اللعب ضرورة لتنمية الذكاء
إن أهمية اللعب في مرحلة ما قبل التعليم المدرسي، تكمن في أنه يمكن تربية الطفل من خلال اللعب، وهناك ضرر جسيم يترتب على إلحاق طفل -ما قبل المدرسة- بدور الحضانة ورياض الأطفال بـهدف تعلم القراءة والكتابة والحـساب فقط بشـكل تقليدي، مما يترتب عليه أن يمضي الطفل العديد من الساعات وهو جالس بدون حركة، والأهل سعداء لاعتقادهم بأنهم يعدونه للمدرسة، لكنهم في حقيقة الأمر يضحون بطفولته، مما يؤدي إلى إرهاق الطفل بالتعليم وتنمية الجانب العقلي عنده مقابل إهمال جوانب النمو الأخرى. فالهدف الرئيس من التربية والتعليم، عن طريق اللعب، هـو إكساب الطفل العديد من المهارات، والمعارف، من خلاله، سواء كان لعبا حرا أو لعبا تعليميا، كما أن الطفل في هـذه المرحلة يمكن أن يتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب من خلال اللعب وليس بالصورة التقليدية المتبعة.
فمن فوائد اللعب التربوية أنه يعتبر أداة تساعد الطفل على إيجاد نوع من التوازن بين عالمه الداخلي وعالمه الخارجي، مما يخلق له نوعا من التوازن الذي يحقق له نوعا من الراحة والسعادة. كما أن للعب تأثيرا على نمو الطفل وفض صراعاته الداخلية، وهو يلعب دورا هـاما في تنمية الجانب [ ص: 108 ] المعرفي، أو التكوين المعرفي للطفل والقدرة الإبداعية والابتكارية لديه، ويمكن للأهل من خلال ملاحظة سلوك الطفل وانفعالاته أثناء اللعب تقويم سلوكه العام واكتشاف مشاكله من خلال ما يمكن تسجيله من ملاحظات أثناء ذلك؛ كما أنه وسيلة للنمو العقلي واللغوي للطفل، فعن طريقه يمكن مساعدة الطفل على تصحيح أفكاره والإجابة عن أسئلته ومخاطبته، فتتطور لغته وأفكاره إلى حركة أثناء اللعب.
كما يعتبر اللعب وسيلة لتعميق التأثر والتأثير الجمالي عند الأطفال، وتنمية قدراتهم الابتكارية، فمن المعروف أن كل الأطفال تقريبا لديهم القدرة على الابتكار خلال السنوات الأولى من العمر، ولكن معظمهم يفقد هـذه القدرة فيما بعد، نتيجة عيوب في التربية بعدم منحهم حرية كافية للتعبير عن البيئة.. ويساعد اللعب أيضا على تنمية النشاط لدى الطفل، وإعداده للعمل الجاد، بالإضافة إلى أنه يعود الطفل على المجهود الجسمي والنفسي اللازمين للعمل.
من هـنا، فإننا نرى أن اللعب في مرحلة ما قبل التعليم المدرسي حق لكل طفل، وليس ترفا. ويجب العمل على المزيد من الدراسات عن اللعب وأثره باعتباره أحد الأساليب التربوية الهامة لتنشئة الطفل في هـذه السن بشكل سليم إذا ما أحسن توجيهه.. كما يجب تقوية الإيمان بأهداف [ ص: 109 ] اللعب التربوية في هـذه المرحلة العمرية كوسيلة لتنمية قدرات الطفل الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية والابتكارية.
