المبحث الثالث: رحلة النساء في طلب الحديث وأدائه
إن القرون الثلاثة الفاضلة، كانت الحقبة الذهبية لعلم الحديث، فيها انتشر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعم جميع الأمصار، وفيها جمعت رواياته ودونت، كما صنفت أعظم كتب السنة على الإطلاق، وكان طلب الحديث شرف لا يدانيه شرف، واتخذت الرحلة وسيلة له، واعتبرت معيار الإتقان والتثبت، إذ كانت المشاق والمصاعب التي يكابدها الطالب في تلك العصور شهادة على أهليته وانتسابه إلى هـذا العلم النبيل.
وقد ورد عن الزهري قوله: الحديث ذكر يحبه ذكور الرجال [1] .
والذكر في اللغة [2] : العظيم، ومن بين أسباب صعوبته الرحلة في طلبـه، تلك المهـمة الشاقـة، حـتى على الأجـلاد من الرجال، لـذلك لا غرابة أن يكون سهم المرأة المهتمة بالرواية ضئيلا في هـذه المنقبة -كما ذكرنا- إضافة إلى كونها راعية في بيتها، بنتا كانت أو زوجا أو أما، متحملة كافة مسئولياته، فضلا عن أن أسفارها ورحلاتها مرتبطة بتوفر السبل الشرعية الميسرة لها، وهذا ما يضاعف مشقة المهمة.
ولكن من خلال استنطاق النصوص المتوفرة لدينا من كتب التراجم والطبقات والتاريخ والسير، حصلنا على مجموعة لا بأس بها [ ص: 123 ] من الحقائق، تنبئنا عن أحداث مهمة وحركات نشطة في مسألة الرحلة عند النساء، ولا ندعي أن هـذه النصوص تعطينا التصور الكامل والشامل الذي تستشف منه دقائق الأمور، ولكن فيها الدلالة السريعة والقوة في آن واحد على أن المرأة لم تكن بعيدة عن رحاب الرحلة عبر هـذه القرون، على تفاوت في الكثرة والقلة بين المراحل المختلفة.
1- الرحلة في عصر النبوة
كانت الرحلة في طلب الحديـث قائمة في عهده صلى الله عليه وسلم ، فكان بعض من يسـمع بالرسـالة الجديدة يسـافر إلى الرسـول صلى الله عليه وسلم ليأخذ منه تعاليم الإسلام، ثم يرجع إلى قومه يبلغهم ما تعلمه في موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم [3] .
فالرحلة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المفهوم كانت عامة، تشمل مبادئ الدين كلها قرآنا وسنة... فبعد فتح مكة أقبلت وفود العرب من سائر أنحاء الجزيرة [4] ، وكان عليه الصلاة والسلام يرحب بالوافدين، يزودهم بنصائحه وإرشاداته، ويعلمهم الإسلام، وتنبئنا [ ص: 124 ] المصادر عن وجود نساء مصاحبات لتلك الوفود [5] .، فكانوا يسألونه ويجيبهم، وقد سمعوا حديثه وشهدوا بعض مواقفه، وشاركوه في العبادة، ورأوا كثيرا من تصرفاته، فكان لهذه الوفود أثر عظيم في نقل السنة وانتشارها. وقد أسهب ابن سعد في طبقاته في ذكر من روت من النساء على النبي صلى الله عليه وسلم من مختلف القبائل. وذكر من جاءته للبيعة ونقلت عنه بعض الأقوال أثناء تلك الأحداث المهمة.. ولعل قصة الصحابية قيلة بنت مخرمة العنبرية [6] . تعطينا تصورا واضحا عن قدوم النساء على النبي صلى الله عليه وسلم وتحملهن عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد كانت قيلة مع وفد بني بكر بن وائل برفقة وافدهم حريث بن حسان البكري.
