبـران شقيق الطفل الأكبر، أو شقيقته الكبرى نموذجا مثاليا يجب أن يحذو حذوه.. ومن الممكن أيضا أن يسبب الآباء لأطفالهم «صعوبة تعلم» في عقولهم بسبب تضارب شعورهم تجاه التعليم، فالأبوان يريدان أن يكون طفلهما ممتازا في الدراسة، ولكنهما يسخران في نفس الوقت من «المثقفين»، وفي مشروع تنمية الشباب في «كويسني» بولاية إيلينوي ، قام علماء جامعة شيكاغو بالاشتراك مع [ ص: 99 ] سلطات المدرسة المحلية بالتحقيق في الأسباب التي تجعل كثيرا من الأطفال الموهوبين يحصلون على درجات ممتازة في المدرسة العامة.. وبعد سبع سـنوات من البحث، تبين أن السبب هـو البيئة التي يعيش فيها الطفل داخل المنـزل.
ويفسر د. «بول بومان» مدير المشروع السبب في ذلك فيقول: «في منازل الأطفال الأذكياء، نجد الآباء يفكرون مقدما في مستقبل أطفالهم، كما نجد أن الأطفـال يتعلمون في المنـزل أشـياء كثيرة بالإضافة إلى ما يحصلون عليه في المدرسة، كالقراءة ودروس التربية البدنية وهوايات الأسرة وتمضية أوقات الفراغ، وغير ذلك. والشيء الذي نستطيع أن نحكم به على ذكاء الطفل هـو طريقة حديثه مع أبويه، فمعظم الأطفال الذين يحصلون على درجات عالية في اختبارات الذكاء ويسيرون قدما في دراستهم يأتون من منازل الحديث فيها سهل، ممتلئ بالحرارة والفائدة».
وفي واحدة من أحدث الدراسات عن دور الوراثة في الذكاء، اتضح أن الأبناء يرثون نسبة ذكائهم من الأم، وليس وفقا للاعتقاد السائد بأن الأم والأب يشتركان معا في توريث نسـبة الذكاء، هـذا ما أسفرت عنه آخر الأبحاث التي قام بـها علماء الوراثة عند الإنسان بجامعة "أوام" بألمانيا ، ويرجع ذلك إلى الكروموسومات من النوع (X) الأنثوية التي [ ص: 100 ] تنقلها الأم لجنينها، والتي يوجد بها جينات الذكاء التي تحدد نسبة ذكاء الأبناء فيما بعد، فالرجل لا يشـارك في تحديد الذكاء، فكروموسومات (XY) التي يحملها الرجل، مثقل كاهلها بالجينات التي تخدم التكاثر، وهذا لا يعني أن الطفل سوف تكون نسبة ذكائه مثل ذكاء الأم، فربما تكون هـي حاملة لجينات من أمها أو جدتها، ولكنها لم تظهر لديها.
ولكن من الطريف حقا أنه قد تظهر أهمية التأثير الأبوي في رفع مستوى ذكاء الطفل بوضوح في حالة الأطفال بالتبني، فبالرغم من اختلاف عوامل الوراثة، فإن مستوى الذكاء عندهم يتبع عادة ذكاء الآباء الذين تـبنوهم، ولا يتبع مستوى ذكاء آبائهم الحقيقيين.. ونحن بالطبع لا نقر مبدأ التبني؛ لأن ديننا الإسلامي الحنيف يحرمه، حيـث إن من أهم ما يحرص عليه الإسلام لسلامة المجتمع، هـو عدم اختلاط الأنساب، وهو ما يبدو واضحا في عدم إباحة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة في وقت واحد، ولكنه سمح بذلك للمطلقة بعد وفاء عدتها، وللأرملة أو المتوفى عنها زوجها أيضا بعد قضاء عدتها. والولادة للمطلقة الحامل أو الأرملة قبل زواجها، وغير ذلك وقبله تنظيم الزواج بإيجاب وقبول وشهود وإشهار، إلى آخر ما يوضع له من إجراءات، هـدفها الحرص على وضوح هـذه العلاقة في إطار سليم والمحافظة عليها، وبناء عـلى ذلك أصبح مفهوما، لماذا لا يوجـد ما يسمى بالتبني في الإسلام. [ ص: 101 ]
ولكن ظهرت مشكلة مهمة يواجهها المجتمع بالنسبة لمن لا أسر لهم، وهم فئتان:
- الأولى:
من لهم أبوان معروفان ينتسبون إليهما، ولكن شاءت الأقدار حرمانهم منهما، وهؤلاء مشكلتهم في ولي الأمر البديل الذي يقوم بواجب الرعاية بدلا من ولي الأمر الأصيل.. وهذا البديل يكون إما الدولة فيما تقيم من مؤسسات اجتماعية، أو أن يتقدم بعض المواطنيـن -تحت إشراف الدولة– طالبيـن القيام بحضـانة أو كفالة بعض هـؤلاء الأشخاص، ونقول بوضوح شديد حضـانة أو كفالة وليس تبنيا، وفي هـذه الحالة يحتفظ هـؤلاء الأطفال بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم الحقيقيين الذين ينتسبون إليهم، وتوضح لهم علاقتهم بهذه الأسر بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.