وإذا كان لديـنا تصور لموقف نموذجـي للرعاية النهاريـة لطفل ما قبل المدرسة، سواء من حيث أهدافها أو مكانـها أو القائمين عليها، أو أنواع النشاط المتضمن فيها، فليس معنى ذلك أن ينتظر الطفل في منـزله حتى تتوافر له مثل تلك المراكز النموذجية، بل أن وجود ساحة خاصة في كل مجمع، أو وجود فناء متسـع في كل عمارة سـكنية، أو إعداد العمارات بالشكل الذي يتوافر فيه ولو بعض تلك المواصفات لهو خير على أي حال من عدم وجود ذلك بالمرة، وبإمكان الدولة أن تصدر من التشريعات مبدئيا، ما يحقق تلك الإنشاءات، فلا يرخص لعمارة سكنية أو مجمع سكني إلا إذا وفر مثل تلك الأماكن، كذلك يمكن أن تتطوع الأمهات غير العاملات وكذلك الشابات -بعض الوقت- للعمل بتلك المراكز، كما يمكن أن تتعاون المحليات على إنشاء مثل تلك المراكز وعلى تعيين المتخصصين لها.
كل هـذه بدائل نضعها أمام السلطات التي بيدها الأمر حتى لا يترك الطفل في رعاية الخدم أو يكون عبئا ثقـيلا على الجيـران، أو حتى وحيدا في المنـزل بما لا يحقق أي هـدف من أهداف التنمية في هـذه المرحلة، بل مما قد تكون له آثاره المدمـرة على حياة الطفل النفسـية [ ص: 110 ] فيما بعد، ويتضح ذلك فيما نراه من أطفال يرتبكون أمام مواجهة أي شيء، أو نجد آخرين لا يحسنون التصرف بشكل طبيعي، ولا يعد كل من يرتبك من الأطفال أو يعجز عن أداء حـركة ما، أو يعجز عن التعبير عن نفسه بوضوح، متخلفا، فقد يكون الطفل عادي الذكاء لكنه عاجز عن التعلم.. فما الفرق بين التخلف والعجز عن التعلم؟
قد يقع كثير من الأباء في الارتباك والحيرة حين يلحظون عدم قدرة صغيرهم على إمساك الأشياء بيديه، أو يلحظون إفراطا في حركته واندفاعه، كما يواجه المعلمون صعوبات في تدريس بعض الطلبة، ممن يثيرون الشغب في حجرة الدراسة، أو يقومـون بمضايقـة زمـلائهم، أو يهملون في أداء واجباتهم، أو يكرهون المدرسة والدروس، وتشير الدراسات إلى وجود ارتباط بين هـذه المظاهر السلوكية والاضطراب في الوظيفة العقلية أو الإدراك، مما يعني إمكانية معالجة كثير منها إذا تيسر تشخيصه في مرحلة مبكرة.
وقد يوصف هـؤلاء -خطأ- بأنهم متخلفون عقليا، وقد يكون بينهم مـثل تلك الحالات، غير أن الدراسـات الحديثة الجادة ترى -ضمن معايير معينة- أن نصف هـؤلاء، يوصف «بالعجز عن التعلم» .. فالطفل المتخلف عقليا يكون محدود الفهم والقدرة على التعلم، أما الطفل «العاجز» عن التعلم» فإنه طفل مختلف، إذ لا يقل ذكاؤه عن المتوسط، وتكون لمثل [ ص: 111 ] هذا الطفل قدرة حبيسة، تتحول إلى طاقة إيجابية إذا حسن التعامل معها، أو قد تنفجر عن سلوك طائش، إذا لم نتفهمها.. إن حوالي 10 % من أطفال العالم يعانون من هـذه المشكلة، كما أن تشخيص المعلم المبكر لهذه الحالة قد يساعد على تقديم العون المناسب في مجابهة جوانب العجز.
كما أن هـناك أحكاما غير دقيقة تصدر على العديد من الأطفال بسبب التصنيف غير الدقيق لحالاتهم، إذ يوصفون بالاضطراب الانفعالي ، أو بالتخلف العقلي ، دون أن يكونوا كذلك فعلا.. وتتجسد المأساة حين يتم تحويل هـؤلاء إلى مؤسـسات خـاصة، لا ينبغي أن يكونوا فيها، خاصة تلك المؤسسات المختصة بعلاج العجز عن التعلم، فهي غير معنية بمسألة الذكاء، وإنما بمسائل محددة تتصل بعملية التعلم والسلوك، حيث يتعذر على بعض الأطفال تعلم القراءة والكتابة أو التهجي أو مبادئ الحساب، على الرغم من قدراتهم في نواح أخرى.. والطفل المتسم بالذكاء يدرك إخفاقه وعجزه عن مجاراة الآخرين بما يعجزه عن إدراك كنهه، ومن ثم ينعكس هـذا كله على سلوكه، ليبدو مشاغبا أو منعزلا.