وإن كانت هـذه الوفود بنسائها رحلت للتحصيل والتعليم وأدت ثمار الرحلة، فقد شهدت أيضا رحلات التبليغ والأداء، أو ما يسمى بالهجرة الأولى ثم الثانية إلى الحبشة ، والهجرة إلى المدينة.. وإن كان الغرض من هـذه الرحلات في أول الأمر الحفاظ على الدين، إلا أنها أصبحت فيما بعد، تؤدي أغراضا علمية أيضا. [ ص: 125 ]
الهجرة إلى الحبشة
قد لقي أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من العذاب أمرا عظيما في أول البعثة، ورزقهم الله تعالى على ذلك من الصبر أمرا عظيما، فلما كثر المسلمون واشتد العذاب والبلاء أذن الله تعالى لهم في الهجرة إلى أرض الحبشة، فكان أول من خرج من المسلمين فارا بدينه إلى أرض الحبشة، عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم [7] ... وتذكر لنا الكتب التي أرخت لهذه الفترة أسماء عديدة لنساء جئن برفقة أزواجهن أو آبائهن إلى الحبشة هـربا من البطش وحفاظا على الدين [8] .، وكان النجاشي ملك الحبشة قد أسلم ولم يقدر على إظهار ذلك خوف الحبشة.
ولا نشك أبدا في أن حركة الدعوة الإسلامية والعلمية كانت نشطة في الحبشة على أيدي المهاجرين من المسلمين، نساء ورجالا، ثم إن هـؤلاء الصحابة الكرام لم يكونوا في عزلة عما كان يحدث في مكة أولا ثم في المدينة بعد الهجرة النبوية، ولا ريب أنهم كانوا متتبعين لكل ما يجري للمسلمين من أحداث كالغزوات، أو ما ينزل من القرآن، كذا السنن المحفوظة عنه صلى الله عليه وسلم ، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 126 ] يرسل الهدايا إلى الملك النجـاشي [9] .، ثم أنه صلى الله عليه وسلم بعث من يزوجـه بأم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها [10] .، وفي هـذا دلالات وإشارات تشهد وتؤكد أن الاتصالات بين المدينة والحبشة كانت نشطة، واستفاد منها المسلمون في التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم وإيصال تعاليمه إلى سكان البلاد في الحبشة [11] ..
2- الرحلة بعد عصر النبوة:
رحلة الصحابيات
إن رحلة النساء أخذت شكل الأداء والتبليغ، وشكل التحمل والتحصيل المعروف بين المحدثين.
أ- رحلة الأداء والتبليغ
تفرق علماء الصحابة، كذا الصحابيات، في البلدان، ينشرون الحديث ويروون السنن، وقد كان لرحلاتهم هـذه أثر جليل في المحافظة على السنة وجمعها، وتأسيس مراكز علمية في مختلف الأمصار كانت منارات للعلم ومدارس تقصد لطلب الحديث.. ومساهمة النساء من الصحابة لا يستهان بها، فقد رحلت كبريات الصحابيات [ ص: 127 ] إلى الأمصار، تحدث أهلها بما سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو رأته منه وفقهته عنه، منهن من أقامت حتى موتها في البلد الذي رحلت إليه، تعلم الرجال والنساء، تبث فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه.. ولقد كانت زيارة الصحابية لمدينة من المدن الإسلامية كافية لأن تجمع أهل المدينة كلها وخصوصا من النساء، تشير الأصابع أن هـذه صحابية تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونذكر هـنا بعض الصحابيات ممن انتقلن إلى الأمصار المختلفة.
1- أم عطية الأنصارية [12]
كانت من فقهاء الصحابة [13] ، مروياتها رضي الله عنها كثيرة منثورة في الكتـب السـتة، وقد ذكر ابن عبد البر [14] أن أم عطية تعد في أهل البصرة ، وذكرت التابعية الجليلة حفصة بنت سيرين أن أم عطية قدمت البصرة فنزلت قصر بني خلف [15] .. وفي البصرة اشتهرت أم عطية بفقهها وروايتها وفهمها للحديث النبوي وأحكامه، فكان لها الفضل في انتشار الأحاديث والأحكام، وكان أجلة التابعين [16] يأخذون عنها الرواية والفقه.
2- أسماء بنت يزيد بن السكن [17] : وهي ثالث امرأة راوية [ ص: 128 ] للحديث بعد أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة [18] رضي الله عنهن، وقد عرفت أسماء برجاحة العقل، وكانت من فاضلات الصحابيات، كثيرة الدخول على أمهات المؤمنين، ملازمة للبيت النبـوي، زد على ذلك حبـها للعـلم والسؤال [19] ، وقد شهد لـها ابن عساكر [20] بحسن الرواية.. تجمع مروياتها بين التفسير وأسباب النزول والأحكام والشمائل والمغازي والسيرة والفضائل.. شاركت في معركة اليرموك، ومن ثم ألقت رحالها في دمشق ، وأخذت تحدث بها.. ذكر ابن عساكر في تاريخه نقلا عن أبي زرعة قال: حدث بالشام من النساء أسماء بنت يزيد بن السكن... [21] .