- والثانية:
هي فئة من ليس لهم آباء أو أمهات معروفون ينتسبون إليهم، وهم من يطلق عليهم «اللقطاء» أومجهولو الأبوين، الذين لا ذنب لهم في صنع ظروفهم تلك التي وضعهم فيها القدر، وهؤلاء أيضا تقوم الدولة برعايتهم من خلال الجمعيات المتخصصة بدلا من ولي الأمر المفقود، أو تقوم بذلك بعض الأسر الخيرة المتطوعة للقيام بهذا الواجب، وعلى سبيل الحضانة والرعاية لا التبني. [ ص: 102 ]
إن الغالبية العظمى من الأطفال تخرج إلى العالم وهي مسـلحة تماما بما يكفل لها مواجهة مشكلات الحياة، وقد تستطيع الاختبارات العقلية أن تدلنا على المستوى الذي وصل إليه الطفل في أنواع معينة من القدرات، ولكنها، لا تستطيع أن تدلنا على المستوى الذي يستطيع أن يصل إليه فيما بعد... ولن نكسب كثيرا من القول: بأن الطفل أذكى أو أغبى من الأطفال الآخرين، فالشيء الهام هـو مساعدة الطفل على الاستفادة إلى أقصى حد مما لديه من إمكانيات.
لقد كان أهم ما توصل إليه علماء النفس في السنوات القليلة الماضية هـو التزايد المطرد والنمو السريع للبيانات التي تدل على العلاقة الوثيقة بين نوع الرعاية التي يتلقاها الطفل في سني حياته الأولى من ناحية، وبين نموه السليم من ناحية أخرى، وعلى هـذا الأساس أخذ اهتمامنا بالطفولة يتزايد بشكل واضح، فأصبحنا نحتفل بأعيادها ونشكل لها المجالس والمراكز والجمعيات التي تعنى بدراستها وتسعى إلى رسم الخطط ووضع البرامج والمناهج التي تساعد على سلامة نموها، ولقد رأينا أن نعرض هـنا لبعض الحقائق العلمية التي جاءتنا بها الدراسات المختلفة، والتي يمكن في ضوئها أن يأتي ما نضعه من خطط وبرامج ونشاطات محققا للأهداف التي وضعت لها. [ ص: 103 ]
وعند الحديث عن رعاية الطفل بشكل عملي تفصيلي يحسن دائما أن نحدد المرحلة التي نقصدها من هـذا الحديث، وسوف يقتصر اهتمامنا على مرحلة تعتبر من أخطر المراحل في تكوين شخصية الإنسان، وهي مرحلة ما قبل الدراسة، فإن من أهم مشاكل الطفل في هـذه السن، مشكلة الرعاية النهارية، فبعد أن يكون الطفل قد تجاوز مرحلة الرضاعة التي يمكن أن تكون الأم قد لازمته فيها سنتين كاملتين (حتى إذا كانت تعمل) يجد الطفل نفسه غالبا بعد ذلك في ظروف لا يحسد عليها، فهو في أغلب الأحيان حبيس في منـزله داخل مساحات أضيق من أن تسمح له بالانطلاق وحرية الحـركة، والنشاط الذي يتميز به في هـذه المرحلة، مما يشكل عوامل قوية للإحـباط، وبالتالي للتفاعل غير الصحي بين الطفل ووالديه.
كذلك لم يعد هـناك البديل الذي يسـمح بهذا الانطلاق، لا في الشـارع ولا في أراضي فضاء آمنة ولا في حدائق بجوار المنـزل.
فقد ازدحمت المدن بالبنية الشاهقة ووسـائل المواصـلات الآلية، ولم تعد الأم في كثير من الأحيان هـي الحاضنة للطفل في تلك الظروف المكانية السيئة، بل أصبح الطفل في غياب الأم - التي تزداد يوما بعد يوم نسبة انضمامها إلى القوى العاملة - يترك إما للخادم وإما لشخص من [ ص: 104 ] الأسرة كبير في السـن لا يسـتطيع أن يجاري الطفل في تلبية حاجاته، أو يترك عند الجيران الذين لو تحملوا الطفل بعض الوقت فإنهم قد يفعلون ذلك بالطبع بشيء كثير من التضرر.