فكثيرا ما يصنف العاجز عن التعلم كمتخلف عقليا، فتخسر المجتمعات بعض الذين يتمتعون بذكاء عال بسبب هـذا الفهم القاصر (ولولا حسن الحظ لجاء تصنيف أينشتاين وأديسون في قائمة المتخلفين عقليا بسبب حالة العجز عن التعلم التي صاحبتهما) ، فإن علة (العجز عن التعلم) ما تزال [ ص: 112 ] مجهولة، ولم يحسم العلم أمره فيها حتى الآن.. ولكيفية التمييز بين الأطفال المصابين بالعجز عن التعلم، وكيفية تهيئة مصادر التشخيص والمعالجة، للمساعدة على إعدادهم لممارسة حياة الكبار بنجاح، نورد بعض الحكايات لأطفال تثير الأسى و اللوعة، لنتبين تلك الفروق.
فالطفل «ب.» بدا متقد الذهن، لكنه تجاوز بسوء سلوكه حدود الصبر لدى أبويه ومعلمته، مما دفع أمه إلى التفكير بقتله مع أخويه، والانتحار تخلصا من الضغط الذي عانته بسببه، غير أن أملا جاء عن طريق طبيب نفسي اكتشف حالة الطفل وهو في سن العاشرة، حيث حوله إلى مدرسة خاصة، أنشئت لمعالجة المصابين بالعجز عن التعلم، فلم يكن الطفل متخلفا عقليا كما صدر الحكم عليه قبل اكتشاف حالته، بل استطاع أن يتعلم، وأن يضبط سلوكه كالأسـوياء من أقرانه، ووصل بعد سنوات ثلاث من الجد إلى مستواه الطبيعي، وتخرج من المدرسة الثانوية، ثم التحق بمعهد لدراسة علم المحاسبة.
إن العجز عن التعلم لا تتشابه أعراضه لدى مختلف الأفراد الذين يعانون منه، فهاهي الطفلة (ر.) تختلف في حالتها عن الطفل (ب.) فهي تعاني من صعوبة في القراءة؛ لأنها لا تميز الاختلافات بين حروف الهجاء.. والطفل (م.) يجيد القراءة، غير أنه لم يستطع أن يتعلم عملية الطرح في الحساب، إذ لا يستوعب مفهوم اختلاف قيمة العدد عن غيره، علما بأنه [ ص: 113 ] في العاشرة من عمره.. ويعاني الطفل (ت.) من صعوبة في استعمال المقص في الروضة، فقد يكون تحكمه العضلي قابلا للتحسن بما يتيح له تعلم الكتابة.
وتتبين مجموعة الأعراض الرئيسة في النقاط الآتية:
1- الانتباه ومستوى النشاط:
يكون الطفل مفرط النشاط، دائب الحركة، أو يبدو سمـجا غليظا، ويهرع لاستطلاع كل حركة غريـبة بما يبدد انتباهه.
2- الحركة ونمو الإدراك:
يكون الطفل أخرق في تصرفاته، فقد يرتطم بالأشياء، ويتعثر بالسجادة، وإناء الحليب، وقد يجد صعوبة في استعمال أفلام التلوين أو في الكتابة، أو في ارتداء قميصه، وقد يعاني من مشكلات إدراكية بصرية أو سمعية، ويضطرب الإدراك عند بعض الأطفال بالنسبة للاتجاهات: فوق، تحت، يمين، يسار، أمام، خلف.