3- أم المؤمنين عائـشة رضي الله عنها :
تكلمـنا على مكـانة أم المؤمنين عائشة بين الصحابة وأهمية ما حملته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لدى من لازمه عليه الصلاة والسلام من الصحابة، فما بالك بمن لم يره ولم يسمع منه، فلا شك أن حلول أم المؤمنين بمصره حدث عظيم وشرف كبير يتسابق إليه الجميع، وهذا ما كان من أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في دخولها البصرة مع طلحة والزبير [ ص: 129 ] للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه .. فرغم أن خروج أم المؤمنين كان للإصلاح ولإخمـاد الفتنة، وأنه عنـدما انتـهت المعـركة وحدث ما هـو معلوم رجعت إلى المدينة ، إلا أن المدة التي أقامتها رضي الله عنها في البصرة كانت كافية ليستفيد منها الناس رجالا ونساء في سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان أحكامه وقضاياه، وقد كانت فرصة لأهل البصرة وشرفا أن تحل عليهم محدثة عصرها وحاملة لواء العلم، ورابع أكثر راوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقد ورد في ترجمة صفية بنت الحارث: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نزلت عليها في قصر عبد الله بن خلف بالبصرة، فسمعت منها صفية ونساء أهل البصرة [22] .
ولم تكن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين الوحيدة التي خرجت من المدينة بغية مصر من الأمصار، لسبب ما، وكان دخولها البلد الذي قصدته فرصة للتحديث عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد رحلت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها إلى الشام لزيارة أخيها معاوية بن أبي سفيان صلى الله عليه وسلم وهو خليفة، وكانت رضي الله عنها تحظى بالإجلال والتقدير خاصة في خلافة أخيها، فبدهي أن يكون وجودها في الشام خبرا تتناقله الأفواه وتتحين له الفرصة للدخول عليها والسماع منها لمن اجتهدت في لقياها، أما لغيرها فرؤيتها رضي الله عنها تحسب لها [ ص: 130 ] وتسجل.. وقد ذكر ابن عساكر أم المؤمنين أم حبيبة ضمن من حدث من النساء في الشام [23] .
فهذه أمثلة لصحابيات هـن أكثر النساء حفظا ورواية للحديث النبوي الشريف، ورحلن من المدينة للتحديث والتعليم، ودونت أحاديثهن ضمن مرويات أهل البلدة التي رحلت إليها كل واحدة، فبدل أن يرحل إليها الناس، رحلت هـي إليهم، وقدمت إليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عناء، وحققت لهم الإسناد العالي، ونشرت العلم والفقه، وتشرف من لم يتيسر له الخروج من بلده بالرؤية والسماع والالتحاق بركب التابعين والانتساب إلى أحسن القرون.
- أمثلة أخرى:
ورحلة النساء بهذا المنظور لا تقـتصر على أسمـاء وأم عطية، فقد سجلت لنا المصادر أن عددا كبيرا من الصحابيات رويـن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشرن في الأمصار، فقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل في (علله) [24] من روى من النساء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الشام، وأهل البصرة، وأهل الكوفة.
فذكر من أهل الشام [25] غير أسماء: الصماء بنت بسر ، أم الدرداء الكبرى ، [ ص: 131 ] وأم أيمن .. ومن أهل الكوفة
[26] : ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت اليمان ، أم سليـمان بن عمرو بن الأحـوص ، أم الحصـين الأحمسـية يسـرة ، أم مسلم الأشجـعية أخـت عبـد الله بن رواحة ، وقتيلة بنت صيفي، أم طارق مولاة سعد بن عبادة ، سلامة بنت الحر ، أم ورقة .