وأخيرا لم تعد الفرصة مواتية للاختلاط اللازم بين الطفل وأترابه، حيث يمكن أن يتعلم قوانين الأخذ والعطاء، والتفاعل الاجتماعي الضروري لهذه المرحلة.. وحتى إذا كان الطفل من المحظوظين الذين يستطيعون أن يجدوا لهم أماكن في إحدى الحضانات المكلفة، فإن مظاهر الرعاية التي تقدمها هـذه الحضانات لا تشكل بأي حال من الأحوال الظروف المثلى التي يجب أن نحيط بها طفلنا.. وإذا كانت هـذه الفترة من حياة الطفل هـي فترة حرجة من حيث تكوين شخصيته مستقبلا، لذلك لا يجب أن ننظر إلى الرعاية النهارية لطفل ما قبل المدرسة على أنها أمر ثانوي في أي نظام تربوي لنا، ولقد فطنت إلى ذلك الدول المتقدمة منذ بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، فأصبحت الحضانات ومراكز ما قبل المدرسة، حيث يجد الطفل رعاية بديلة عن رعاية المنـزل، مجالا رئيسا من مجالات التنمية الاجتماعية.
ففي الدول التي كانت تنتهج النهج الاشتراكي نجد أن هـدف التربية، ومراكز ما قبل المدرسة، هـو تنشئة الطفل على التعاون، والاشتراك في العمل الجماعي، فيتعلم الطفل أن المجتمع يقر، ويتقبل، ويقدر الشخص الذي يعمل جيدا كعضو في فريق، ولا يقدر أو يقر أولئك الذين يسعون [ ص: 105 ] إلى تحقيق مطالب ذاتية أو اختيارات فردية.. وعلى العكس في الولايات المتحدة الأمريكية تعمل مراكز ما قبل المدرسة وفقا لمجموعة من المبادئ والمناهج التي تؤدي جميعها إلى تنمية قيمة الفردية والاستقلالية والتنافس، وبهذا الشكل يضمن المجتمع لنفسه درجة من التجانس وتأكيد القيم التي اختارها لنفسه، ومن ثم كان لا بد لنا من الاهتمام بإنشاء مراكز الرعاية اليومية لأطفالنا في هـذه المرحلة، وسواء كانت الأماكن التي تنشأ فيها هـذه المراكز هـي بنايات مخصصة لذلك، أم أماكن معدة لهذا الغرض فوق أسطح المنازل، أم أفنية وساحات بجوار المجمعات السكنية أو في وسـطها، أم في غير ذلك مما يمكن تنظيمه، سواء على مسـتوى الدولة أو على مستوى الأفراد.
وهناك مواصفات معينة لا بد أن تتوافر في تلك المراكز لكي تكون صالحة للهدف الذي تنشأ من أجله، ويمكن تحديد تلك المواصفات من نواح ثلاث:
الناحية الأولى:
هي تلك التي تتعلق بالأهداف التي يجب أن تحققها هـذه المراكز.
والناحية الثانية:
هي تلك التي تتعلق بالأبعاد المادية للمكان المخصص للمراكز.
أما الناحية الثالثة:
فهي تلك التي تتعلق بمن يقوم بالعمل في تلك المراكز.
[ ص: 106 ] هذا، وينبغي ألا تكون تلك المراكز بأي حال من الأحوال مقدمة أو تمهيدا للمرحلة المدرسية، بمعنى ألا تكون العملية التعليمية هـدفا مباشرا من أهدافها، وإن كان الطفل يتعلم بشكل غير مباشر بعض الخبرات المعرفية أثناء قيامـه باللعب أو بالنشـاطات الحركـية، أو الاجتماعية أو المعرفية المختلفة.
أما أهداف هـذه المراكز فهي أولا -وبالذات- أهداف تنموية، بمعنى أن برامجها لا بد أن تخطط أساسا للوصول إلى تحقيق متطلبات النمو لطفل هـذه المرحلة، ومن ثم فإن على هـذه المراكز أن تعمل على تزويد الطفل بالمهارات، والصفات السلوكية العامة في هـذا الاتجاه.
فللعب دور هـام في مرحلة ما قبل المدرسة.. فعن طريقه يتعلم الطفل الاعتماد على النفس، بالإضافة إلى أن اللعب وسيلة لتفريغ صراعات الطفل الداخلية، وتكيفه مع المجتمع والمحيط الحيوي حوله، وهو كذلك أسلوب فعال في إكساب الطفل كثيرا من الخبرات والعادات الخلقية والاجتماعية وإعطائه فرصة لممارسة التفاعل مع غيره من الأطفال والكبار، حتى يكتسب المهارات التي تؤهله للتفاعل والتكيف مع المجتمع. [ ص: 107 ]