3- اللغة ونمو الفكر:
تترافق اللغة والفكر، ولا بد لهما أن ينميا معا عند الطفل العادي، لكن هـذا الترافق يختل لدى الأطفال الذين يعانون من العجز عن التعلم، بسبب معاناتهم من مشكلات إدراكية سمعية، ويبرز لديهم اضطراب في النطق، وينتقل الأمر إلى التجريد الذي يحتاج إلى ارتباط المفردة بالمفهوم، وبالتالي القدرة على الاستنتاج والاستدلال.
4- النمو الانفعالي والاجتماعي:
لا يمكننا حصر أنواع المشكلات [ ص: 114 ] الانفعالية وتباينها، ويتعرض الطفل العاجز عن التعلم عادة إلى تحديات تفوق قدراته، فهو قد لا يحسن الجري أو الإمساك بالكرة، أو فهم موضوع اللعبة، فينكشف عجزه أمام أقرانه، ونتيجة لذلك قد تتحطم «الأنا الداخلية» للطفل، فيصبح فريسة للتوتر، ومن ثم قد يحاول تغطية عجزه بالصخب أو الجدل العقيم، مما يتسبب في عدم توافقه مع المجتمع، فضلا عن اضطراباته النفسية.
من كل ما سبق يصبح ضروريا أن يكون هـناك دور حيوي للاختصاصي النفسي الذي يقوم القدرة العقلية للطفل العاجز عن التعلم، وذلك عن طريق اختبارات مقننة، متعددة الجوانب، لفظية وغير لفظية، كما يبحث عن جود المشكلات الانفعالية والاجتماعية وطبيعتها، ويرشد الأبوين والمعلمات لاتخاذ ما يرونه صالحا لتحسين وضعه.. وثمة مختصون آخرون يسعون لتقويم مدى تقدمه ولتعديل خطط علاجه، ويكون هـؤلاء مختصين في التربية الخاصة، وهم الإخصائي النفسي، واختصاصي السمع (وليس الأذن) ، والأخير يستخدم أجهزة متقدمة لمعرفة كيف تكون الترجمة الداخلية للسمع لدى الطفل.
أما المدرسة فإن لها دورها في إعداد الطفل لمرحلة الرشاد وتنظيم تحصيله، إذ قد لا تكون صفوف المدرسة النظامية مكانا مناسبا لعلاج الحالة، ولعل في تطبيق نظام المعلمة المتنقلة، واستخدام غرفة المصادر، فائدة لعلاج [ ص: 115 ] حالات العجز الطفيف عن التعلم، وخير ما نجده تلك النصائح التي تقدمها الدكتورة «إيليس تومسون» لمعلمة مثل ذلك الطفل، إذ تقول: «جربوا الإصرار، جربوا الاستقلال، وجربوا تصميم مستوى الصعوبة حسب حالة كل طفل، جربوا أي شيء، عدا الازدراء و التوبيخ» .. كما أنها تستصرخ المعلمين والمعلمات قائلة: «حسنوا التعليم يتحسن السلوك القويم» .
لكن هـل هـناك صلة بين العجز عن التعلم وجنوح الأحداث؟
يعتقد بعض العلماء بوجود هـذه العلاقة، دون سند علمي، غير أنهم يدعون لاستقراء بعض إشاراتها، فثمة طفل يعجز عن ضبط نفسه، وآخر يحاول استخدام سكينة ضد من وصفه «بالتخلف»، والطفل الجانح يكون قد أخفق على الأغلب في القراءة، فلا يفهم بالتالي الكثير من المدلولات مما يعرضه إلى مردودات سلبية. فالمدارس تفرز إلى الشوارع هـذا النوع من المخفقين الذين يكونون ضحايا، بأشكال مختلفة، لعدم النضج بما قد يقودهم إلى الجنوح.