ثم أورد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البصرة
[27] ، فذكر: ميمونة بنت كردم ، أم إسحاق ، أم عطية الأنصارية ، قيلة ، بهيسة ، عجوز من بني نمير، عجوز من الأنصار، جدة حشرج بن زياد ، امرأة خالد بن عبد الله بن حرملة. [ ص: 132 ]
فهؤلاء النساء قد سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وصاحبنه، ثم توزعن في الأمصار حاملات معهن الموروث النبوي يبثثنه بين الناس علما وفقها.. ثم إن وجود صحابية في بلدة من البلدان يصبح وازعا وفرصة للتحديث بما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد الصحابة، إضافة إلى كون البيئة العلمية في المدينة آنذاك كانت لا تدانيها بيئة في أي مكان آخر، وبالتالي الصحابية التي لم تكن تعد من الراويات أو المكثرات في المدينة، يصبح أي قول سمعته منه صلى الله عليه وسلم أو أي فعل رأته أو صفة خلقية أو خلقية له عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى أهل هـذا البلد، خبرا يأخذ بالألباب، ومن ثم تؤدي الصحابية واجب التبليغ، فتنفع من سمع، لأن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دين ودين...
ويندرج تحت هـذا أيضا نساء الصحابة وبناتهم وأمهاتهم وجواريهم من الذين انتقلوا إلى الأمصار، سواء للفتوح أو للقضاء والتعليم... فقد ذكر العجلي: أنه خرج من المدينة قرابة ألف وخمسمائة من الصحابة، توزعوا في الأمصار [28] ، فلا شك أن منهم صحابيات رأين النبي صلى الله عليه وسلم وسمعن منه، أو تابعيات رأين صحابة كبارا وسمعن منهم، ومع أن كتب التراجم والتاريخ لا تذكر إلا اليسير جدا من أخبار هـؤلاء النساء، لكن السير الطبيعي لحياتهن يلزم منه تضمن ما ذكرنا من أمر تحديثهن في البلدة التي انتقلن إليها.. وهكذا تتحقق [ ص: 133 ] ثمار الرحلة ومقاصدها عرضا واتفاقا.
الرحلات العلمية والحج عند النساء
منذ العهد النبوي كان الحج موسما سنويا للعبادة من جهة وملتقى علميا من جهة أخرى، فكان الناس رجالا ونساء يترقبون الشهر الحرام حتى يلتقوا بمن يزودهم بالعلم ويفقههم في دينهم.
حجة الوداع
كان لهذه الحجة أثر عظيم في نشر الحديث، حيث إنه حضر هـذا الموسم خلق كثير جاءوا من مختلف النواحي، وقد وصل عددهم إلى أربعين ألفا من رجل وامرأة [29] ، حيث ألقى فيهم النبي صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة جمع فيها أحكاما غزيرة وسننا كثيرة، ووضع من آثار الجاهلية ما أبطله الإسلام، ولكثرة الناس في ذلك اليوم، اتخذ ربيعة بن أميـة بن أبي الصلت مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم [30] ، وهي خطبة بين فيها صلى الله عليه وسلم مناسك الحج، فلم يترك شيئا لم يكن بينه للناس إلا بينه وأظهره، فكانت هـذه الخطبة الحافلة في الجمع الحاشد من أكبر العوامل في ذيوع السنن الكثيرة بين القبائل.. وقد ساهمت المرأة المسلمة ممن حضر هـذه الحجة وسمع الخطبة في تبليغ كلام المصطفى [31] متمثلة قوله عليه الصلاة [ ص: 134 ] والسلام : ( فليبلغ الشاهد الغائب ) [32] ، بعد أن انتقلت من موطنها وجاءت إليه صلى الله عليه وسلم تنشد تعاليمه وهديه...
الرحلة وحج النساء بعد عصر النبوة
عرفنا فيما سبق رحلة الصحابيات، شكلها، أغراضها، وفوائدها، بقي أن نعرج على دور الحج في الرحلة والعلاقة بينهما عند غيرهن.