ويؤكد العلماء على ضرورة رعاية الأم الحامل من الناحيتين الغذائية والطبية، ورعاية جميع المواليد حتى نهاية السنة الأولى من أعمارهم، حيث إن هـذا يؤدي إلى تخفيض نسبة ما يعرف بمرض المخ الذي قد يتسبب في العجز -إلى العشر- وهم يدعون إلى مساعدة الأطفال بتقصي أسباب الجنوح، لضمان أن يعيشوا بهدوء وسلام من خلال فهم الأسباب التي تقودهم إلى الجنوح، وبذلك يمكننا أن نجعلهم مواطنين صالحين ومنتجين. [ ص: 116 ]
من ناحية أخرى فإننا كثيرا ما نسمع قصصا عن نوابغ أبطالها من الأطفال الذين لم تتعد أعمارهم أصابع اليد الواحدة أحيانا، فعلى سبيل المثال اشتهر طفل برازيلي لم يتعد من العمر الرابعة التحدث بتسع لغات، وغير ذلك من نماذج مشرفة في عالم الطفولة البريء.. فهل يرجع ذلك إلى نبوغ هـؤلاء الأطفال أم إلى تشجيع الآباء واهتمامهم الزائد بـهم، أم هـو نتيجة التحاقهم مبكرا بالمدرسة واهتمام مدرسيهم بهم، أم أن هـناك عوامل أخرى مساعدة؟
ونتيجة لهذه التساؤلات العديدة، ومن أجل جيل أفضل، انتشرت أخيرا نظرية جديدة عكس النظرية السائدة التي تحدثنا عنها منذ قليل، هـذه النظرية الجديدة تقول: لماذا ننتظر ثلاث أو أربع سنوات ثم نبدأ في تعليم أطفالنا؟.. صاحب هـذه النظرية هـو د. «جلين دومان» الذي ألف كتابا عن التعليم المبكر للأطفال، وقد ترجم إلى لغات عدة، ونظرا للفكرة الجديدة التي ينادي بها الكتاب فقد دفع عددا كبيرا من الآباء إلى اقتنائه.
بدأ د. «دومان» في تطبيق نظريته عمليا، وذلك بأن افتتح مدرسة في مدينة فيلاديلفيا أطلق عليها اسـم (من أجل أطفال أفضل) ، وسـرعان ما افتتح فروعا أخرى في مدينتي هـيوستون ، ولوس انجلوس ، ويتم الآن إنشاء مدرسـة مماثلة في واشـنطن ، وتنقسم الدراسة في هـذه المدارس إلى نوعين: [ ص: 117 ]
النوع الأول:
عبارة عن مناهج لتعليم الآباء والأمهات وسائل التعليم المبكر لأطفالهم، ويستمر المنهج حوالي أسبوع، مما يدفع الآباء والأمهات إلى تطبيق هـذه الوسائل لتعليم أطفالهم في المنـزل منذ مراحل حياتهم الأولى، ويمكن الحصول على هـذه الدورات التدريبية مسجلة على شرائط فيديو.
وهنا لا بد من التساؤل عما يمكن تطبيقه من هـذه النظرية الجديدة في بلادنا وعن مدى نجاحها في إبراز واستغلال طاقات الطفل، وإمكانياته التي قال عنها بعض علماء النفس: إنها بلا حدود، ومعرفة ما إذا كان التعليم المبكر يحرم الطفولة متعتها وتلقائيتها، وعن أثر التعليم المبكر في خلق جيل من العباقرة، وعما إذا كان تعليم اللغات الأجنبية للطفل في سن مبكرة مفيد له أم مضر، خاصة وأن الآراء حول القضية تتناقض إذ إن هـناك من يعتبر الطفل قادرا على الاستيعاب في سن مبكرة، في حين يرى آخرون أن عقل الطفل عاجز عن استيعاب ما لا طاقة له على استيعابه.
إن التطور الديناميكي للذكاء في الأطفال طبقا لتقسيم العالم النفسي السويسري «جين بيوجيب» ، يمر بأربع مراحل متتالية، تعتمد كل منها على المرحلة السابقة لها، ويختلف معدل تطور تفكير الطفل وذكائه خلال هـذه المراحل الأربع حسب عوامل التركيب الوراثي للطفل والبيئة المحيطة به.