كان الناس رجالا ونساء يتوافدون إلى المدينة المنورة بعد أداء المناسك أو خلالها، يجتمعون إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون ويستفتون ويسمعون الحديث، وكانت نساء الأمصار يتحين الفرص للدخول على أمهات المؤمنين خاصة، إذ كانت حجراتهن رضي الله عنهن جميعا لا تخلو من زائرات يردن السماع والفتوى، وكانت كبريات الصحابيات أيضا مرجعا هـاما للحديث لهؤلاء النساء الوافدات، فإذا علمنا أن أمهات المؤمنين لزمن الحصر في بيوتهن، أي في المدينة امتثالا ( لقوله صلى الله عليه وسلم : هـذه ثم ظهور الحصر ) [33] ، بعد أن حج بهن، إلا ما كان من عائشة في خروجها إلى البصرة، وأم حبيبة في زيارتها لأخيها في دمشق، فيلزم من هـذا أن من روت عن بعض أمهات المؤمنين من غير سكان المدينة أو مكة أنها رحلت إليها، وخاصة إذا ثبت بالقرائن أن السماع كان أثناء الحج، أو أن الراوية تعدد إحرامها من بلدتها، مما يشير إلى وجود رحلات علمية كانت نشيطة أثناء [ ص: 135 ] الحج، لاجتمـاع الناس من مختلف الأمصار واتصـالهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا غرابة في التركيز على المدينة، فقد كانت مركز الإشعاع العلمي الوحيد آنذاك، ومحط أنظار العلماء الرواة، يجدون بغيتهم في السماع والتثبت لدى من تحمل عنه صلى الله عليه وسلم أولا ثم من تحمل عن صحابته الأخيار رضي الله عنهم وخاصة أمهات المؤمنين، وبالتحديد من تأخرت وفاتهن كعائشة وأم سلمة.
ولبيان اقتران الرحلة بالحج وتلازمها، نورد هـذه الأمثلة:
1- أم سالم بنت مالك الراسبية البصرية [34] ، وهي تابعية من الثانية، قد أدركت أم المؤمنين عائشة وروت عنها، وفي تهذيب التهذيب وغيره [35] : أحرمت أم سالم من البصرة سبع عشرة مرة.. فهذه التابعية رحلت إلى الحجاز مرات عديدة، وتحملت عن عائشة رضي الله عنها ، فلا نتوقف كثيرا لنجزم أن ذهابها المدينة كان أيضا للعلم، والحج كان أنسب وقت للطلب، إذ كل عقبات التنقل بالنسبة للمرأة تذلل أثناء الحج، للتأهب العام الذي يكون الناس عليه للقيام بالشعائر، وتأمن المرأة من خلاله على نفسها، وتؤدي مهمتها العبادية أحسن أداء، فقد كان الحج بالنسبة لطلاب العلم المهتمين بالحديث خاصة ملتقى سنويا للتحمل والأداء والحفظ والتثبت وحيازة العوالي من الأسانيد. [ ص: 136 ]
2- جسرة بنت دجاجة [36] : تابعية ثقة، روت عن أبي ذر سماعا عن عائشة ، كما روت عن علي بن أبي طالب ، وأم سلمة رضي الله عنهم جميعا.. وقد أخبرت جسرة عن نفسها أنها اعتمرت نحوا من أربعين عمرة [37] ، ورأت أبا ذر بالربذة [38] . فهذه الراوية التابعية جعلت من الأربعين عمرة التي أدتها بعثات علمية، تسمع من خلالها عمن لقيتهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقها إلى البقاع المقدسة كالربذة عند سماعها أبا ذر، أو في مكة أو المدينة عندما سمعت من أم سلمة، وهي من أهل الكوفة. فأسفارها الأربعون وإن سميت عمرة فما هـي إلا رحلات علمية في طلب الحديث.
- وقد روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خصوصا في مواسم الحج جيل من النساء من مختلف الأمصار، ورواياتهن تشير إلى أن السماع أو اللقيا كانت أثناء مناسك الحج، أو أنهن دخلن عليها، وسألنها في مختلف القضايا.. ولا غرابة أن تكون معظم رواياتهن عن عائشة، حيث إن من رغب في حيازة علم ركز على أشهر حامل له، وهذا ما توفر فيها رضي الله عنها ، وفي تلميذاتها من بعدها: عمرة بنت عبد الرحمن، وعائشة بنت طلحة ، وغيرهما.
وهذه بعض النصوص التي تفيدنا في أمر سماع النساء في موسم الحج، أو انتقالهن إلى المدينة المنورة للزيارة. [ ص: 137 ]
- ذقرة بنت غالب الراسبية البصرية [39] ، أم عبد الرحمن بن أذينة قاضـي البصرة، روت عن عائشة قالت: كنا نطوف البيت مع أم المؤمنين، فرأت على امرأة بردا فيه تصليب، فقالت: (اطرحيـه، اطرحيـه، فـإن رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم كـان إذا رأى نـحـو هـذا قضبه) [40] .