فالمرحلة الأولى، وهي المرحلة الحسية الحركية تبدأ من لحظة الولادة [ ص: 118 ] وحتى سن العامين، ففي هـذه المرحلة يبدأ الطفل في تحويل الانعكاسات الحركية البدائية -كمحاولة وضع الأشياء في الفم وامتصاصها- على أفعال هـادفة لمعرفة طبيعة هـذه الأشياء وتصنيفها إلى أشياء قابلة أو غير قابلة للامتصاص، وهكذا.. وخلال هـذه المرحلة أيضا يبدأ الطفل في تكوين المعاني للأشياء المحيطة به، ومعرفة أن هـذه الأشياء موجودة ومنفصلة عن جسمه؛ وينمو هـذا التفكير لدى الطفل بنمو قدراته الحسية والحركية، فيبدأ في تكوين رابطة بين حاستي البصر واللمس. وفي نهاية العام الثاني من عمره يكون العالم الخارجي المحيط به -سواء الأشخاص أو الأشياء- معروفا لديه إلى حد كبير، وفي هـذه المرحلة العمرية يستطيع الطفل التعرف على الأشياء حتى إذا نقلت من مكانها المعتاد.
وبالنسبة للمرحلة الثانية، فتبدأ في نهاية السنة الثانية حتى الخامسة، وهي المرحلة التي يتعين على الطفل أن يلعب فيها بكل مشاعره، فباللعب يبني شخصيته وينمو عقله.
وبالنسبة للمرحلة الثالـثة، التي تبدأ في نـهاية السـنة الخامسـة أو بداية السادسة وحتى سن الحادية عشرة، فإنها تتميز أساسا بتطور العمليات العقلية التي تبنى على المنطق ومعرفة الأرقام والعلاقات الحسابية المختلفة.
أما بالنسبة للمرحلة الرابعة، والأخيرة فهي تبدأ من سن الثانية عشرة وحتى سن النضوج، التي يطلق عليها مرحلة المراهقة، وهي تتميز [ ص: 119 ] بالمقدرة على التصور وسعة الخيال والتفكير المنطقي، والتفرقة بين ما هـو مثالي وما هـو واقعي، وأيضا المقدرة على نقد الذات.
وهناك حقيقة علمية ربما تتوه عن أذهان بعض الآباء، وهي أن الحركة البسيطة التي يقوم بها الطفل بعد ولادته تساعد على نموه الجسماني، وبمرور الأيام وزيادة حركته واشتغاله باللعب الملائمة لعمره تتنبه مراكز معينة في المخ لتزيد من إفراز الهرمون الخاص بنمو وتطور الجسم، بينما يقل حجم ونمو الطفل الخامل.. أما بالنسبة للنضج العصبي للطفل، فإن بعض أجزاء من جهازه العصبي لا يكتمل نموها إلا خلال العامين الأولين من العمر، فباللعب أيضا تقوى عضلات الصغير وتتناسق حركة أطرافه.
إذن فاللعب من أهم الوسائل التي يعرف الطفل من خلالها العالم من حوله وينمي علاقته بالآخرين، كما أن الأطفال الذين يمارسون اللعب في وقت مبكر يكونون اجتماعيين وأكثر قابلية لحل مشاكلهم بأنفسهم، ويكونون أكثر قدرة على التركيز، فقد أتاح اللعب لحواسهم فرصة للتدريب الحقيقي والسليم.. أما بالنسبة للتعليم المبكر، فإنه يعتقد أن أفضل وسيلة لتعليم الطفل مبكرا هـو إيهامه بأن المسألة كلها «لعبة مثيرة» يستمتع بها ويقدم عليها، فبإمكان الأم أن تعلم طفلها الذي يبلغ من العمر سنتين القراءة، وذلك بالنظر إلى الصورة المرافقة للكلام، فطبيعة المخ [ ص: 120 ] البشري تسمح للطفل خلال السنوات الست الأولى من عمره باستيعاب الحقائق بمعدل مذهل.