- زينب امرأة قيس بن أبي حازم [41] : روت عن عائشة رضي الله عنها ، وروى عنها زوجها قيس بن أبي حازم ، وهو كوفي، ما كان بالكوفة أحد أروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.. وامرأته وهي تروي عن عائشة، لا شك ذهبت إليها المدينة وسمعت منها هـناك.
- وذكر ابن سعد [42] : " أن تميمة بنت سلمة أتت عائشة في نساء من أهل الكوفة، قالت: فسألتها امرأة منا: المرأة تصيب من بيت زوجـها شيـئا بغير إذنه، فغضبت وقطبت وساءها ما قالت، وقالت: لا تسرقي منه ذهبا ولا فضة، ولا تأخذي منه شيئا " .
- أم الكرام : حجت فلقيت امرأة بمكة كثيرة الحشم، ليس عليها حلي إلا الفضة، فسألتها، فقالت: كان جدي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه وعلي قرطان من ذهب، فقال: شهابان من نار [43] . [ ص: 138 ]
وأم الدرداء الصغرى هـجينة العالمة الفقيهة زوج أبي الدرداء ، تروي عن عائشة أم المؤمنين [44] ، ومن المعلوم أن عائشة لم تقدم دمشق أصلا كما ذكر الذهبي في السير [45] ، وأن أم الدرداء كانت تقطن دمشق ، وقد حجت سنة (83هـ) بينما توفيت أم المؤمنين سنة (58هـ) على الصحيح، فهذا يلزم منه أن تكون أم الدرداء رحلت المدينة في غير حج، وسمعت من أم المؤمنين عائشة.
ونصوص أخرى
[46] فيها دلالة على أن المرأة رحلت لحج أو زيارة فسمعت وروت، وروي عنها، ذكرنا ما يكفي منها لبيان أن الحج كان فرصة ثمينة للنساء للتحصيل والرواية.
وإن لم تشتهر رواية النساء في هـذا، فلأن أصحاب الحديث لهم شروطهم في قبول الروايات واعتمادها، لكن متون الكتب غنية بمثل هـذه النصوص التي قد لا تفيد طلاب الأحكام الشرعية والفتاوى، لكن هـي قيمة جدا لمن يهمه سير الحياة العامة للمسلمين في تلك العهود.. وباستنطاق هـذه النصوص، لا شك نحصل على شكل [ ص: 139 ] الحركة العلمية والاجتماعية.
ثم نلاحظ أن الرحلة في بادئ الأمر، اقتصرت على المدينة لفضلها، ومدار العلم فيها على أمهات المؤمنين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء والرجال، ثم كان أن انتشر كثير من الصحابة عبر الأمصار خاصة المشتغلين بالروايـة والتعليم، ثم بعد وفاة أمهات المؤمنـين أي ما بعد (62هـ) ، نلاحظ أن الرواية بدأت في التخصص، نقصد بذلك أنه أصبح هـناك مراكز علمية غير المدينة كالكوفة ، لأن فيها أصحاب عبد الله بن مسعود ، والبصرة لأن فيها أصحاب أنس بن مالك ، والشام لأن فيها أصحاب معاذ بن جبل وأبي الدرداء ، ومصر فيها أصحاب عبد الله بن عمرو بن العاص ، فبدأ يحدث نوع من التوازن في الرواية، وخف التركيز في الطلب على المدينة إلا لمن علت هـمته وطمحت نفسه إلى الإسناد العالي أو بيان علة أو التحقق من رواية.. وعلى هـذا، طبيعي أن تخف الرحلة وخاصة لدى النساء، لوجود ما يغني من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصرهن.
وشيء آخر يفسر تراجع الرحلة لدى النساء في أواخر القرن الثاني والقرن الثالث، أن هـذه الفترة بالذات هـي عصارة الجهود الأولى، وذروة الجمع والتدوين والتصنيف، وكان روادها الجهابذة من الحفاظ، الأمر الذي لم يترك مجالا للنساء، خاصة وأنه لم تنجب لنا الأمة فيما بعد من كانت مثل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فطبيعي أن تضمر الجهود البسيطة لصالح الجهود الجبارة. [ ص: 140 ]