أما بالنسبة لمقدرة الطفل على تعلم اللغات الأجنبية فهي مقدرة فائقة خاصة إذا تعلمها في سن مبكرة، مما يزيد من إتقانه لها، فكلما تأخر في تعلمها زادت صعوبتها.
وأفضل سن لتلقي الصغير لغة إضافية إلى جانب لغته الأصلية هـو الثانية من العمر، وذلك أيضا عن طريق اللعب، فالطفل الذي تهتم به أمه وتعلمه في مرحلة ما قبل المدرسة وتستعين بوسائل الإيضاح في تعليمه بتفوق على زملائه في الدراسـة، كما تزيد نسـبة ذكائه، كما أن تعميم الدراسة السمعية البصرية في جميع المدارس وتطبيقها على الأطفال من سن السادسة خطوة مهمة، لثبوت نجاحها في الكثير من المدارس، وذلك لما تقوم به هـذه الطريقة من تأكيد المعلومة عن طريق الصوت و الصورة.
ولكي تتضح الصورة أمامنا لا بد من ذكر مراحل تطور هـذا المجال، التي يمكن تقسيمها طبقا للطابع السائد في كل مرحلة إلى أربع مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة التأسيس:
وتتسم بالبحوث الطبية خاصة في المخ وعمله و العوامل المؤثرة في أدائه الوظيفي بالتركيز على حالات ضعف أو عدم القدرة على القراءة، ومن بين الأطباء من صمم [ ص: 121 ] برامج تربوية تعليمية لمن يعاني من تلك المشكلة مثل "هنشلود" الذي أطلق على هـذه الحالة «عمى الكلمة».
المرحلة الثانية: مرحلة التحول أو التغيير في الاتجاه:
التي صممت فيها أساليب للتشخيص من أجل التعليم، وكذلك وضعت فيها برامج التعليم الخاصة بمثل هـؤلاء الأفراد.
المرحلة الثالثة: مرحلة النمو السريع و الواسع للبرامج المتخصصة:
ومع بداية هـذه المرحلة، في عام 1963م، تم إعطاؤها الاسم الرسمي: «صعوبات التعلم» ، وفي هـذه المرحلة كثفت البحوث العلمية التي تهدف إلى كشف طبيعة وأبعاد المشكلة وتصميم البرامج التربوية على أسس عملية التعلم ومواجهة "صعوبات التعلم".
المرحلة الرابعة: المرحلة المعاصرة:
من 1980م وحتى الآن، التي تتصف بالاتجاهات الحديثة في تربية وتعليم من يواجهون «صعوبات التعلم» في جميع المراحل المبكرة إلى ما فوق الجامعية.
كما اتسع الاهتمام ليتعدى النواحي الأكاديمية إلى النواحي النفسية والوجدانية والاجتماعية للفرد، سواء أثناء التعليم أو في مجالات الحياة الأخرى، كما أن التقنية المتطورة قد وظفت في مجالات تربية وتعليم من يعانون من «صعوبات التعلم» في مجالات الدراسة والعمل. وظهرت في هـذه الفترة الاستراتيجيات والأساليب المتخصصة والمجربة عمليا وذات القاعدة العلمية الراسخة. [ ص: 122 ]
وعليه، أصبح المجال يعرف بمجال «صعوبات التعلم» ، والمصطلح يشير إلى تلك الظاهرة، التي تبدو على بعض الأفراد رغم تمتـعهم بذكاء عادي أو فوق العادي، ورغم سلامة أدوات التعليم المعروفة كالسمع والبصر واللمس، ورغم وجود المعلم والكتاب وسلامة العواطف والسلوك.
أما «بطء التعلم» فهو مصطلح جاء عارضا نتيجة لجهود علمية حاولت تفسير ظاهرة «صعوبة التعلم». فمن المعروف أن التعليم يبنى على أسس علمية نظرية مثل النظرية السلوكية ونظرية النمو، على سبيل المثال لا الحصر، فمن العلماء من اتخذ من نظرية النمو قاعدة أساسية لبحوثه العلمية، وعليه فسر ظاهرة تخلف التحصيل الدراسي على أنها ناتجة عن قصور في نمو ناحية أو أكثر من نواحي النمو الضرورية لمهارات التعلم، وعلى ذلك فإن الوقت عامل مهم.. وبمرور الوقت، وقد قدره بعضهم بسنتين، تنمو مهارات الاستعداد للتعلم وتنحل المشكلة. وأطلقوا على الحالة «بطء التعلم» وعلى التلاميذ «بطيئي التعلم».
ولحل هـذه المشكلة سارع أولياء الأمور والأطباء، وعلماء النفس، وعلماء التربية، والتربويون، في أواخر الستينيات الميلادية وأوائل السبعينيات إلى تصميم البرامج والأساليب التي تأخذ فكرة تأخر النمو هـذه بعين الاعتبار، ولكن سرعان ما اتضح للجميع أن «صعوبات التعلم» أمر أكثر وأعمق من كونه مجرد تأخر في النمو ينتج عنه بطء في التعلم. [ ص: 123 ] ولكثرة انتشار ذلك في الكتب التربوية والنفسية المنشورة في ذلك الوقت، بقي المصطلح عالقا في أذهان كثير ممن تلقوا تعليمهم في ذلك الوقت ثم انقطعوا من حينها عن متابعة تطور الدراسات في هـذا المجال.
وفي عام 1984م، قام العالم المشهور، في مجال التربية الخاصة «كيرك» بتأليف كتاب بالاشتراك مع «كالفنت» أسمياه «صعوبات التعلم النمائية والأكاديمية»، وهو يعد من الكتب الكلاسيكية في هـذا الحقل، شرحا فيه طبيعة الصعوبات التي يواجهها الأطفال قبل وأثناء المرحلة الأكاديمية.
أما عن مدى انتشار «صعوبات التعلم» بين الطلبة فإن الإحصاءات من أمريكا تدل على أن ما يقرب من 5 % من الطلاب يعانون من هـذه المشكلة. ولا تقتصر على مرحلة دون أخرى، فالمشكلة حياتية تلازم الفرد طوال حياته، ولكن مع التدخل التربوي المتخصص يمكن للفرد أن ينال أعلى الشهادات رغم وجود المشكلة.
إن مشكلة «صعوبات التعلم» لا تقتصر على الشخص الذي يعاني منها مباشرة، بل يمتد أثرها إلى الأسرة والمعلمين وكل من يهمه شأن ذلك الفرد. فعلى الرغم من أن الفرد هـو الذي يواجه المشكلة مباشرة، وتؤثر على حالته النفسية وعلى وضعه الاجتماعي، إلا أن أولياء الأمور يعيـشون في ألم وقلق وحيـرة خاصة في البلدان التي لا تقدم فيها الخدمات المتطورة لمثل هـؤلاء الأبناء. أما المعلمون فينقسمون إلى أقسام، [ ص: 124 ] فمنهم المعلم الواعي والحريص على مصلحة طلابه، الذي يعيش في حيرة من أمره، فهو يعرف أن قصور تحصيل التلميذ لا يعود إلى إهماله أو إهمال أسرته ولكنه مرتبط بأمر آخر. وهناك المعلم الذي يعزو الأمر وبكل بساطة إلى الإهمال، وكفى، فيريح باله ويخرج من حيرته.
ومن حيث تدرج «صعوبات التعلم» ، فإنها تتدرج من حالات بسيطة إلى حالات شديدة. فبينما نجد أن بعض الأطفال يجد صعوبة في القراءة، وما يتعلق بها من مهارات، إلا أنه لا يعاني بنفس الدرجة من الصعوبات في الحساب والرياضيات. وهناك بعض آخر يعاني من «صعوبات التعلم» في جميع المواد، وربما أيضا في المهارات الاجتماعية، وهذه الحالة تتصف بالشدة والصعوبة.